المَطلَبُ الثَّاني: الاشتِقاقُ الكَبيرُ (ويَقومُ على التَّقليبِ)
قال
ابنُ جِنِّي: (هذا مَوضِعٌ لم يُسَمِّه أحَدٌ من أصحابِنا غَيرَ أنَّ أبا عليٍّ رَحمَه الله كان يَستَعينُ به ويَخْلُدُ إليه، مع إعوازِ الاشتِقاقِ الأصغَرِ، لَكِنَّه مع هذا لم يُسَمِّه، وإنَّما كان يَعتادُه عِندَ الضَّرورةِ، ويَستَروِحُ إليه ويَتَعَلَّلُ به، وإنَّما هذا التَّلقيبُ لَنا نَحنُ، وسَتَراه فتَعلَمُ أنَّه لَقَبٌ مُستَحسَنٌ)
[187] ((الخصائص)) لابن جني (2/ 135). .
وعُرِّف بأنَّه اتخاذُ كَلِمةٍ من كَلِمةٍ أُخرى مع مراعاةِ مُناسَبتِهما في المعنى، وكذلك اتِّفاقُهما في الحُروفِ الأصليَّةِ التي يتكوَّنانِ منها، ولا يُشتَرَطُ ترتيبُها، مِثل: حَمِدَ ومَدَحَ، وأَيِسَ ويَئِس، والحِلْم والحِمْل، ودَهْدَه وهَدهَدَ، وقد أطلق جُمهورُ الصَّرفيِّين على مِثلِ هذا النَّوعِ ما يُسَمَّى بالقَلبِ المكانيِّ، ويُعَدُّ الخليلُ بنُ أحمدَ الفراهيديُّ أوَّلَ من فكَّر فيه، ونلاحِظُ أنَّه رَتَّب مُعجَمَه (العين) على هذه الفِكرةِ التي أطلقَها، ولكِنْ أوَّلُ من كتَب في هذا القَولِ ووضَّح جوانِبَه وأركانَه هو
أبو الفَتحِ عُثمانُ بنُ جِنِّي [188] يُنظر: ((من ذخائر ابن مالك في اللغة مسألة من كلام الإمام ابن مالك في الاشتقاق)) لابن مالك (ص: 316)، ((المزهر)) للسيوطي (1/347)، ((دقائق العربية)) لأمين آل ناصر الدين (ص: 19)، ((تصريف الأسماء)) للطنطاوي (ص: 39)، ((دراسات في فقه اللغة)) لصبحي صالح (ص: 186)، .
فهو عِبارةٌ عنِ ارتِباطٍ بَينَ تَقاليبَ سِتَّةٍ واشتِراكِها في مَدلولٍ واحِدٍ مهما تَغايَرَ تَرتيبُها الصَّوتيُّ.
مِثال: (س م ل)، (س ل م)، (م س ل)، (م ل س)، (ل س م)، (ل م س)، والمَعنى الجامِعُ المُشتَمِلُ عليها (الإصحابُ والمُلايَنةُ)، فاليَدُ إذا مَرَّت عليه للمَسِّ لا تَكونُ خَشِنةَ المَلمَسِ، ونَجْدُ كذلك الأملَسَ والمَلْساءَ تَتَّفِقُ في نَفسِ المَعنى.
مِثال: (ج ب ر) (ب ر ج) (ر ج ب) (ج ر ب) (ب ر ج) (ر ب ج)، ويَرى أنَّ تَقاليبَ (جَبر) تُفيدُ القوَّةُ والشِّدَّةَ.
قال
ابنُ جِنِّي: (فمن ذلك تَقليبُ (ج ب ر) فهيَ -أينَ وقَعَت- للقوَّةِ والشِّدَّةِ؛ منها: (جَبَرتُ العَظْمَ والفَقيرَ) إذا قَوَّيتَهما وشَدَدْتَ منهما، والجَبرُ: المِلْكُ لقوَّتِه وتَقويَتِه لغَيرِه، ومنها: (رَجُلٌ مُجَرِّبٌ) إذا جَرَسَتْه
[189] جرَسَتْه الأمور: جرَّبته وأحكمته، يُنظر: ((الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية)) للجوهري (3/ 913)، ((كتاب الأفعال)) لابن القطاع (1/ 156). الأمورُ ونجَذَتْه
[190] يقال: نجده الدهر ونجذه: عرَّفه وعلَّمه. يُنظر: ((الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية)) للجوهري (2/ 542)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/ 392). ، فقَوِيَت مُنَّتُه واشتدَّت شكيمتُه، ومنه الجِرابُ؛ لأنَّه يَحفَظُ ما فيه، وإذا حُفِظَ الشَّيءُ ورُوعيَ اشتَدَّ وقَوِيَ، وإذا أُغفِلَ وأهمِلَ تَساقَطَ ورَدِيَ
[191] أي: هلك. يُنظر: ((مجمل اللغة)) لابن فارس (ص: 428)، ((المخصص)) لابن سيده (4/ 286). . ومنها: (الأبجَرُ والبُجْرةُ) وهو القَويُّ السُّرَّةِ)
[192] ((الخصائص)) لابن جني (2/ 137). .
ويَبدو لَنا أنَّ طَبيعةَ الاشتِقاقِ الكَبيرِ تَقضي بالتَّجوُّزِ في التَّعبيرِ والإكثارِ من إخراجِ الكَلامِ عن ظاهرِه والحِرصِ على تَلمُّسِ الألفاظِ العامَّةِ؛ لكَي تَصلُحَ للرَّبطِ بَينَ صُوَرٍ مُتَعَدِّدةٍ، تَتَلاقى في أشياءَ وتَختَلفُ في أشياءَ.
ومن أمثِلةِ هذا الضَّربِ منَ الاشتِقاقِ في تَفسيرِ ألفاظِ الذِّكرِ الحَكيمِ:- لَفظةُ (سرق):مِن قَوله تَعالى:
قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ [يوسف: 73] .
يُبَيِّنُ
البِقاعيُّ الاشتِقاقَ الكَبيرَ لمادَّةِ (سرَقَ) إذ يَقولُ: (ومادَّةُ سرَقَ بتَراكيبِها الأربَعةِ: سرَقَ، وسَقَر، وقَسر، وقَرس، تَدورُ على الغَلبةِ المُحْرِقةِ والمُوجِعةِ والضَّعفِ، والكَثرةِ والقِلَّةِ والمُخادَعةِ، فيَأتي الخَفاءُ واللَّيلُ)
[193] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (10/ 173). .
- ما جاء في تقاليبِ مادةِ (بخس):عند بيانِ قَولِه تعالى:
وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ [يوسف: 20] يُعلِّقُ
البِقاعيُّ على لَفظةِ (بَخس) بقَوله: (ومادَّةُ "بَخَس" بكُلِّ تَرتيبٍ من بَخس وخَبس، وسَبخ وسَخب؛ تَدورُ على القِلَّةِ، ويَلزَمُها الأخذُ بالكَفِّ، ومن أمثِلَتِها: بخَسْتُه حَقَّه: نَقصْتُه، فجَعلتُه أقَلَّ مِمَّا كان، والبَخسُ: فقءُ العَينِ، فهو نَقصٌ خاصٌّ، والبَخسُ: أرضٌ تُنبِتُ بلا سَقْيٍ، كأنَّه لقِلَّةٍ ما نَبتَ بها بالنِّسبةِ إلى أرضِ السَّقيِ، والبَخسُ: المَكسُ، وسَبَّختُ عن فُلانٍ: خُفَّفْتُ عنه، والسَّبخةُ: أرضٌ مِلحةٌ، لقِلَّةٍ نَبتِها ونَفعِها، وسَبَختُ القُطنَ: إذا قَطَعْتَه، فصارَت جُملَتُه قَليلةً، والتَّسبيخُ: ما يَسقُطُ من ريشِ الطَّائِرِ لنَقصِه منه، والتَّسبيخُ: النَّومُ الشَّديدُ؛ لنَقصِه صاحِبَه وتَخفيفِه ما عِندَه منَ الثِّقلِ.
ومن ذلك الخَبسُ، وهو الأخذُ بالكَفِّ، وهو لازِمٌ للقِلَّةِ، ومنه قيلَ للأسَدِ: الخابِسُ؛ لأخذِه ما يُريدُه بكَفِّه، والسخابُ: قِلادةٌ من قَرَنْفُلٍ ليس فيها جَوهَرٌ ولا لؤُلُؤٌ)
[194] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (10/ 46). .