الفَرعُ الثَّاني: مِن شُروطِ لا إلهَ إلَّا اللهُ: اليَقينُ
يَجِبُ أن يكونَ قائِلُ لا إلهَ إلَّا اللهُ مُستيقِنًا بمَدلولِها يَقينًا جازِمًا؛ فإنَّ الإيمانَ لا يُغني فيه إلَّا عِلمُ اليَقينِ لا عِلمُ الظَّنِّ.
قال اللهُ تعالى:
إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الذِّينَ آمَنُوا بِالله وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا [الحجرات: 15] .
المؤمِنونَ حقًّا همُ الذين آمَنوا باللهِ ورَسولِه، ثمَّ لمْ يشُكُّوا في وَحدانيَّةِ اللهِ تعالى، وصِدقِ نُبوَّةِ نَبيِّه، ووُجوبِ طاعتِهما، بل ثَبَتوا على إيمانِهم ولم يَتزلْزَلوا، فشَرَطَ تعالى في الإيمانِ عدَمَ حُصولِ الرَّيبِ؛ لأنَّ الإيمانَ النَّافِعَ هو الجزْمُ اليَقينيُّ بما أمَرَ اللهُ بالإيمانِ به، والذي لا يَعْترِيه شَكٌّ بوجْهٍ مِن الوُجوهِ
[687] يُنظر: ((زاد العباد)) (ص: 59). .
قال
ابنُ جريرٍ: (يقولُ تعالى ذِكْرُه للأعرابِ الذين قالوا: آمَنَّا ولَمَّا يدخُلِ الإيمانُ في قُلوبِهم: إنَّما المؤمِنونَ -أيُّها القَومُ- الذين صَدَّقوا اللهَ ورَسولَه، ثمَّ لم يَرْتابوا، يقولُ: ثمَّ لم يَشُكُّوا في وَحْدانيَّةِ اللهِ، ولا في نبُوَّةِ نبيِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وألزَمَ نَفْسَه طاعةَ اللهِ وطاعةَ رَسولِه، والعَمَلَ بما وَجَب عليه مِن فرائِضِ اللهِ بغَيرِ شَكٍّ منه في وجوبِ ذلك عليه)
[688] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/ 395). .
وقال
السَّمعاني: (قَولُه تعالى:
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا [الحجرات: 15] أي: صَدَّقوا ولم يَشُكُّوا)
[689] يُنظر: ((تفسير السمعاني)) (5/ 231). .
وقال
ابنُ كثير: (قَولُه:
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ أي: إنَّما المؤمِنونَ الكُمَّلُ
الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا أي: لم يَشُكُّوا ولا تَزَلْزلوا، بل ثَبَتوا على حالٍ واحِدةٍ، وهي التَّصديقُ المحْضُ)
[690] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (7/ 390). .
وقال
الشَّوكاني: (
ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا أي: لم يدخُلْ قُلوبَهم شَيءٌ مِنَ الرَّيبِ، ولا خالَطَهم شَكٌّ مِنَ الشُّكوكِ)
[691] يُنظر: ((تفسير الشوكاني)) (5/ 80). .
وعن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((أشهَدُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ، وأنِّي رَسولُ اللهِ: لا يَلْقَى اللهَ بهما عَبدٌ غَيرَ شاكٍّ فيهما إلَّا دَخَل الجنَّةَ )) [692] أخرجه مسلم (27). .
في هذا الحديثِ شَهِدَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالتَّوحيدِ للهِ، ولنَفْسِه بالرِّسالةِ، وأنَّه صادِقٌ فيما جاءَ به من عنْدِ مَوْلاه، وأخبَرَ النَّبيُّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ أنَّ مَن شَهِدَ بهذه الشَّهادةِ ومات عليها، وهو مُتَيَقِّنٌ مِن مَعناها، وعَمِلَ بمقتَضَاها دونَ شكٍّ أو رِيبةٍ، أدخلَهُ اللهُ الجنَّةَ؛ فأهلُ التَّوحيدِ سَيدخُلون الجنَّةَ، ومَن عُذِّب منهم في النَّارِ، فإنَّه لا يُخلَّدُ فيها؛ لِفَضلِ التَّوحيدِ
[693] يُنظر: ((زاد العباد)) (ص: 61). .
قال ابنُ هُبَيرةَ: (كُلُّ مَن لَقِيَ اللهَ غيرَ شاكٍّ في الكَلِمةِ لم يُحجَبْ عن الجَنَّةِ)
[694] يُنظر: ((الإفصاح)) (8/ 59). ويُنظر: ((فيض القدير)) للمناوي (1/ 96). .
وقال أبو العَبَّاسِ القُرطبيُّ: (ظاهِرُ هذا الحَديثِ: أنَّ مَن لَقِيَ اللهَ وهو يَشهَدُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ وَحْدَه، دَخَل الجَنَّةَ، ولا يَدخُلُ النَّارَ، وهذا صحيحٌ فيمَن لَقِيَ اللهَ تعالى بريئًا مِنَ الكبائِرِ، فأمَّا من لَقِيَ اللهَ تعالى مُرتَكِبَ كبيرةٍ ولم يَتُبْ منها، فهو في مشيئةِ اللهِ تعالى التي دَلَّ عليها قَولُه تعالى:
إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء: 48] )
[695] يُنظر: ((المفهم)) (1/ 199). .
وقال المُظْهِريُّ: (مَن لَقِيَ اللهَ سُبحانَه بالشَّهادتينِ -يعني: بالإسلامِ- مِن غيرِ ترَدُّدٍ وشَكٍّ، فلا يُحجَبُ عن الجَنَّةِ البتَّةَ)
[696] يُنظر: ((المفاتيح في شرح المصابيح)) (6/ 252). .
وعن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال له:
((اذهَبْ بنعلَيَّ هاتينِ، فمَن لَقِيتَ مِن وراءِ هذا الحائِطِ يَشهَدُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ مُستَيقِنًا بها قَلْبُه، فبَشِّرْه بالجَنَّةِ )) [697] أخرجه مسلم (31). .
بمعنى: أنْ يسْتَيْقِنَ المُسلِمُ يقينًا جازمًا بمدلولِ كَلِمةِ التَّوحيدِ، وهو أنَّه لا مَعبودَ بحَقٍّ إلَّا اللهُ، دونَ تسرُّبِ شَيءٍ من الشُّكوكِ التي يبْذُرُها شياطينُ
الجنِّ والإنسِ؛ لأنَّها لا تُقبَلُ مع شَكٍّ ولا ظنٍّ، ولا تردُّدٍ ولا ارتيابٍ، بل يجِبُ أنْ تقومَ على اليَقينِ القاطعِ الجازمِ، وهذا يَصْدُقُ على كُلِّ مَن كان بهذا اليَقينِ في أيِّ عَصرٍ مِنَ العُصورِ
[698] يُنظر: ((زاد العباد)) (ص: 59). .
قال
محمَّدُ بن نصر المرْوَزيُّ: (الشَّاهِدُ بلا إلهَ إلَّا اللهُ، هو المصَدِّقُ المقرُّ بقَلْبِه، يشهَدُ بها لله بقَلْبِه ولسانِه، يبتدئُ بشهادةِ قَلْبِه والإقرارِ به، ثم يُثنِّي بالشَّهادةِ بلسانِه والإقرارِ به)
[699])) يُنظر: ((تعظيم قدر الصلاة)) (2/ 707). .
وقال
ابنُ حِبَّان البستي: (ذِكرُ البيانِ بأنَّ الجنَّةَ إنما تجِبُ لِمن شهد لله جَلَّ وعلا بالواحدانيَّةِ، وكان ذلك عن يقينٍ من قَلْبِه، لا أنَّ الإقرارَ بالشَّهادةِ يوجِبُ الجنَّةَ للمقِرِّ بها دون أن يقِرَّ بها بالإخلاصِ)
[700])) يُنظر: ((صحيح ابن حبان)) (1/429). .
قال أبو العَبَّاسِ القرطبي: (اليَقينُ: هو العِلْمُ الرَّاسِخُ في القَلبِ، الثَّابِتُ فيه)
[701] يُنظر: ((المفهم)) (1/ 206). .
وقال
علي القاري: (قولُه: (يَشهَدُ)، أي: حالَ كونِه (أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ): ويلزَمُ منه شهادةُ أنَّ محمدًا رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، (مستيقنًا بها)، أي: بمضمون هذه الكَلِمةِ (قَلْبُه)، أي: منشرحًا بها صَدْرُه، غيرَ شاكٍّ ومتردِّدٍ في التوحيدِ والنبُوَّةِ اللذين هما الإيمانُ الإجماليُّ، (فبشِّرْه بالجنَّةِ) معناه: أخبِرْ أنَّ من كان هذه صفتَه فهو من أهلِ الجنَّةِ، وإلَّا فأبو هُرَيرةَ لا يعلَمُ استيقانَهم، وفي هذا دلالةٌ ظاهرةٌ لمذهبِ أهلِ الحَقِّ أنَّ اعتقادَ التوحيدِ لا ينفَعُ دونَ النُّطقِ عند القُدرةِ أو عند الطَّلَبِ، ولا النُّطقَ دون الاعتقادِ بالإجماعِ، بل لا بُدَّ منهما)
[702])) يُنظر: ((مرقاة المفاتيح)) (1/ 112). .