المَبحَثُ الثَّاني: من قواعِدِ الاستِدلالِ على مَسائِلِ الاعتقادِ عند أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ: حُجِّيَّةُ فَهْمِ السَّلَفِ الصَّالحِ لنُصوصِ الكِتابِ والسُّنَّةِ
قال قتادة في قَولِه تعالى:
وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ [سبأ: 6] : (أصحابُ محمَّدٍ)
[84] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/214). .
وقال
سفيانُ في قَولِه تعالى:
قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى [النحل: 59] (هم أصحابُ رَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم)
[85] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/99)، ((تفسير ابن كثير)) (3/370). .
وقال
البيهقي: (ذَكَر
الشَّافعيُّ رَضِيَ اللهُ عنه في كتابِ الرِّسالةِ القديمة، بعد ذِكْرِ الصَّحابةِ رَضِيَ اللهُ عنهم والثَّناءِ عليهم بما هم أهلُه، فقال: "وهم فوقَنا في كلِّ علمٍ واجتهادٍ، ووَرَعٍ وعَقلٍ، وأمرٍ استُدركَ به عِلمٌ، واستُنبط به، وآراؤهم لنا أحمدُ وأولى بنا من آرائِنا عندنا لأنفُسِنا. والله أعلم. ومن أدرَكْنا ممَّن أرضى أو حُكِيَ لنا عنه ببلدنا صاروا فيما لم يَعلَموا لرَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فيه سُنَّةً إلى قولِهم إن اجتَمَعوا، وقَولِ بعضِهم إن تفَرَّقوا، فهكذا نقولُ: إذا اجتمعوا أخَذْنا باجتماعِهم، وإن قال واحِدُهم ولم يخالِفْه غيرُه أخَذْنا بقولِه، فإن اختلفوا أخَذْنا بقَولِ بعضِهم ولم نخرُجْ من أقاويلِهم كُلِّهم)
[86] يُنظر: ((المدخل إلى السنن الكبرى)) (ص: 110). .
وقال
أحمدُ بنُ حَنبل: (فآمُرُكم ألَّا تؤثِروا على القرآن شيئًا؛ فإنَّه كلامُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ... ثمَّ مِن بعدِ كِتابِ اللهِ سُنَّةُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، والحديثُ عنه وعن المهديِّين أصحابِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، والتَّصديقُ بما جاءت به الرُّسُلُ، واتِّباعُ سُنَّة النَّجاةِ، وهي التي نقلها أهلُ العِلمِ كابرًا عن كابرٍ)
[87] يُنظر: ((طبقات الحنابلة)) لابن أبي يعلى (1/342). .
وقال
أحمدُ بنُ حَنبل في رسالتِه للخليفةِ المتوكِّلِ في شأنِ القرآنِ: (لستُ بصاحِبِ كلامٍ، ولا أرى الكلامَ في شيءٍ من هذا إلَّا ما كان في كِتابِ اللهِ عزَّ وجلَّ، أو في حديثٍ عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، أو عن أصحابِه أو عن التَّابعينَ، فأمَّا غيرُ ذلك فإنَّ الكلامَ فيه غيرُ محمودٍ)
[88] يُنظر: ((السنة)) لعبد الله بن أحمد (ص: 65). .
وقال
ابنُ أبي حاتمٍ: (فخَلَف بعدهم التَّابعون الذين اختارهم اللهُ عَزَّ وجَلَّ لإِقامةِ دينِه، وخَصَّهم بحِفظِ فرائضِه وحُدودِه، وأمْرِه ونَهْيِه وأحكامِه، وسُنَنِ رَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وآثارِه؛ فحَفِظوا عن صحابةِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ما نَشَروه وبثُّوه من الأحكامِ والسُّننِ والآثارِ، وسائِرِ ما وصَفْنا الصَّحابةَ به، رَضِيَ اللهُ عنهم، فأتقَنوه وعَلِموه وفَقِهوا فيه، فكانوا من الإسلامِ والدِّينِ ومراعاةِ أمرِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ ونَهْيِه، بحيث وضَعَهم اللهُ عَزَّ وجَلَّ ونصَبَهم له؛ إذ يقولُ اللهُ عَزَّ وجَلَّ:
وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللهُ عنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ [التوبة: 100] الآية،... فصاروا برضوانِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ لهم وجميلِ ما أثنى عليهم: بالمنزلةِ التي نزهَّهم الله بها عَن أَن يلحَقَهم مَغمَزٌ، أَو تُدرِكَهم وَصمةٌ؛ لتيقُّظِهم وتحَرُّزِهم وتثبُّتِهم، ولأَنَّهم البَرَرةُ الأتقياءُ الذين ندبهم اللهُ عَزَّ وجَلَّ لإثباتِ دينه، وإِقامةِ سُنَّتِه وسُبُلِه، فلم يكُنْ لاشتغالِنا بالتَّمييزِ بينهم معنًى؛ إذ كُنَّا لا نجِدُ منهم إِلَّا إمامًا مبرزًا مُقَدَّمًا في الفَضلِ والعِلمِ، ووَعْيِ السُّننِ وإثباتِها، ولزومِ الطريقةِ واحتبائِها، رحمةُ اللهِ ومَغفِرتُه عليهم أجمعينَ، إِلَّا ما كان ممَّن ألحق نَفْسَه بهم ودَلَّسها بينهم ممَّن ليس يَلحَقُهم، ولا هو في مِثلِ حالِهم)
[89] يُنظر: ((الجرح والتعديل)) (1/8). .
وقال
ابنُ تَيميَّةَ: (كُلُّ من له لسانُ صِدقٍ من مشهورٍ بعلمٍ أو دينٍ: مُعتَرِفٌ بأنَّ خيرَ هذه الأمَّةِ هم الصَّحابةُ، وأن المتَّبِعَ لهم أفضَلُ من غيرِ المتَّبِعِ لهم... ولا تجِدُ إمامًا في العِلمِ والدِّينِ،
كمالك، و
الأوزاعيِّ، و
الثَّوريِّ، و
أبي حنيفةَ، و
الشَّافعيِّ، و
أحمدَ بنِ حَنبلٍ، و
إسحاقَ بنِ راهَوَيه، ومِثْل
الفُضَيلِ بنِ عِياضٍ، وأبي سُلَيمانَ، ومعروفٍ الكَرْخيِّ، وأمثالِهم- إلَّا وهم مصَرِّحون بأنَّ أفضَلَ عِلْمِهم ما كانوا فيه مقتدينَ فيه بعِلمِ الصَّحابةِ، وهم يَرَون أنَّ الصَّحابة فوقهم في جميعِ أبوابِ الفَضلِ والمناقِبِ، والذين اتَّبَعوهم من أهلِ الآثارِ النبَويَّةِ، وهم أهلُ الحديثِ والسُّنةِ العالِمون بطريقِهم، المتَّبِعون لها، وهم أهلُ العِلمِ بالكِتابِ والسُّنَّةِ في كلِّ عَصرٍ ومِصرٍ)
[90] يُنظر: ((شرح العقيدة الأصفهانية)) (ص: 180). .
وقال أيضًا: (من المعلوم: أنَّ كُلَّ من كان بكلامِ المتبوعِ وأحوالِه وبواطِنِ أمورِه وظواهِرِها أعلَمَ، وهو بذلك أقوَمُ؛ كان أحَقَّ بالاختِصاصِ به، ولا رَيبَ أنَّ أهلَ الحديثِ أعلمُ الأمَّة وأخصُّها بعِلمِ الرَّسولِ وعِلمِ خاصَّتِه، مِثلُ الخُلَفاءِ الرَّاشِدينَ، وسائِرِ العَشَرةِ، ومِثلُ: أُبَيِّ بنِ كعبٍ، و
عبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ، ومُعاذِ بنِ جَبَلٍ، وعبدِ اللهِ بنِ سَلامٍ، وسلمانَ الفارسيِّ، وأبي الدَّرداءِ، وعُبادةَ بنِ الصَّامِتِ، و
أبي ذَرٍّ الغِفاريِّ، وعَمَّارِ بنِ ياسرٍ، وحذيفةَ بنِ اليَمانِ، ومِثلُ: سَعدِ بنِ مُعاذٍ، وأُسيدِ بنِ حُضيرٍ، وسَعدِ بنِ عُبادةَ، وعَبَّادِ بنِ بِشرٍ، وسالمٍ مولى أبي حُذَيفةَ، وغيرِ هؤلاء ممَّن كان أخَصَّ النَّاسِ بالرَّسولِ، وأعلَمَهم بباطِنِ أمورِه، وأتبَعَهم لذلك؛ فعُلَماءُ الحديثِ أعلَمُ النَّاسِ بهؤلاء، وببواطِنِ أمورِهم، وأتبَعُهم لذلك)
[91] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (4/91). .
وقال
ابنُ تَيميَّةَ أيضًا: (يحتاجُ المسلِمونَ إلى شيئينِ: أحدُهما: معرفةُ ما أراد اللهُ ورسولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بألفاظِ الكِتابِ والسُّنَّةِ، بأن يَعرِفوا لغةَ القُرآنِ التي بها نزل، وما قاله الصَّحابةُ والتَّابِعونَ لهم بإحسانٍ، وسائِرُ عُلَماءِ المسلمينَ؛ في معاني تلك الألفاظِ؛ فإن الرَّسولَ لَمَّا خاطبَهم بالكِتابِ والسُّنَّةِ عرَّفَهم ما أراد بتلك الألفاظِ، وكانت مَعرِفةُ الصَّحابةِ لمعاني القُرآنِ أكمَلَ من حِفْظِهم لحروفِه، وقد بلَّغوا تلك المعانيَ إلى التَّابعينَ أعظَمَ ممَّا بَلَّغوا حروفَه؛ فإنَّ المعانيَ العامَّةَ التي يحتاجُ إليها عمومُ المسلِمينَ، مثل معنى التَّوحيدِ، ومعنى الواحِدِ، والأحَدِ، والإيمانِ، والإسلامِ، ونحوِ ذلك؛ كان جميعُ الصَّحابةِ يعرفونَ ما أحبَّ اللهُ ورسولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم من معرفتِه، ولا يحفَظُ القُرآنَ كُلَّه إلَّا القليلُ منهم، وإن كان كُلُّ شَيءٍ مِن القرآنِ يحفَظُه منهم أهلُ التَّواترِ، والقرآنُ مملوءٌ من ذِكرِ وَصفِ اللهِ بأنَّه أحدٌ وواحِدٌ، ومِن ذِكرِ أنَّ إلهَكم واحدٌ، ومِن ذِكْرِ أنَّه لا إلهَ إلَّا اللهُ، ونحوِ ذلك. فلا بدَّ أن يكونَ الصَّحابةُ يَعرِفون ذلك؛ فإنَّ معرفتَه أصلُ الدِّينِ، وهو أوَّلُ ما دعا الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إليه الخَلْقَ، وهو أوَّلُ ما يقاتِلُهم عليه، وهو أوَّلُ ما أمَرَ رسُلَه أن يأمُروا النَّاسَ به)
[92] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (17/353). .
والسَّلَفُ: هم الصَّحابةُ رضي الله عنهم فمَن بَعْدَهم ممَّن تَبِعَهم بإحسانٍ مِنْ أهلِ القُرونِ المفضَّلةِ.
قال اللهُ تعالى:
وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللهُ عنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة: 100] .
وعن
عبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((خيرُ النَّاسِ قَرْني، ثمَّ الذين يلونهم، ثم الذين يَلونَهم )) [93] أخرجه البخاري (2652)، ومسلم (2533). .
وعَنْ واثِلةَ بنِ الأسقَعِ رَضِيَ اللهُ عنه قال: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((لا تَزالونَ بخَيرٍ ما دامَ فيكم مَن رآني وصاحَبَني، واللهِ لا تزالونَ بخَيرٍ ما دامَ فيكم من رأى مَن رآني وصاحَبَ مَن صاحَبَني، واللهِ لا تزالونَ بخَيرٍ ما دامَ فيكم مَن رأى مَن رأى مَن رآني، وصاحَبَ مَن صاحَبَ مَن صاحَبَني)) [94] أخرجه ابنُ أبي شيبة (33084) واللَّفظُ له، والطَّبراني (22/85) (207)، وأبو نُعَيم في ((معرفة الصحابة)) (37) مختَصَرًا. صحَّحه الوادعيُّ في ((الصحيح المسند)) (1213)، وحسَّن إسنادَه ابنُ حجر في ((فتح الباري)) (7/7)، وجَوَّده الألباني في ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) (3283)، وذكر الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (10/23)، والشوكاني في ((در السحابة)) (32) أنَّه رُوِيَ من طُرُقٍ ورجالٍ أحَدُها رجالُ الصَّحيحِ. .