المَبحَثُ الثَّامِنُ: مِن خَصائِصِ عَقيدةِ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ: الوَسَطيَّةُ
عَقيدةُ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ وسَطٌ بين عقائِدِ فِرَقِ الضَّلالِ؛ ففي كُلِّ بابٍ مِن أبوابِ العَقيدةِ هي وسَطٌ بين فريقينِ آراؤُهما متضادَّةٌ، أحدُهما غلا في هذا البابِ، والآخَرُ قَصَّرَ فيه.
قال
ابنُ القَيِّمِ: (لا تجِدُ أهلَ الحَقِّ دائمًا إلَّا وسَطًا بين طرفيِ الباطِلِ، وأهلُ السُّنَّةِ وسَطٌ في النِّحَلِ، كما أنَّ المُسلِمينَ وَسَطٌ في المِلَلِ)
[54] يُنظر: ((مفتاح دار السعادة)) (2/243). .
وهذه خمسةُ أُصولٍ عَقَديَّةٍ، يتبيَّنُ منها وسطيَّةُ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ بَيْنَ الفِرَقِ الأُخرى:
الأصل الأوَّلُ: بابُ العباداتِتوسَّط أهلُ السُّنَّةِ في هذا البابِ بَيْنَ الرَّافضةِ والصُّوفيَّةِ، وبين الدُّروزِ والنُّصَيريِّينَ.
فالرَّافِضةُ والصُّوفيَّةُ يَعبُدونَ اللهَ بما لم يَشرَعْه مِنَ الأذكارِ والتوسُّلاتِ، وإقامةِ الأعيادِ والاحتِفالاتِ البِدْعيَّةِ، والبِناءِ على القُبورِ، والصَّلاةِ عِندَها، والطَّوافِ بها، والذَّبحِ عِندَها، وكثيرٌ منهم يَعبُدُ أصحابَ القُبورِ بالذَّبحِ لهم، أو دُعائِهم بأن يَشفَعوا له عِندَ اللهِ، أو يَجلِبوا له مَرغوبًا، أو يَدفَعوا عنه مَرهوبًا.
والدُّروزُ والنُّصَيريُّونَ -الذين يُسَمَّونَ العَلَويِّينَ- تَركوا عبادةَ اللهِ بالكُلِّيَّةِ؛ فلا يُصَلُّونَ، ولا يَصومون، ولا يزكُّونَ، ولا يحجُّونَ... إلخ.
أمَّا أهلُ السُّنَّةِ والجماعةِ فيَعبُدونَ اللهَ بما جاء في كِتابِ اللهِ وسُنَّةِ رَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فلم يَترُكوا ما أوجَبَ اللهُ عليهم من العباداتِ، ولم يَبتَدِعوا عباداتٍ من تِلقاءِ أنفُسِهم
[55] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (3/371). ؛ عَمَلًا بقَولِ الله تعالى:
اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ [الأعراف: 3] ، وبقَولِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((مَن أحدَثَ في أمْرِنا هذا ما ليس منه، فهو رَدٌّ )) [56] أخرجه البخاري (2695)، ومسلم (1718) من حديثِ عائِشةَ رَضِيَ الله عنها. ، وفي روايةٍ:
((مَن عَمِلَ عَمَلًا ليس عليه أمرُنا، فهو رَدٌّ)) [57] أخرجه مسلم (1718)، وأخرجه البخاري معلَّقًا بصيغة الجزم قبل حديث (7350) من حديث عائشةَ رَضِيَ الله عنها. ، وقَولِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ في خُطبتِه:
((أمَّا بَعدُ، فإنَّ خيرَ الحديثِ كتابُ اللهِ، وخيرَ الهَدْيِ هَدْيُ محمَّدٍ، وشرَّ الأمورِ مُحدَثاتُها، وكلَّ بدعةٍ ضَلالةٌ )) [58] أخرجه مسلم (867) من حديثِ جابرِ بنِ عبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عنه. .
الأصلُ الثَّاني: بابُ أسماءِ اللهِ وصِفاتِه توسَّط أهلُ السُّنَّةِ والجماعةِ في هذا البابِ بَيْنَ المعَطِّلةِ وبين المَمَثِّلةِ.
فالمُعَطِّلةُ منهم من يُنكِرُ الأسماءَ الحُسْنَى والصِّفاتِ الإلهيَّةَ، كالجَهْميَّةِ.
ومنهم من يُنكِرُ الصِّفاتِ، كالمعتَزِلةِ.
ومنهم من يُنكِرُ أكثَرَ الصِّفاتِ ويؤَوِّلها، كالأشاعِرةِ.
وأمَّا أهلُ السُّنَّةِ والجماعةِ فإنَّهم يُؤمِنونَ بجَميعِ أسماءِ اللهِ وصِفاتِه الثَّابتةِ في النُّصوصِ الشَّرعيَّةِ، فيُسمُّون اللهَ سُبحانَه بأَسمائِه الحُسْنَى، ولا يُلحِدونَ فيها، ويَصِفون اللهَ تعالى بما وَصَف به نَفْسَه، وبما وصَفَه به أعرَفُ الخَلقِ به؛ رسولُه محمَّدُ بنُ عبدِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، من غيرِ تَعطيلٍ ولا تأويلٍ، ومِن غيرِ تمثيلٍ ولا تكييفٍ، ويؤمِنونَ بأنَّها صِفاتٌ حقيقيَّةٌ تليقُ بجَلالِ اللهِ تعالى، ولا تُماثِلُ صفاتِ المخلوقينَ، عملًا بقَولِه تعالى:
لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى: 11] [59] يُنظر: ((العقيدة الواسطية)) لابن تيمية (ص: 57)، ((شرح الطحاوية)) لابن أبي العز (2/ 790). .
الأصلُ الثَّالِثُ: بابُ القَضاءِ والقَدَرِتوسَّط أهلُ السُّنَّة والجماعةِ في هذا البابِ بين القَدَريَّة والجَبريَّةِ.
فالقَدَريَّةُ نَفَوا القَدَرَ، فقالوا: إنَّ أفعالَ العِبادِ وطاعاتِهم ومَعاصيَهم لم تدخُلْ تحتَ قضاءِ الله وقَدَرِه، فاللهُ تعالى -على زَعْمِهم- لم يخلقْ أفعالَ العبادِ، ولا شاءَها منهم، بل العِبادُ مُستَقِلُّونَ بأفعالِهم، فالعبدُ على زَعْمِهم هو الخالِقُ لفِعْلِه، وهو المريدُ له إرادةً مُستقلَّةً، فأثبتوا خالِقًا مع اللهِ سُبحانَه، وهذا إشراكٌ في الرُّبوبيَّةِ، ففيهم شَبَهٌ من المجوسِ الذين قالوا بأن َّللكونِ خالقَينِ، فهم (مجوسُ هذه الأمَّةِ).
والجَبْريَّةُ غَلَوا في إثباتِ القَدَرِ، فقالوا: إنَّ العبدَ مجبورٌ على فِعْلِه، فهو كالرِّيشةِ في الهواءِ، لا فِعْلَ له، ولا قُدرةَ، ولا مَشيئةَ.
فهدى اللهُ أهلَ السُّنَّةِ والجماعةِ للقَولِ الحقِّ والوسَطِ في هذا البابِ؛ فأثبَتوا أنَّ العِبادَ فاعِلونَ حَقيقةً، وأنَّ أفعالَهم تُنسَبُ إليهم على جِهةِ الحقيقةِ، وأنَّ فِعلَ العَبدِ واقعٌ بتَقديرِ اللهِ ومَشيئتِه وخَلْقِه؛ فاللهُ تعالى خالقُ العبادِ وخالِقُ أفعالِهم، كما قال سُبحانَه:
وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ [الصافات: 96] ، كما أنَّ للعِبادِ مَشيئةً تحتَ مَشيئةِ اللهِ، كما قال اللهُ تعالى:
وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [التكوير: 29] [60] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (3/374). .
الأصلُ الرَّابِعُ: بابُ الوَعدِ والوَعيدِتوسَّطَ أهلُ السُّنَّةِ والجماعةِ في هذا البابِ بيْن الوعيديَّةِ وبيْن
المُرجِئةِ.
فالوعيديَّةُ يُغَلِّبونَ نُصوصَ الوَعيدِ على نُصوصِ الوَعدِ، ومنهم
الخوارجُ الذين يَرَون أنَّ فاعِلَ الكبيرةِ من المُسلِمينَ -كالزَّاني وشاربِ الخَمرِ- كافرٌ مخلَّدٌ في النَّارِ.
و
المُرجِئةُ غَلَّبوا نصوصَ الرَّجاءِ على نُصوصِ الوَعيدِ، فقالوا: إنَّ الإيمانَ هو التَّصديقُ القَلبيُّ، وأنَّ الأعمالَ ليست من الإيمانِ، فلا يضُرُّ مع الإيمانِ مَعصيةٌ، فالعاصي كالزَّاني وشارِبِ الخَمرِ لا يستحِقُّ دخولَ النَّارِ، وإيمانُه كإيمانِ
أبي بَكرٍ وعُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما!
أمَّا أهلُ السُّنَّةِ والجماعةِ فيَرَونَ أنَّ المسلمَ إذا ارتكب معصيةً من الكبائِرِ لا يخرجُ من الإسلامِ، بل هو مُسلِمٌ ناقِصُ الإيمانِ، ما دام لم يرتكِبْ شيئًا من المكفِّراتِ، فهو مؤمِنٌ بإيمانِه، فاسِقٌ بكبيرتِه، وهو في الآخرةِ تحتَ مَشيئةِ اللهِ؛ إن شاء اللهُ عفا عنه، وإن شاء عذَّبه حتَّى يطَهِّرَه من ذُنوبِه، ثمَّ يُدخِلَه الجنَّةَ بِرَحْمتِه، ولا يُخَلَّدُ في النَّارِ إلَّا مَن كَفَر باللهِ تعالى أو أشرَكَ به، كما قال تعالى:
إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا [النساء: 116] [61] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (3/374). .
الأصلُ الخامِسُ: بابُ أصحابِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمتوسَّط أهلُ السُّنَّةِ والجماعةِ في هذا البابِ بين الشِّيعةِ وبَيْنَ
الخوارِجِ.
فالشِّيعةُ غَلَوا في حَقِّ آلِ البيتِ، كعليِّ بنِ أبي طالبٍ وأولادِه رَضِيَ اللهُ عنهم، فادَّعَوا أنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللهُ عنه معصومٌ، وأنَّه يَعلَمُ الغيبَ، وأنَّه أفضلُ من
أبي بكرٍ وعُمَرَ، ومِن غُلاتِهم من يدَّعي ألوهيَّتَه!
و
الخوارجُ جَفَوا في حقِّ عليٍّ رَضِيَ اللهُ عنه، فكَفَّروه، وكفَّروا
معاويةَ بنَ أبي سُفيانَ رَضِيَ اللهُ عنهما، وكَفَّروا كلَّ من لم يكُنْ على طريقتِهم.
كما أنَّ الرَّوافِضَ جَفَوا في حقِّ أكثَرِ الصَّحابةِ، فسَبُّوهم، وقالوا: إنَّهم كُفَّار! وإنَّهم ارتدُّوا بعد النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ولا يستثنون من الصَّحابةِ إلَّا آلَ البَيتِ ونَفَرًا قليلًا، قالوا: إنَّهم من أولياءِ آلِ البيتِ، كما أنَّهم يشتُمون علانيةً أمَّهاتِ المؤمِنينَ، وأفاضِلَ الصَّحابةِ، حتى
أبو بكرٍ وعُمَرُ رضي اللهُ عنهما!
أمَّا أهلُ السُّنَّة والجماعةِ فيُحِبُّون جميعَ أصحابِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ويترضَّون عنهم، ويَرَون أنَّهم أفَضُل هذه الأمَّةِ بعد نبيِّها صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وأنَّ اللهَ اختارهم لصُحبةِ نبيِّه، ويُمسِكونَ عمَّا حصَلَ بينهم من التَّنازُعِ، ويرونَ أنَّهم مجتَهِدون مأجورون، للمُصيبِ منهم أجرانِ، وللمُخطئِ أجرٌ واحدٌ على اجتهادِه، ويرون أنَّ أفضلَهم
أبو بكرٍ، ثمَّ عُمَرُ، ثم عثمانُ، ثم عليٌّ، رَضِيَ اللهُ عنهم أجمعين، ويحبُّون آلَ بيتِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ويرون أنَّ لهم حقَّين: حقَّ الإسلامِ، وحَقَّ القرابةِ مِن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فيوالونَهم، ويترضَّونَ عنهم
[62] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (3/375). .