الفَرعُ الخامِسُ: مِن شُروطِ لا إلهَ إلَّا اللهُ: الصِّدقُ
الصِّدقُ هو أن يُوَاطِئَ القَلبُ اللِّسانَ، فإذا صدَقَ العبدُ في كَلِمةِ التَّوحيدِ، وجعَلَها في حياتِهِ مَنهَجًا وسَبيلًا، وفي سَيْرِه إلى اللهِ دليلًا؛ فهو المَرْضِيُّ الذي لا يَنالُه يَوْمَ القِيامةِ خوفٌ ولا حُزْنٌ.
قال اللهُ تعالى:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ [التوبة: 119] .
قال
ابنُ جَريرٍ: (يقولُ تعالى ذِكرُه للمُؤمِنينَ مُعَرِّفَهم سَبيلَ النَّجاةِ مِن عِقابِه والخَلاصِ مِن أليمِ عَذابِه: يا أيُّها الذين آمَنوا باللهِ ورَسولِه، اتَّقُوا اللهَ وراقِبوه بأداءِ فَرائِضِه وتجَنُّبِ حُدودِه، وكونوا في الدُّنيا من أهلِ ولايةِ اللهِ وطاعتِه، تكونوا في الآخِرةِ مع الصَّادِقينَ في الجَنَّةِ، يعني: مع مَن صَدَق اللهَ الإيمانَ به، فحَقَّق قَولَه بفِعْلِه، ولم يكُنْ من أهلِ النِّفاقِ فيه، الذين يكَذِّبُ قِيلَهم فِعْلُهم)
[719] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/ 67). .
وقال
السَّعديُّ: (
وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ في أقوالِهم وأفعالِهم وأحوالِهم، الذين أقوالُهم صِدقٌ، وأعمالُهم وأحوالُهم لا تكونُ إلَّا صِدقًا، خَلِيَّةً مِن الكَسَلِ والفُتورِ، سالِمةً مِن المقاصِدِ السَّيِّئةِ، مُشتَمِلةً على الإخلاصِ والنيَّةِ الصَّالحةِ؛ فإنَّ الصِّدقَ يَهدي إلى البِرِّ، وإنَّ البِرَّ يهدي إلى الجَنَّةِ، قال اللهُ تعالى:
هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ [المائدة: 119] الآية)
[720] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 355). .
وقال اللهُ سُبحانَه:
وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ * فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ [البقرة: 8-10] .
في هذه الآياتِ الكريماتِ يُبَيِّنُ اللهُ تعالى بعضًا من أحوالِ المنافقينَ الذين يُظهِرونَ الإسلامَ ويُبطِنونَ الكُفرَ؛ فذَكَر أنَّهم يَدَّعون الإيمانَ كَذِبًا؛ إذ يُعلِنونَ ذلك بألسِنَتِهم، بَيْدَ أنَّه قَولٌ مجَرَّدٌ ليس معه إقرارٌ حقيقيٌّ بالإيمانِ في قلوبِهم، يريدونَ بذلك مُخادَعةَ اللهِ تعالى وعبادِه المؤمِنينَ، وهم في الحقيقةِ المَخْدوعونَ بصَنيعِهم دون أن يَشعُروا بذلك، وبَيَّن اللهُ تعالى أنَّ ما في قلوبِهم حقيقةً هو الشَّكُّ، وأخبَرَ أنَّ لهم عذابًا مُؤلِمًا مُوجِعًا بسَبَبِ كَذِبِهم في دَعْوى الإيمانِ، وكان الواجِبُ عليهم التحلِّيَ بالصِّدقِ، والالتزامَ بحقيقةِ الإيمانِ
[721] يُنظر: ((زاد العباد)) (ص: 65). .
قال
السَّعدي: (اعلَمْ أنَّ النِّفاقَ هو: إظهارُ الخَيرِ وإبطانُ الشَّرِّ، ويَدخُلُ في هذا التَّعريفِ النِّفاقُ الاعتقاديُّ، والنِّفاقُ العَمَليُّ، كالذي ذَكَر النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في قَولِه:
((آيةُ المنافِقِ ثَلاتٌ: إذا حَدَّث كَذَب، وإذا وَعَد أخلَفَ، وإذا اؤتُمِنَ خان )) [722] أخرجه البخاري (33)، ومسلم (59) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. ، وفي روايةٍ:
((وإذا خاصَمَ فَجَر )) [723] أخرجه البخاري (34)، ومسلم (58) من حديث عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما. .
وأمَّا النِّفاقُ الاعتقاديُّ المخرِجُ عن دائرةِ الإسلامِ فهو الذي وَصَف اللهُ به المنافِقينَ في هذه السُّورةِ وغَيرِها، ولم يكُنِ النِّفاقُ موجودًا قبلَ هِجرةِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِن مكَّةَ إلى المدينةِ، وبعد أن هاجَرَ، فلمَّا كانت وَقعةُ بَدرٍ، وأظهَرَ اللهُ المؤمِنينَ وأعَزَّهم، ذَلَّ مَن في المدينةِ مِمَّن لم يُسلِمْ، فأظهَرَ بعضُهم الإسلامَ؛ خَوفًا ومخادَعةً، ولِتُحْقَنَ دماؤُهم، وتَسلَمَ أموالُهم، فكانوا بين أظهُرِ المُسلِمينَ في الظَّاهِرِ أنَّهم منهم، وفي الحقيقةِ ليسوا منهم.
فمن لُطفِ اللهِ بالمؤمِنينَ أنْ جَلَّى أحوالَهم، ووَصْفَهم بأوصافٍ يتمَيَّزونَ بها؛ لئلَّا يغتَرَّ بهم المؤمِنونَ، ولِينقَمِعوا أيضًا عن كثيرٍ مِن فُجورِهم، قال تعالى:
يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ [التوبة: 64] ، فوصَفَهم اللهُ بأصلِ النِّفاقِ، فقال:
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ [البقرة: 8] ؛ فإنَّهم يقولونَ بألسِنَتِهم ما ليس في قُلوبِهم، فأكذَبَهم اللهُ بقَولِه:
وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ؛ لأنَّ الإيمانَ الحقيقيُّ: ما تواطَأَ عليه القَلبُ واللِّسانُ، وإنَّما هذا مخادَعةٌ لله ولعبادِه المؤمِنينَ)
[724] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 42). .
وعن مُعاذِ بنِ جَبَلٍ رَضِي اللهُ عنه عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((ما من أحَدٍ يَشهَدُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ، وأنَّ مُحمَّدًا رَسولُ اللهِ، صِدْقًا مِن قَلْبِه إلَّا حَرَّمَه اللهُ على النَّارِ )) [725] أخرجه البخاري (128)، ومسلم (32). .
أكَّدَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أهمِّيَّةَ الصِّدقِ في قولِ كَلِمةِ التَّوحيدِ حين أخْبَرَ مُعاذًا رَضِيَ اللهُ عنه: أنَّه ما مِن أحَدٍ يَقول كَلِمةَ التَّوحيدِ بلِسانِه ويُصَدِّقَ قَلبُه بمعناها ومُقتضاها صِدْقًا منافيًا للكَذِبِ والنِّفاقِ، إلَّا حرَّمَهُ اللهُ على النَّارِ، بمعنى: حرَّمَ عليه الخُلودَ فيها، أمَّا مَن قالَ الشَّهادةَ بلسانِهِ، وأنكَرَ مَدْلولَها بقلبِهِ؛ فإنَّ هذه الشَّهادةَ لا تُنْجِيه، بلْ يَدخُلُ في عِدادِ المنافِقينَ
[726] يُنظر: ((زاد العباد)) (ص: 66). .
قال الحكيمُ الترمذيُّ: (ثمرةُ هذه الكَلِمةِ لأهلِها، وأهلُها من رعاها حتى قام بوفائِها وصَدَّقَها، ومن لم يَرْعَها فليس من أهلِ لا إلهَ إلَّا اللهُ، إنَّما هم من أهلِ قَولِ لا إلهَ إلَّا اللهُ، فأهلُ قَولِ لا إلهَ إلَّا اللهُ من كان مرجِعُه إلى القَولِ به والعَمَلِ بهواه، وأهلُ لا إلهَ إلَّا اللهُ من كان مرجِعُه إلى إقامةِ هذا القَولِ وفاءً وصدقًا)
[727])) يُنظر: ((نوادر الأصول في أحاديث الرسول)) (3/17). .
وقال أبو منصورٍ البغداديُّ: (إنَّ الرُّكنَ الأوَّلَ من أركانِ الإسلامِ كما ورد به الخَبَرُ: شهادةُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ، وأنَّ محمدًا رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم
[728])) أخرجه البخاري (8)، ومسلم (16) من حديث عبدالله بن عمر رضي الله عنهما. ولفظ البخاري: ((بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله..)) ، ولهذه الشَّهادةِ شُروطٌ؛ منها: أنَّها لا تُقبَلُ ولا يثابُ عليها صاحِبُها إلا إذا عرف صِحَّتَها، وقالها عن معرفةٍ وتصديقٍ لها بالقلبِ، فأمَّا إذا أطلقها المنافِقُ الذي يعتَقِدُ خلافَها، فإنَّه لا يكونُ عند الله مؤمنًا ولا ناجيًا من عقابِ الآخرةِ، وإنَّما يجري عليه في الظَّاهِرِ حُكمُ الإسلامِ في سُقوطِ الجزيةِ عنه، وفي دَفْنِه في مقابِرِ المسلِمين)
[729])) يُنظر: ((أصول الإيمان)) (ص: 153). .
وقال أبو العَبَّاسِ القُرطبيُّ: (معنى صِدْقِ القَلْبِ: تَصديقُه الجازِمُ بحيثُ لا يخطُرُ له نَقيضُ ما صَدَّق به، وذلك إمَّا عن بُرهانٍ، فيكونُ عِلمًا، أو عن غَيرِه، فيكونُ اعتِقادًا جَزمًا. ويجوزُ: أن يُحَرِّمَ اللهُ من مات على الشَّهادتينِ على النَّارِ مُطلَقًا، ومَن دَخَل النَّارَ مِن أهلِ الشَّهادَتينِ بكَبائِرِه حُرَّمَ على النَّارِ جَميعَه أو بعضَه، كما قال في الحديثِ الآخَرِ:
((فيُحَرِّمُ صُوَرَهم على النَّارِ)) [730])) أخرجه البخاري (7439)، ومسلم (183) مطولاً باختلاف يسير من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. ، وقال:
((حَرَّم اللهُ على النَّارِ أن تأكُلَ أثَرَ السُّجودِ )) [731])) أخرجه البخاري (806)، ومسلم (182) مطولاً باختلاف يسير من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. ، ويجوزُ أن يكونَ معناه: أنَّ اللهَ يُحَرِّمُه على نارِ الكُفَّارِ التي تُنضِجُ جُلودَهم، ثمَّ تُبدَّلُ بعد ذلك؛ كما قال تعالى:
كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا [النساء: 56] الآية. وقد قال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((أمَّا أهلُ النَّارِ الذين هم أهلُها، فإنَّهم لا يموتونَ فيها ولا يَحْيَونَ، ولكِن ناسًا أصابَتْهم النَّارُ بذُنوبِهم، فأماتهم اللهُ إماتةً، حتَّى إذا كانوا فَحْمًا، أذِنَ لهم في الشَّفاعةِ ... )) [732] أخرجه مسلم (185) مطولاً باختلاف يسير من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. الحديث)
[733] يُنظر: ((المفهم)) (1/ 208). .
وقال
ابنُ القَيِّمِ: (أخبر تعالى عن أهلِ البِرِّ، وأثنى عليهم بأحسَنِ أعمالِهم: من الإيمانِ، والإسلامِ، والصَّدَقةِ، والصَّبرِ، بأنَّهم أهُل الصِّدقِ فقال:
وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتاب وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَاسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ [البقرة: 177] ، وهذا صريحٌ في أنَّ الصِّدقَ بالأعمالِ الظَّاهرةِ والباطِنةِ، وأنَّ الصِّدقَ هو مَقامُ الإسلامِ والإيمانِ.
وقَسَّم اللهُ سُبحانَه النَّاسَ إلى صادِقٍ ومُنافِقٍ، فقال:
لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ [الأحزاب: 24] .
والإيمانُ أساسُهُ الصِّدقُ، والنِّفاقُ أساسُهُ الكَذِبُ، فلا يجتَمِعُ كَذِبٌ وإيمانٌ إلَّا وأحَدُهما محارِبٌ للآخَرِ.
وأخبَرَ سُبحانَه: أنَّه في يومِ القيامةِ لا يَنفَعُ العَبدَ ويُنَجِّيه مِن عَذابِه إلَّا صِدْقُه؛ قال تعالى:
هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [المائدة: 119] ، وقال تعالى:
وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ [الزمر: 33] ، فالذي جاء بالصِّدْقِ: هو مَن شَأنُه الصِّدقُ في قَولِه وعَمَلِه وحالِه.
فالصِّدقُ في هذه الثَّلاثةِ؛ فالصِّدقُ في الأقوالِ: استِواءُ اللِّسانِ على الأقواِل، كاستواءِ السُّنْبُلةِ على ساقِها، والصِّدقُ في الأعمالِ: استِواءُ الأفعالِ على الأمرِ والمتابَعةِ، كاستِواءِ الرَّأسِ على الجَسَدِ، والصِّدقُ في الأحوالِ: استِواءُ أعمالِ القَلبِ والجوارِحِ على الإخلاصِ، واستِفراغِ الوُسْعِ، وبَذْلِ الطَّاقةِ، فبذلك يكونُ العَبدُ مِن الذين جاؤوا بالصِّدقِ، وبحَسَبِ كَمالِ هذه الأُمورِ فيه وقيامِها به: تكونُ صِدِّيقيَّتُه)
[734] يُنظر: ((مدارج السالكين)) (2/ 258). .