المَبْحَثُ الثَّالثُ: فوائِدُ التَّشْبيهِ وثَمرتُه
اتَّفق العُقَلاءُ على شرَفِ قدْرِ التَّشْبيهِ وفَخامةِ أمرِه في
البَلاغَةِ، وأنَّ تَعْقيبَ المَعاني به يُضاعِفُ قُواها في تَحْريكِ النُّفوسِ إلى المَقْصودِ بها، سواءٌ كانت مدْحًا أو ذمًّا أوِ افْتِخارًا أو نحْوَ ذلك.
وانظُرْ بنَفْسِك وتأمَّلْ بَلاغَةَ قولِ أبي تَمَّامٍ: الكامل
وإذا أرادَ اللهُ نشْرَ فَضيلَةٍ
طُويتْ أتاحَ لها لِسانَ حَسودِ
لولا اشْتِعالُ النَّارِ فيما جاورَتْ
ما كان يُعرَفُ طِيبُ عَرْفِ العُودِ
كيف ساعَد هذا البيتُ الثَّاني في تَوْكيدِ فِكرةِ البيتِ الأوَّلِ، وهُو أنَّ الحاسِدَ يَنشُرُ بلِسانِه فَضائِلَ المَحْسودِ المَطْموسةَ، فدلَّل على ذلك وأكَّدَه بتَشْبيهِه ذلك بالنَّارِ الَّتي لولا سَريانُها في الحَشائِشِ والنَّباتاتِ حولَها لَما كنَّا عَرَفْنا رائِحةَ العُودِ ولا اسْتَمتَعْنا به.
كذلك فرقٌ بينَ أنْ تقولَ: "الدُّنيا لا تَدومُ" وتَسكُتَ، وبينَ أنْ تَشفَعَ ذلك بقولِ لَبيدٍ مَثلًا: الطويل
وما المالُ والأهْلُونَ إلَّا وَدائِعٌ
ولا بُدَّ يومًا أنْ تُردَّ الوَدائِعُ
وأسْبابُ تلك الفائِدةِ راجِعةٌ إلى:- ما يَحصُلُ للنَّفسِ مِنَ الأُنْسِ به بإخِراجِها مِنَ الخَفيِّ إلى الجَليِّ الواضِحِ؛ ألَا تَرى أنَّك إذا وصَفتَ يومًا بالقِصَرِ، فقلتَ: هذا يومٌ مِن أقْصَرِ ما يُتصَّورُ، لم يَجدِ السَّامِعُ له مِنَ الأُنْسِ ما يَجدُه لنحْوِ قولِك: يومٌ كإبْهامِ العُصفورِ. ومنه الانْتقالُ ممَّا يَحصُلُ لها بالفِكرَةِ إلى ما يُعلَمُ بالفِطرةِ، كقولِ الشَّاعِرِ: الكامل
كمْ مَنزلٍ في الأرْضِ يَألَفُه الفتى
وحَنينُه أبدًا لأوَّل مَنْزلِ
نَقِّل فُؤادَكَ حيثُ شِئتَ مِنَ الهوى
ما الحُبُّ إلَّا للحَبيبِ الأوَّلِ
- ما يَحصُلُ لها مِنَ الأُنْسِ بإخْراجِها ممَّا لم تَألَفْه إلى ما هي به آلَفُ، فإذا كُنتَ أنت وصاحِبٌ لك يَسْعى في أمرٍ على شاطِئِ نهْرٍ، وأردتَ أنْ تُقرِّرَ له أنَّه لا يَحصُلُ مِن سَعيِه على فائِدةٍ، فأدْخلْتَ يدَك في الماءِ ثمَّ قلتَ له: انظُرْ، هل حصَل في كفِّي شيءٌ مِنَ الماءِ؟ فكذلك أنت في أمرِك، كان لذلك تَأثيرٌ في النَّفْسِ وتَمْكينٌ للمَعْنى في القلْبِ يَزيدُ على القولِ المُرسَلِ إرْسالًا
[287] ينظر: ((علوم البلاغة)) للمراغي (ص: 213)، ((بغية الإيضاح لتلخيص المفتاح في علوم البلاغة)) لعبد المتعال الصعيدي (3/ 385). .
قِيمةُ التَّشْبيهِ عندَ العَربِ:لقد كان اهْتِمامُ القُدماءِ بالتَّشْبيهِ لا حدَّ له، يُروَى أنَّ عبدَ الرَّحمنِ بنَ حسَّانَ بنِ ثابِتٍ جاء إلى أبيه ذاتَ يومٍ باكيًا، فقال: "لسَعني طائِرٌ"، فقال حسَّانُ: صِفْه لي يا بُنيَّ، قال: كأنَّه ثوْبُ حِبَرَةٍ، فقال حسَّانُ: نطَق ابْني الشِّعرَ وربِّ الكَعْبةِ
[288] ينظر: ((الحيوان)) للجاحظ (3/ 30). !
فهذه الرِّوايةُ تُنْبئُك أنَّ المُعْتدَّ به في شاعِريَّةِ الشَّاعرِ قُدرتُه على التَّشْبيهِ وإبداع ِالصُّورِ، ولهذا كان ذو الرُّمَّةِ يقولُ: (إذا قلتُ: "كأنَّ" فلم أجِدْ مَخْرجًا، فقطَع اللهُ لِساني)
[289] ((الحيوان)) للجاحظ (7/ 99). .
ورُوِي أنَّ رجُلًا جاء إلى ابنِ الرُّوميِّ يسألُه: لِمَ لا تُشَبِّهُ تَشْبيهَ ابنِ المُعْتزِّ وأنتَ أشعَرُ منه؟ فقال ابنُ الرُّوميِّ: أنْشِدني شيئًا مِن هذا الَّذي اسْتَعْجزتَني في مِثلِه، فأنشَده في صِفةِ الهِلالِ: الكامل
فانظُرْ إليه كزَوْرقٍ مِن فِضَّةٍ
قدْ أثْقلَتْه حُمولةٌ مِن عَنْبرِ
فصاح ابنُ الرُّوميِّ: واغَوْثاهُ! لا يُكلِّفُ اللهُ نفْسًا إلَّا وُسْعَها، ذلك إنَّما يصِفُ ماعونَ بيتِه؛ لأنَّه ابنُ الخُلَفاءِ. ثمَّ ذكَر له ابنُ الرُّوميِّ أبْياتًا في التَّشْبيهِ يَسْتحسِنُها هو، ويَظُنُّ أنَّه لا يَسْتطيعُ أحدٌ أنْ يُباريَه فيها
[290] ينظر: ((العمدة في محاسن الشعر وآدابه)) لابن رشيق (2/ 236). .
ولِهذا كان التَّفْضيلُ بينَ الشُّعراءِ في قُدْرتِهم على التَّشْبيهِ؛ يقولُ القاضي الجُرْجانيُّ: (وكانتِ العَربُ إنَّما تُفاضِلُ بَيْنَ الشُّعراءِ في الجَودَةِ والحُسْنِ بشرَفِ المَعْنى وصِحَّتِه، وجَزالةِ اللَّفظِ واسْتِقامتِه، وتُسَلِّمُ السَّبْقَ فيه لمَن وصَف فأصابَ، وشبَّه فقارَب، وبَدَهَ
[291] بَدَهَه بأَمْرٍ -كمَنَعَهُ- بَدْهًا: اسْتَقْبَلَهُ بِهِ مُفاجَأَةً. والبَدْهُ، والبَداهَةُ، والبَديهَةُ: أَوَّلُ كُلِّ شيءٍ وَمَا يَفْجَأُ مِنْهُ. ينظر: ((تاج العروس)) للزَّبِيدي (36/ 336). فأغْزَر، ولمَن كثُرتْ سوائِرُ أمْثالِه وشَوارِدُ أبْياتِه، ولم تكنْ تَعبَأُ بالتَّجْنيسِ والمُطابَقةِ، ولا تَحفِلُ بالإبْداعِ والاسْتِعارةِ)
[292] ((الوساطة بَيْنَ المُتنبِّي وخصومه ونقد شعره)) للقاضي الجرجاني (ص: 33). .
وأرْكانُ التَّشْبيهِ أرْبعةٌ:1- المُشبَّهُ.
2- المُشبَّهُ به. ويُسمَّيانِ طَرفَيِ التَّشْبيهِ.
3- وجْهُ الشَّبَهِ.
4- أدَاةُ التَّشْبيهِ.