المَطْلَبُ الأوَّلُ: أقْسامُ السَّجْعِ
يَنْقسِمُ السَّجْعُ باعْتِبارِ الوزْنِ والتَّقْفيةِ بينَ طَرفَيه إلى أرْبعةِ أقْسامٍ:
1- السَّجْعُ المُطرَّفُ: وهُو ما اخْتَلفتْ فيه الفَواصِلُ وزْنًا واتَّفقَتْ رَوِيًّا:
والمُرادُ بالوزْنِ هنا الوزْنُ العَرُوضيُّ لا الصَّرْفيُّ، وهُو تَساوي الكَلمتَينِ في تَرتيبِ الحُروفِ والحَرَكاتِ.
كقولِ اللهِ تعالى:
مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا * وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا [نوح: 13-14] ؛ فكلٌّ مِن كَلمتَي: "وَقارًا" و"أطْوارًا" انْتَهى بحرْفِ الرَّاءِ المُتحَرِّكةِ بالفَتحةِ الطَّويلةِ للوقْفِ على التَّنوينِ، المَسْبوقةِ بالمدِّ بالألِفِ، إلَّا أنَّ وزْنَ كَلمةِ "وَقارًا" عَرُوضيًّا: "فَعُولُن"، ووزْنَ كَلمةِ "أطْوارًا": "مُسْتَفْعِل"، فاتَّفقا في الرَّويِّ واخْتَلفا في الوزْنِ.
ومنه قولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((إنَّ اللهَ كَرِهَ لكم ثَلاثًا: قيلَ وقالْ، وإِضاعةَ المالْ، وكَثْرةَ السُّؤالْ )) [469] أخرجه البخاري (1477)، ومسلم (593) من حديث المغيرة بن شعبة رَضِيَ اللهُ عنه. ؛ فكَلِماتُ: "وقَال"، "المَال"، "السُّؤال" اتَّفقتْ في أنَّها فَواصِلُ جُمَلٍ انْتَهت باللَّامِ السَّاكِنةِ لأجْلِ الوقْفِ، المَسْبوقةِ بالمدِّ بالألِفِ، غيرَ أنَّها مُخْتلفةٌ في الوزْنِ العَروضيِّ؛ فوزْنُ "وقَال": "فَعُولْ"، ووزْنُ: "المال": "مُسْتَفْعْ"، ووزْنُ: "السُّؤال": "فَاعِلَاتْ".
وعَكسُه الموازنةُ، كقولهِ تعالى:
وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ * وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ [الغاشية: 15-16] ؛ فالموازَنةُ ليْستْ مِن السَّجعِ.
2- التَّرصيعُ: وهُو أن تُقابَلَ كلُّ لفْظةٍ مِن فِقرةِ النَّثرِ أو صدْرِ البيتِ بلفْظةٍ على وزْنِها ورَوِيِّها، كقَولِه تعالى:
إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ [الانفطار: 13-14]؛ فكلُّ كَلمةٍ مِنَ الآيةِ الأُولى تُقابِلُ ما يُوازيها وزْنًا ورَوِيًّا؛ فكَلمةُ "إنَّ" هنا يُقابِلُها نفْسُ الحرْفِ، و"الأبْرار" تُقابِلُ "الفُجَّار" وزْنًا ورَويًّا، وكَلمةُ "لَفِي" مُكرَّرةٌ في الآيةِ الأُخْرى، وكَلمةُ "نَعِيم" تُقابِلُ "جَحِيم" وزْنًا عَرُوضيًّا وصرْفيًّا، وتتَّفقانِ في الرَّويِّ، وهُو المِيمُ السَّاكِنةُ المَسْبوقةُ بالمدِّ بالياءِ.
وقولِه تعالى:
إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ [الغاشية: 25-26] ؛ فـ"إنَّ" مُكرَّرةٌ، و"إلينا" و"علينا" يتَّفقانِ في الوزْنِ العَروضيِّ، وهُو "فعولن"، وفي القافِيةِ، وهِي النُّونُ المُشْبَعةُ بالمدِّ بالألِفِ، و"إيابَهم" و"حِسابَهم" مُتَّفقانِ في الوزْنِ العَروضيِّ، وهُو: "مَفَاعِلُن"، والقافِيةِ، وهِي المِيمُ السَّاكِنةُ المَسْبوقةُ بضَمٍّ.
ومنه قولُ الحَريريِّ: "يَطبَعُ الأسْجاعَ بجَواهِرِ لفْظِه، ويَقرَعُ الأسْماعَ بزَواجِرِ وعْظِه"، فكلُّ كَلمةٍ تُقابِلُ أخْتَها مُتَّفقةً معها في الوزْنِ الصَّرفيِّ -وهذا بَداهَةً يَنتُجُ عنه اتِّفاقٌ في الوزْنِ العَروضيِّ- وتَتَّفقُ معَها في القافيةِ كذلك؛ فـ(يَطبَع) و(يَقرَع) مُتَّفِقتانِ في الوزْنِ العَروضيِّ والصَّرْفيِّ وفي القافيةِ، والأسْجاعُ والأسْماعُ كذلك، و(جَواهِر) و(زَواجِر) أيضًا معَ سبْقِهما بالباءِ الجارَّةِ، و(لفْظه) و(وعْظه) كذلك.
وقد يَدخُلُ هذا النَّوعُ في الشِّعرِ، كقولِ الشَّاعِر: الطويل
فيا يوْمَها كمْ مِن مُنافٍ مُنافِقِ
ويا ليْلَها كم مِن مُوافٍ مُوافِقِ
فكلُّ كَلمةٍ مِنَ الصَّدْرِ تُقابِلُ كلَّ كَلمةٍ مِنَ العَجُزِ، وتتَّفقُ معَها في الوزْنِ والتَّقفيةِ؛ فكَلمةُ "فيا" تُماثِلُ "ويا" معَ تَبْديلِ الفاءِ بالياءِ، و(يومَها) و(ليلَها) متَّفقانِ في الوزْنِ العَروضيِّ، وهُو "فاعِلن"، وفي القافيةِ، وهِي الهاءُ المُشْبعةُ بالمدِّ بالألِفِ، وكَلمةُ (كم) مُكرَّرةٌ في المَوضِعَينِ، وكذلك (مِن)، و(مُناف) و(مُوافٍ) بيْنَهما جِناسٌ ناقِصٌ اتَّفَق فيه الوزْنُ والرَّويُّ، واخْتَلفتِ النُّونُ والواوُ بينَهما، وكذلك (مُنافِق) و(مُوافِق)؛ فبيْنَهما اتِّفاقٌ في الحُروفِ وحَرَكاتِها إلَّا الخِلافَ في النُّونِ والواوِ كذلك.
3- السَّجْعُ المُتوازي: وهُو أن تتَّفقَ كَلمةُ الفاصِلةِ في الوزْنِ والرَّويِّ معَ الأخرى فحسْبُ، دُونَ اتِّفاقِ سائِرِ الكَلِماتِ في الجُملةِ.
فمنْه قولُه تعالى:
فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ * وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ [الغاشية: 13-14] ؛ فكَلمةُ "فيها" لا مُقابِلَ لها في الآيةِ الثَّانيةِ، وكَلمةُ "سُرُرٌ" تَخْتلفُ عَرُوضيًّا عن كَلمةِ "وأكْوابٌ"؛ فوزْنُ الأُولى: "فَعِلُن" ووزْنُ الثَّانيةِ: "مفاعيلن"، وقافيتُهما مُخْتلفةٌ كما لا يَخْفى، في حينِ اتَّفقتْ كَلمتا "مَرْفوعة" و"مَوْضوعة" في الوزْنِ العَروضيِّ "مُسْتَفْعِلْ"، والقافيةِ، وهِي العَينُ المَفْتوحةُ المُشبعَةُ بالهاءِ.
ويدخُلُ فيه ما اتَّفَق الحَشْوُ وزْنًا لا رَويًّا، كقولِ أبي مَنْصورٍ الثَّعالِبيِّ: "الحِقْدُ صدَأُ القُلوبِ، واللَّجاجُ سَببُ الحُروبِ"؛ فبغَضِّ النَّظرِ عن اخْتِلافِ كَلِمتَيِ الحقْدِ واللَّجاجِ في الوزْنِ والقافِيةِ، إلَّا أنَّ كَلمةَ (صدأ) تتَّفقُ في الوزْنِ العَروضيِّ معَ كَلمةِ (سَبب)، وكلٌّ منْهما ثَلاثةُ أحْرفٍ مُتحَرِّكةٍ، غيْرَ أنَّهما اخْتَلفا في القافِيةِ؛ فالأُولى قافِيتُها هَمْزةٌ مَضْمومةٌ، والثَّانيةُ باءٌ مَضْمومةٌ، فاخْتَلفا، كما أنَّ كَلمتَيِ الفاصِلةِ قد اتَّفَقَتا وزْنًا ورَويًّا؛ فالقُلوبُ والحُروبُ مُتَّفقانِ في الوزْنِ العَروضيِّ، وهُو: "فَاعِلانْ".
وقولِ الحَريريِّ: "ارْتِفاعُ الأخْطارِ باقْتِحامِ الأخْطارِ"؛ والأخْطارُ الأُولى: المَنازِلُ الاجْتِماعيَّةُ، والثَّانيةُ: جمْعُ الخطَرِ، وهِي المَهالِكُ. وبينَ كَلمتَيِ: "ارْتِفاع" و"اقْتِحام" اتِّفاقٌ في الوزْنِ العَروضيِّ والصَّرفيِّ، غيرَ أنَّ القافِيةَ مُخْتلفةٌ، والجِناسُ التَّامُّ بينَ كَلمتَيِ الأخْطارِ يدُلُّ على الاتِّفاقِ في الوزْنِ والقافِيةِ.
4- التَّشْطيرُ: وهُو خاصٌّ بالشِّعرِ، وهُو أن يكونَ لكلِّ شطْرٍ مِنَ البيتِ قافِيتانِ مُغايرتانِ لقافِيةِ الشَّطرِ الثَّاني، كقولِ أبي تَمَّامٍ: البسيط
تَدْبيرُ مُعْتصِمٍ، باللهِ مُنتقِمِ
للهِ مُرتَغِبٍ، في اللهِ مُرْتقِبِ
فصدْرُ البيتِ كأنَّه انْقسمَ شَطرَينِ لكلِّ شطْرٍ قافِيةٌ، وهِي المِيمُ في "مُعْتصِم" و"مُنْتقِم"، وكذلك العَجُزُ الَّذي حوَى جزأَينِ، كلُّ واحِدٍ منْهما انْتَهى بقافِيةِ الباءِ في "مُرْتغِب"، و"مُرْتقِب".
ومنه قولُ الشَّاعِرِ: البسيط
مُوفٍ على مُهَجٍ، في يومِ ذِي رَهَجٍ
كأنَّه أجَلٌ، يَسْعى إلى أمَلِ
فالبيتُ انْقَسم أرْبعةَ أشْطارٍ، الأَوَّلانِ انْتَهيا بقافِيةِ الجِيمِ، والآخِرانِ باللَّامِ
[470] ينظر: ((الأطول شرح تلخيص مفتاح العلوم)) لعصام الدين الحنفي (1/ 118)، ((علم البديع)) لعبد العزيز عتيق (ص: 215). .