الفصلُ الأوَّلُ: فَضْلُ العُلَماءِ
للعُلَماءِ فَضائِلُ كثيرةٌ وردت في القُرآنِ العظيمِ والسُّنَّةِ النَّبَويَّةِ.
1- قال اللهُ تعالى:
أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ [الزمر: 9] .
قال
السَّعدي: (هذه مُقابلةٌ بين العامِلِ بطاعةِ اللهِ وغَيرِه، وبين العالِمِ والجاهِلِ...
قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ ربَّهم ويعلمون دينَه الشَّرعيَّ ودينَه الجزائيَّ، وما له في ذلك من الأسرارِ والحِكَمِ
وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ شيئًا من ذلك؟ لا يستوي هؤلاء ولا هؤلاء، كما لا يستوي اللَّيلُ والنَّهارُ، والضِّياءُ والظَّلامُ، والماءُ والنَّارُ.
إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ إذا ذُكِّروا
أُولُو الْأَلْبَابِ أي: أهلُ العُقولِ الزكِيَّةِ الذَّكِيَّةِ، فهم الذين يُؤثِرون الأعلى على الأدنى، فيُؤثِرون العِلمَ على الجَهْلِ، وطاعةَ اللهِ على مخالَفتِه؛ لأنَّ لهم عُقولًا تُرشِدُهم للنَّظَرِ في العواقِبِ، بخِلافِ مَن لا لُبَّ له ولا عَقْلَ، فإنَّه يتَّخِذُ إلهَه هَواه)
[2479] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 720). .
وقال
ابنُ عُثَيمين: (لا يستوي الذين يعلمونَ والذين لا يعلمونَ؛ لأنَّ الجاهِلَ مُتَّصِفٌ بصِفةِ ذَمٍّ، والعالمَ مُتَّصِفٌ بصفةِ مَدحٍ؛ ولهذا لو تُعَيِّرُ أدنى واحدٍ مِنَ العامَّةِ وتقولُ له: أنت جاهِلٌ، غَضِبَ وأنكر ذلك؛ مما يدُلُّ على أنَّ الجَهلَ عَيبٌ مذمومٌ، كُلٌّ ينفِرُ منه، والعِلمُ خيرٌ، ولا يستوي الذين يَعلَمون والذين لا يَعلَمون في أيِّ حالٍ مِنَ الأحوالِ.
العالمُ يَعبُدُ اللهَ على بصيرةٍ، يَعرِفُ كيف يتوضَّأُ، وكيف يُصَلِّي، وكيف يزكِّي، وكيف يصومُ، وكيف يحُجُّ، وكيف يبَرُّ والِدَيه، وكيف يَصِلُ رَحِمَه.
العالِمُ يَهدي
أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا [الأنعام: 122] ، لا يمكِنُ أن يكونَ هذا مِثلَ هذا؛ فالعالِمُ نورٌ يُهتدى به ويرفَعُ اللهُ به، والجاهِلُ عالةٌ على غيرِه، لا ينفَعُ نَفْسَه ولا غيرَه، بل إنْ أفتى بجَهلٍ ضَرَّ نَفْسَه وضَرَّ غَيرَه، فلا يستوي الذين يَعلَمون والذين لا يَعلَمون)
[2480] يُنظر: ((شرح رياض الصالحين)) (3/ 233). .
2- قال اللهُ سُبحانَه:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا [النساء: 59] .
قال الواحِديُّ: (
وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ قال
ابنُ عبَّاسٍ في روايةِ الوالبيِّ: هم الفُقَهاءُ والعُلَماءُ، وأهلُ الدِّينِ الذين يُعَلِّمونَ النَّاسَ مَعالِمَ دِينِهم، وأوجَبَ اللهُ تعالى طاعَتَهم. وهذا قَولُ مُجاهِدٍ والحَسَنِ والضَّحَّاكِ. وفي روايةِ عَطاءٍ: هم الوُلاةُ. وهو قَولُ ابنِ زَيدٍ، قال: هم الأُمَراءُ والسَّلاطِينُ لَمَّا أُمِروا بأداءِ الأمانةِ في الرَّعِيَّةِ في قَولِه:
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ [النساء: 58] الآية، أُمِرَت الرَّعِيَّةُ بحُسنِ الطَّاعةِ لهم فيما يوافِقُ الحَقَّ)
[2481] يُنظر: ((التفسير الوسيط)) (2/ 71). .
وقال
ابنُ عُثَيمين: (بتوقيرِ العُلَماءِ تُوَقَّرُ الشَّريعةُ؛ لأنَّهم حامِلوها، وبإهانةِ العُلَماءِ تُهانُ الشَّريعةُ؛ لأنَّ العُلَماءَ إذا ذَلُّوا وسَقَطوا أمامَ أعيُنِ النَّاسِ ذَلَّت الشَّريعةُ التي يحمِلونَها، ولم يَبْقَ لها قيمةٌ عند النَّاسِ، وصار كلُّ إنسانٍ يحتَقِرُهم ويَزدَرِيهم؛ فتَضيعُ الشَّريعةُ.
كما أنَّ وُلاةَ الأمرِ مِنَ الأُمَراءِ والسَّلاطينِ يَجِبُ احترامُهم وتوقيرُهم وتعظيمُهم وطاعتُهم، حَسَبَ ما جاءت به الشَّريعةُ؛ لأنَّهم إذا احتُقِروا أمامَ النَّاسِ وأُذِلُّوا وهُوِّنَ أمْرُهم، ضاع الأمنُ وصارت البِلادُ فَوْضى، ولم يكُنْ للسُّلطانِ قُوَّةٌ ولا نُفوذٌ.
فهذان الصِّنفانِ مِنَ النَّاسِ: العُلَماءُ والأُمَراءُ، إذا احتُقِروا أمامَ أَعيُنِ النَّاسِ فَسَدَت الشَّريعةُ، وفَسَد الأمنُ، وضاعت الأمورُ، وصار كُلُّ إنسانٍ يرى أنَّه هو العالِمُ، وكُلُّ إنسانٍ يرى أنَّه هو الأميرُ، فضاعت الشَّريعةُ وضاعت البِلادُ؛ ولهذا أمرَ اللهُ تعالى بطاعةِ وُلاةِ الأُمورِ مِنَ العُلَماءِ والأُمَراءِ، فقال:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ [النساء: 59] )
[2482] يُنظر: ((شرح رياض الصالحين)) (3/ 231). .
3- قال اللهُ عزَّ وجَلَّ:
شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [آل عمران: 18] .
قال
ابنُ القَيِّمِ: (استَشْهَد سُبحانَه بأُولي العِلمِ على أجَلِّ مَشهودٍ عليه، وهو توحيدُه، فقال:
شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ.
وهذا يدُلُّ على فَضْلِ العِلمِ وأهلِه مِن وُجوهٍ:
أحَدُها: استِشهادُهم دونَ غَيْرِهم مِنَ البَشَرِ.
والثَّاني: اقتِرانُ شَهادتِهم بشَهادتِه.
والثَّالِثُ: اقترانُها بشَهادةِ مَلائِكَتِه.
والرَّابعُ: أنَّ في ضِمْنِ هذا تَزكِيَتَهم وتَعديلَهم؛ فإنَّ اللهَ لا يَستَشهِدُ مِنْ خَلْقِه إلَّا العُدولَ...
الخامِسُ: أنَّه وصَفَهم بكَونِهم أُولي العِلمِ، وهذا يدُلُّ على اختِصاصِهم به، وأنَّهم أهْلُه وأصحابُه، ليس بمُستعارٍ لهم.
السَّادِسُ: أنَّه سُبحانَه استَشهَدَ بنَفْسِه -وهو أجَلُّ شاهِدٍ-، ثُمَّ بخِيارِ خَلْقِه -وهم ملائِكَتُه والعُلَماءُ مِن عِبادِه-، ويَكفي بهذا فَضْلًا وشَرَفًا.
السَّابعُ: أنَّه استشهد بهم على أجَلِّ مَشهودٍ به وأعظَمِه وأكبَرِه، وهو شَهادةُ أنْ لا إلهَ إلَّا هو. والعَظيمُ القَدْرِ إنَّما يَستَشهِدُ على الأمرِ العَظيمِ أكابِرَ الخَلْقِ وساداتِهم.
الثَّامِنُ: أنَّه سُبحانَه جَعَل شَهادَتَهم حُجَّةً على المُنكِرينَ، فهم بمَنزِلةِ أدِلَّتِه وآياتِه وبَراهينِه الدَّالَّةِ على تَوحيدِه.
التاسِعُ: أنَّه سُبحانَه أفرَدَ الفِعْلَ المتَضَمِّنَ لهذه الشَّهادةِ الصَّادرةِ منه ومِن ملائِكَتِه ومنهم، ولم يَعطِفْ شَهادَتَهم بفِعلٍ آخَرَ غيرِ شَهادتِه، وهذا يدُلُّ على شِدَّةِ ارتِباطِ شَهادتِهم بشَهادتِه، فكأنَّه سُبحانَه شَهِدَ لنَفْسِه بالتوحيدِ على ألسِنَتِهم، وأنطَقَهم بهذه الشَّهادةِ، فكان هو الشَّاهِدَ بها لنَفْسِه إقامةً وإنطاقًا وتعليمًا، وهم الشَّاهِدونَ بها له إقرارًا واعترافًا وتصديقًا وإيمانًا.
العاشِرُ: أنَّه سُبحانَه جعَلَهم مُؤَدِّينَ لحَقِّه عند عِبادِه بهذه الشَّهادةِ، فإذا أدَّوْها فقد أدَّوُا الحَقَّ المشهودَ به، فثَبَت الحَقُّ المشهودُ به، فوجب على الخَلْقِ الإقرارُ به، وكان في ذلك غايةُ سَعادتِهم في مَعاشِهم ومَعادِهم. وكُلُّ من ناله هُدًى بشهادتِهم، وأقَرَّ بهذا الحَقِّ بسَبَبِ شَهادتِهم، فلهم مِثْلُ أَجْرِه. وهذا فَضْلٌ عَظيمٌ لا يُدرِكُ قَدْرَه إلَّا اللهُ. وكذلك كُلُّ من شَهِدَ بها عن شَهادتِهم، فلهم من الأجْرِ مِثْلُ أجْرِه أيضًا.
فهذه عَشْرةُ أوجُهٍ في هذه الآيةِ)
[2483] يُنظر: ((مفتاح دار السعادة)) (1/ 132). .
4- قال اللهُ تعالى:
يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا [مريم: 43] .
فاتِّباعُهم يَهْدي إلى الصِّراطِ السَّوِيِّ بإذنْ اللهِ تعالى.
قال
ابنُ جَريرٍ: (يقولُ تعالى ذِكْرُه: قال إبراهيمُ لأبيه: يا أبتِ إنِّي قد آتانيَ اللهُ مِنَ العِلمِ ما لم يُؤتِك فاتَّبِعْني: يقولُ: فاقبَلْ مِنِّي نَصيحتي
أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا يقولُ: أُبَصِّرْك هُدى الطَّريقِ المُستوي الذي لا تَضِلُّ فيه إن لَزِمْتَه، وهو دينُ اللهِ الذي لا اعوِجاجَ فيه)
[2484] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/ 550). .
قال
الآجُرِّي: (فما ظَنُّكم -رحمَكم اللهُ- بطريقٍ فيه آفاتٌ كثيرةٌ، ويحتاجُ النَّاسُ إلى سُلوكِه في ليلةٍ ظَلماءَ، فإنْ لم يكُنْ فيه مِصباحٌ وإلَّا تحَّيروا؛ فقَيَّض اللهُ لهم فيه مصابيحَ تُضِيءُ لهم، فسَلَكوه على السَّلامةِ والعافيةِ.
ثمَّ جاءت طَبَقاتٌ مِنَ النَّاس لا بُدَّ لهم من السُّلوكِ فيه فسَلَكوا، فبينما هم كذلك إذ طَفِئَت المصابيحُ، فبَقُوا في الظُّلْمةِ؛ فما ظَنُّكم بهم؟! هكذا العُلَماءُ في النَّاسِ، لا يَعلَمُ كثيرٌ مِنَ النَّاسِ كيف أداءُ الفرائِضِ، ولا كيف اجتنابُ المحارِمِ، ولا كيف يُعبَدُ اللهُ في جميعِ ما يَعبُدُه به خَلْقُه؛ إلَّا ببَقاءِ العُلَماءِ، فإذا مات العالِمُ تحَيَّرَ النَّاسُ، ودَرَس العِلمُ بموتِهم، وظَهَر الجَهْلُ، فإنَّا للهِ وإنَّا إليه راجِعونَ، مُصيبةٌ ما أعظَمَها على المُسلِمينَ!)
[2485] يُنظر: (أخلاق العلماء)) (ص: 30). .
5- قال اللهُ سُبحانَه:
يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ دَرَجَاتٍ [المجادلة: 11] .
قال
ابنُ جَريرٍ: (يرفَعِ اللهُ الذين أُوتوا العِلمَ مِن أهلِ الإيمان على المُؤمِنينَ الذين لم يُؤتَوُا العِلمَ بفَضْلِ عِلْمِهم دَرَجاتٍ، إذا عَمِلوا بما أُمِروا به)
[2486] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/ 480). .
6- قال اللهُ عزَّ وجَلَّ:
إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ [فاطر: 28] .
قال الواحِديُّ: (أي: من كان عالِمًا باللهِ اشتَدَّت خَشْيَتُه)
[2487] يُنظر: ((الوجيز)) (ص: 892). .
وقال
ابنُ كثيرٍ: (أي: إنَّما يَخْشاه حَقَّ خَشْيَتِه العُلَماءُ العارِفون به؛ لأنَّه... كُلَّما كانت المَعرِفةُ به أتَمَّ والعِلمُ به أكمَلَ، كانت الخَشيةُ له أعظَمَ وأكثَرَ)
[2488] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (6/ 544). .
7- عن
مُعاويةَ بنِ أبي سُفيانَ رَضِيَ اللهُ عنهما، أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((من يُرِدِ اللهُ به خَيْرًا يُفَقِّهْهُ في الدِّينِ )) [2489] رواه البخاري (71)، ومسلم (1037) مطولًا. .
قال ابنُ بطَّالٍ: (فيه فَضْلُ العُلَماءِ على سائِرِ النَّاسِ)
[2490] يُنظر: ((شرح صحيح البخاري)) (1/ 154). .
8- عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((إذا مات الإنسانُ انقَطَع عنه عَمَلُه إلَّا مِن ثَلاثةٍ: إلَّا مِن صَدَقةٍ جاريةٍ، أو عِلمٍ يُنتَفَعُ به، أو وَلَدٍ صالحٍ يدعو له )) [2491] رواه مسلم (1631). .
قال الطِّيبي: (فيه بَيانُ فَضيلةِ العِلمِ، والحَثُّ على الاستِكثارِ منه والترغيبِ في توريثِه بالتعليمِ والتصنيفِ، وأنَّه ينبغي أن يُختارَ مِنَ العُلومِ الأنفَعُ فالأنفَعُ)
[2492] يُنظر: ((شرح المشكاة)) (2/ 664). .