المَطْلَبُ الرَّابعُ: التَّشْبيهُ التَّمْثيليُّ
هو ما كان وجْهُ الشَّبهِ فيه مُنْتزَعًا مِن شَيئَينِ فأكْثرَ، سواءٌ انْتُزِع مِن أمورٍ حِسِّيَّةٍ أم عقْليَّةٍ، وهُو مِن أبْلَغِ صُورِ التَّشْبيهِ بعدَ التَّشْبيهِ البَليغِ؛ لِما في وجْهِه مِنَ التَّفْصيلِ الَّذي يَحْتاجُ إلى إمْعانِ فِكْرٍ، وتَدقيقِ نظَرٍ، وهُو أعْظمُ أثَرًا في المَعاني: يَرفَعُ قَدْرَها، ويُضاعِفُ قُواها في تَحْريكِ النُّفوسِ لها، فإنْ كان مدْحًا كان أوْقَعَ، أو ذمًّا كان أوْجَعَ، أو بُرْهانًا كان أسْطَعَ.
وفي ذلك النَّوعِ مِنَ التَّشْبيهِ لا تكونُ المُقارَنةُ بَيْنَ طرفَينِ مُفردَينِ، بل بَيْنَ طرفَينِ تَتَّسعُ دائِرةُ كلٍّ منْهما وتكثُرُ عَناصِرُه، وتَتعدَّدُ مُتعلِّقاتُه، بحيثُ لا يُسْتطاعُ إدْراكُ التَّشابهِ بينَهما إلَّا عن طَريقِ النَّظرةِ المُتأنِّيةِ المُسْتقصيةِ الَّتي تَسْتوعِبُ تلك العَناصِرَ أوِ المُتعلِّقاتِ، وتُدرِكُ ما بينَها جَميعًا مِن تَرابُطٍ وتَماسُكٍ في نَسيجِ الصُّورةِ.
فمن ذلك التَّشْبيهِ قولُه تعالى:
مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا [الجمعة: 5] .
فهذه الآيةُ تُشبِّهُ اليَهودَ الَّذينَ نزَلت عليهم التَّوراةُ فعَلِموا ما بها مِن شرائِعَ وأحْكامٍ، ثمَّ لم يُنفِّذوها أو يَعمَلوا بمُقْتضاها- بالحِمارِ الَّذي يَحمِلُ فوقَ ظهرِه أثْقالًا مِنَ الكُتبِ والأسْفارِ النَّافِعةِ، الَّتي لا يَسْتفيدُ منها غيرَ التَّعبِ والمَشقَّةِ.
ووجْهُ الشَّبهِ هنا هو التَّعبُ والشَّقاءُ في أمرٍ له فائِدةٌ معَ الحِرمانِ منْها، وهُو ما لا يَسْتطيعُ تَحْصيلَه مَنْ لا يَملِكُ النَّظرةَ المُتأنِّيةَ البَلاغيَّةَ الأدبيَّةَ.
ومنه أيضًا قولُه تعالى:
إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاس وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [يونس: 24] .
قال عبدُ القاهِرِ الجُرْجانيُّ: (ألَا تَرى كيف كثُرتِ الجُمَلُ فيه؟ حتَّى إنَّك تَرى في هذه الآيةِ عشْرَ جُمَلٍ إذا فُصِّلتْ -وهِي وإنْ كان قد دخَل بعضُها في بعضٍ حتَّى كأنَّها جُملةٌ واحِدةٌ- فإنَّ ذلك لا يَمْنعُ مِن أنْ تكونَ صُورُ الجُملِ معنا حاصِلةً تُشيرُ إليها واحِدةً واحِدةً. ثمَّ إنَّ الشَّبهَ مُنْتزَعٌ مِن مَجْموعِها، مِن غيرِ أنْ يُمكِنَ فصْلُ بعضِها عن بعضٍ، وإفْرادُ شطْرٍ مِن شطْرٍ، حتَّى إنَّك لو حذَفتَ منْها جُملةً واحِدةً مِن أيِّ مَوضِعٍ كان، أخَلَّ ذلك بالمَغْزى مِنَ التَّشْبيهِ)
[303] ((أسرار البلاغة)) لعبد القاهر الجرجاني (ص: 109). .
ومنه قولُ كُثَيِّرِ عزَّةَ: الطويل
كأنِّي وتَهْيامي بعزَّةَ بعدَما
تَخلَّيتُ عمَّا بينَنا وتَخلَّتِ
لَكالمُرْتجي ظِلَّ الغَمامَةِ كلَّما
تَبوَّأ منْها للمَقيلِ اضْمحلَّتِ
كأنِّي وإيَّاها سَحابةُ مُمْحِلٍ
رجاها فلَّما جاوزَتْهُ اسْتهلَّتِ
كما أبْرقَتْ قومًا عِطاشًا غَمامَةٌ
فلَّما رأَوْها أقْشَعَتْ وتَجلَّتِ
فالشَّاعِرُ هنا يصِفُ حالَه بعدَ فِراقِه لمَحْبوبتِه بغيرِ صُورةٍ، كلُّ واحِدةٍ منها مُركَّبةٌ مِن غيرِ وجْهِ شَبهٍ؛ ففي البَيتَينِ الأوَّلَين يُشبِّهُ نفْسَه بالَّذي يَتفقَّدُ ويَنْتظِرُ مَوضِعَ ظلِّ سَحابةٍ، كلَّما اقْترَبَ مِن ظلِّها وتَهيَّأ للنَّومِ تحتَها اضْمَحلَّتْ عنه وانْصَرفتْ، وفي البيتِ الثَّالثِ يُصوِّرُ نفْسَه معَها بالعَطْشانِ الَّذي يَهْفو إلى المطَرِ وقد رأى سَحابةً، يأمُلُ منْها أنْ تُغيثَه بمائِها وتَرويَه وتَرويَ زرْعَه وأرْضَه، فلَّما تَجاوزَتْ محلَّه وصارتْ بَعيدةً عنه أمْطَرتْ. وفي البيتِ الرَّابعِ يُصوِّرُ نفْسَه بحالِ العِطاشِ الَّذين أبْرقَتْهم غَمامَةٌ مُنْذِرةٌ بالمطَرِ، فاسْتَبْشروا وفرِحوا، فلم تَلبَثْ أنْ أقْشَعتْ ومنَعتْ عنهم ماءَها وتَبدَّدتْ.
هذه التَّشْبيهاتُ كلُّها مُؤدَّاها هو الفشَلُ والشُّعورُ بالخَيْبةِ بعدَ اقْترابِ النَّجاحِ وتَحقُّقِ الأملِ، فلمَّا أحسَّ كُثِّيرٌ مِن عزَّةَ أُنْسًا وحُبًّا، وكادا يَجْتمعانِ على أمرِهما، افْترَقا ولاتَ ساعةَ مَنْدَمِ.
ومنه أيضًا قولُ الشَّاعِرِ: الكامل
وأشدُّ ما لاقيْتُ مِن ألَمِ الجَوى
قُرْبُ الحَبيبِ وما إليه وُصولُ
كالعِيسِ في البَيداءِ يقْتُلُها الظَّمَا
والماءُ فوقَ ظُهورِها مَحْمُولُ
فالشَّاعِرُ في البَيْتَينِ يصِفُ حالَه وشدَّةَ ما وصَل إليه مِنَ الكمَدِ وألَمِ العِشْقِ والحُبِّ، وأنَّه قَريبٌ مِن دارِ الحَبيبِ، غيرَ أنَّه لا يَسْتطيعُ الوُصولَ إليه، ثمَّ صوَّر ذلك بحالِ الإبِلِ في الصَّحراءِ تَكادُ تهلِكُ عطَشًا، وهِي تَحمِلُ الماءَ على ظَهْرِها، فلا هي اسْتَطاعتْ أنْ تَنالَه رغْمَ قُرْبِه منها، ولا هي تَقدِرُ على الصَّبرِ عنه.
ومنه أيضًا قولُ ابنِ المُعتَزِّ: الكامل
اصْبِرْ على كيْدِ الحَسو
دِ فإنَّ صبرَكَ قاتِلُه
فالنَّارُ تأكُلُ نفْسَها
إنْ لم تَجدْ ما تَأكُلُه
شبَّه ابنُ المُعتَزِّ انْهيارَ الحاقِدينَ وحُرقتَهم مِن لا مُبالاةِ الأفاضِلِ بِهم بحالِ النَّارِ الَّتي إنْ لم تَجِدْ شيئًا تأكُلُه أكَلتْ نفْسَها وماتتْ وانْطفَأتْ، فوَجهُ الشَّبهِ هنا مُنْتزَعٌ مِن أمورٍ مُتعدِّدةٍ لا مِن شيءٍ واحِدٍ كالتَّشْبيهاتِ غيرِ التَّمْثيليَّةِ.
وتَشْبيهُ التَّمْثيلِ نوعانِ:- ظاهِرُ الأداةِ: وهُو ما كانت أداةُ التَّشْبيهِ فيه ظاهِرةً، كالأمْثِلةِ السَّابِقةِ.
- خَفِيُّ الأداةِ: وهُو ما كانتِ الأداةُ غيرَ مَذْكورةٍ، ولا يَفهَمُ أنَّه تَشْبيهٌ إلَّا مَنْ أُوتِي عقْلًا وفِطْنةً وذَوْقًا، كقولِك للَّذي يَتردَّدُ في شيءٍ: "أراك تُقدِّمُ رِجْلًا وتُؤخِّرُ أخْرى"، فإنَّ الأصْلَ فيها: أراك في تَردُّدِك مِثلَ مَنْ يُقدِّمُ رِجْلًا ويُؤخِّرُ أخرى. فالأداةُ مَحْذوفةٌ، ووجْهُ الشَّبهِ: هَيْئةُ الإقْدامِ والإحجامِ المَصْحوبَينِ بالشَّكِّ.
والتَّشْبيهُ التَّمْثيليُّ إمَّا أنْ يَقعَ في:- أوَّلِ الكَلامِ: فيكونَ قِياسًا مُوضَّحًا، وقولًا مَدلولًا عليه بالبُرهانِ، كقَولِه تعالى:
مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة: 261] .
- خِتامِ الكَلامِ: فيُفيدَ تَقْريرَ الكَلامِ وتَوْكيدَه، كالبُرهانِ الَّذي تَثبُتُ به صِحَّةُ الدَّعوى، كقَولِ الشَّاعِر: البسيط
لا يَنزِلُ المَجْدُ إلَّا في مَنازلِنا
كالنَّومِ ليس له مَأوًى سِوى المُقَلِ
فإنَّ الشَّاعرَ هنا بعدَ أنْ ذكَر أنَّ المجْدَ إنَّما هو رَبيبُ بُيوتِهم، لا يُفارِقُهم، عقَّب وختَم ذلك بِما يُؤكِّدُه، وهُو تَشْبيهُ مُلازَمةِ المجْدِ لهم بالنَّومِ الَّذي لا يَجدُ له مَنْزِلًا إلَّا في مُقَلِ العُيونِ
[304] ينظر: ((جواهر البلاغة)) للهاشمي (ص: 236)، ((الصورة البيانية في الموروث البلاغي)) لحسن طبل (ص: 59). .