المَبْحَثُ الرَّابِعَ عشَرَ: المَذْهَبُ الكَلاميُّ
وهو: "أن يأتيَ المُتكلِّمُ بحُجَّةٍ على ما يَدَّعيه على طَريقةِ المُتكلِّمينَ، وهِي أنْ تكونَ بعدَ تَسليمِ المُقدِّماتِ مُستلزِمةً للمُدَّعَى"، أو: "أن يأتيَ المُتكلِّمُ على صحَّةِ دَعواه وإبْطالِ دَعوى خَصْمِه بحُجَّةٍ عقْليَّةٍ قاطِعةٍ تصِحُّ نِسبتُها إلى علْمِ الكَلامِ".
وإنَّما نُسِبتْ طَريقةُ الاسْتِدلالِ إلى المُتكلِّمينَ، والمُتكفِّلُ ببَيانِها أهلُ المِيزانِ؛ لكَمالِ اجْتِهادِهم في اسْتِعمالِ قَواعِدِ الاسْتدلالِ في المَطالِبِ الكَلاميَّةِ، حتَّى صاروا عَلَمًا يُضرَبُ بهم المَثَلُ في البحثِ وإلْزامِ الخُصومِ بأنواعِ الدَّليلِ.
فمِن ذلك قولُه تعالى:
وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [الرعد: 4] ؛ فإنَّه تعالى ذكَر الدَّليلَ على فَسادِ قولِ مَن يُضيفُ هذه الحَوادِثَ إلى الطَّبعِ، وحرَّره على وجْهٍ أسقَطَ كثيرًا مِنَ الأسْئلةِ بأنْ بيَّنَ أنَّ في الأرضِ قِطَعًا مُتجاوِراتٍ يَقرُبُ بعضُها مِن بعضٍ؛ ليُسقِطَ قولَ مَنْ قال: إنَّ الأرضَ إذا تَباعدَتْ أطرافُها اخْتَلفتِ التُّربةُ، وكان منْها الطَّيِّبُ والخَبيثُ؛ لأنَّ ذلك يَبعُدُ في المُتقارِبِ منْها، وكذلك لا يُمكِنُ ادِّعاءُ أنَّ تَغيُّرَ الهواءِ هو المُؤثِّرُ؛ لأنَّ الأراضيَ ما لم يَتباعَدْ بعضُها مِن بعضٍ لا يَظهَرُ في أهويتِها التَّغيُّرُ، وكذلك الماءُ إذا كان واحِدًا لا يُمكِنُ لأحدٍ أنْ يدَّعيَ أنَّ اخْتِلافَ الأكْلِ راجِعٌ إلى اخْتِلافِ الماءِ. فدلَّ بذلك كلِّه أنَّه بفِعلِ القادِرِ الحَكيمِ.
وقولُه تعالى:
وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ [المائدة: 18] ؛ يقولُ: لو كنْتُم أبْناءَه لأشْفَقَ عليكم ولم يُعذِّبْكم، فشأنُ المُحبِّ ألَّا يُعذِّبَ حبَيبَه، وشأنُ الأبِ ألَّا يُعذِّبَ أبْناءَه، وأنتم تُعذَّبون، فلستُم بأبنائِه حِينَئذٍ.
وقولُه تعالى:
وَهُوَ الَّذي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [الروم: 27] ؛ فإعادَةُ الخلْقِ أهْونُ مِن بَدْءِ الخلْقِ، وما كان أهْونَ فهُو داخِلٌ في الإمْكانِ، فأثْبتَ البَعثَ والحشْرَ بدَليلٍ عقْليٍّ يَسْتلزِمُ التَّصديقَ واليَقينَ.
ومنه في الحَديثِ عن
ابنِ عَبَّاسٍ رَضِي اللهُ عنْهما قال: لمَّا نزَلتْ:
وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ [الشعراء: 214] ، صَعِد النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليْه وسلَّم على الصَّفا، فجعَلَ يُنادي:
((يا بَني فِهرٍ، يا بَني عَدِيٍّ)) -لِبُطونِ قُريشٍ- حتَّى اجْتَمعوا، فجعَل الرَّجلُ إذا لم يَستطِعْ أنْ يَخرُجَ أرْسَل رَسولًا ليَنظُرَ ما هو، فجاءَ أبو لَهَبٍ وقُريشٌ، فقال:
((أرأيتَكُم لو أخبرْتُكم أنَّ خَيلًا بالوادي تُريدُ أنْ تُغِيرَ عليكم، أكنْتُم مُصَدِّقيَّ؟!)) قالوا: نعَمْ، ما جرَّبْنا عليك إلَّا صِدْقًا، قال:
((فإنِّي نَذيرٌ لكم بينَ يَديْ عَذابٍ شَديدٍ )). فقالَ أبو لَهَبٍ: تبًّا لك سائِرَ اليومِ، ألهذا جمَعْتَنا؟! فنزَلتْ:
تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ [المسد:1 - 2] [428] أخرجه البخاري (4770) واللفظ له، ومسلم (208). .
ومنه قولُ النَّابِغةِ في اعْتِذارِه إلى النُّعمانِ بنِ المُنْذِرِ: الطويل
حلَفتُ فلم أتْرُكْ لنفْسِك رِيبةً
وليس وَراءَ اللهِ للمَرْءِ مَذهَبُ
لِئن كُنتَ قد بُلِّغتَ عنِّي جِنايةً
لَمُبلِغُك الواشي أغَشُّ وأكْذَبُ
ولكنَّني كنتُ امْرأً لي جانِبٌ
مِنَ الأرْضِ فيه مُسترادٌ ومَذهَبُ
مُلوكٌ وإخْوانٌ إذا ما مدَحتُهم
أُحَكَّمُ في أموالِهم وأُقرَّبُ
كفِعلِك في قومٍ أراكَ اصْطَنعتَهم
فلم تَرَهُم في مدْحِهم لك أذْنَبوا
كان النابِغةُ قد مدَح آلَ جَفنةَ بالشَّامِ، فأغضَبَ ذلك النُّعمانَ بنَ المُنذِرِ، فبرَّأ النَّابغةُ نفْسَه بالقِياسِ المَنْطقيِّ، وهو أنَّهم أحْسَنوا إليه فمدَحهم، كما أنَّ النُّعمانَ إذا أحسَنَ إلى قومٍ مدَحوه، فليس الَّذين مدَحوا النُّعمانَ بمُذْنبينَ، وكذلك النَّابغةُ حينَ مدَح مَن أحْسَنوا إليه، فلو كان مدْحُ النَّابغةِ لآلِ جَفنةَ ذنْبًا، لكان مدْحُ هؤلاء للنُّعمانِ كذلك.
ومنه قولُ الشَّاعِر: الرمل
لو يكونُ الحُبُّ وصْلًا كلُّه
لم تكنْ غايتُه إلَّا الملَلْ
أو يكونُ الحُبُّ هَجْرًا كلُّه
لم تكنْ غايتُه إلَّا الأجَلْ
إنَّما الوصْلُ كمِثلِ الماءِ لا
يُستَطابُ الماءُ إلَّا بالعَلَلْ
فاسْتَعملَ الشَّاعرُ في البيتَينِ الأوَّلِ والثَّاني القِياسَ الشَّرطيَّ، وهُو أنَّه إنْ كان الحُبُّ كلُّه وصْلًا لَكانتْ نِهايتُه المَللَ، ولو كان على العَكْسِ هَجْرًا كُلُّه لأوْدى بالمُحبِّ المَحرومِ إلى المَوتِ، ثمَّ اسْتَعملَ في البيتِ الثَّالثِ القِياسَ، وهُو أنَّ الوصْلَ مِثلُ الماءِ، فكما أنَّ الماءَ لا يُستطابُ إلَّا بعدَ العطَشِ، فكذلك الوصْلُ لا يَحْلو إلَّا بعدَ مَرارةِ الهجْرِ
[429] ينظر: ((أنوار الربيع في أنواع البديع)) لابن معصوم المدني (4/356)، ((جواهر البلاغة)) للهاشمي (ص: 305). .