المَطلَبُ الخامِسُ: الترادُفُ في القُرآنِ الكريمِ
ظَهرَ اتِّجاهانِ للعُلَماءِ حَولَ مَسألةِ التَّرادُفِ في القُرآنِ الكَريمِ:
الاتِّجاهُ الأوَّلُ: يُثبِتُ التَّرادُفَ، وظَهرَت مَسألةُ التَّرادُفِ عِندَ المُثبِتينَ في كِلامِهم عنِ الأحرُفِ السَّبعةِ والتَّوكيدِ والمُتَشابِه، أمَّا الأحرُفُ السَّبعةُ والتَّرادُفُ فيها فذَكَروا أنَّ التَّرادُفَ هو المَقصودُ بالأحرُفِ السَّبعةِ والتَّوكيدِ والمُتَشابِه، مِثلُ
الزَّركَشيِّ الذي يوضِّحُ مَعناها بأنَّها سبعةُ أوجُهٍ منَ المَعاني المُتَّفِقةِ بالألفاظِ المُختَلفةِ المَعاني، نَحو: أقبَلُ وهَلُمَّ، وتَعالَ وعَجِّلْ، وأسرِعْ، ونَحوه
[282] يُنظر: ((البرهان في علوم القرآن)) للزركشي (1/ 220). ، وبِهذا فهو يُنكِرُ أنَّها لُغاتٌ، ولأنَّ العَربَ لا تُرَكِّبُ لُغةً بَعضَها بَعضًا، ولَكِنْ إن عُدْنا إلى القَولِ بأنَّ المُرادَ بالسَّبعةِ حَقيقةُ العَدَدِ، فيَكونُ تَحديدًا للرُّخْصةِ بألَّا يَتَجاوزَ سبعةَ مُرادِفاتٍ أو سبعَ لَهَجاتٍ؛ لأنَّه لا يَتَأتَّى في كلمةٍ منَ القُرآنِ أن يَكونَ فيها سبعُ لَهَجاتٍ إلَّا كلماتٍ قَليلةً، حتى لَوِ اعتُمِدَ مَفهومُ الأحرُفِ السَّبعةِ، فلَن تَجِدَ التَّرادُفَ الذي تُريدُ؛ لأنَّها ألفاظٌ من لُغاتٍ شَتَّى، وبَعضُ العُلَماءِ لم يَعتَدُّوا باللُّغاتِ أنَّها منَ التَّرادُفِ.
أمَّا التَّوكيدُ وتَأثيرُه في التَّرادُفِ: فقد رَأى العُلَماءُ أنَّ في التَّرادُفِ نَوعًا منَ التَّوكيدِ للمَعنى، وقد قَسَّمَه العُلَماءُ إلى قِسمَينِ منَ التَّوكيدِ: تَوكيدٌ باللَّفظِ المُرادِفِ، وتَوكيدٌ بعَطْفِ المُرادِفِ، وذَكرَ
الزَّركَشيُّ على التَّوكيدِ باللَّفظِ المُرادِفِ: (التَّوكيدُ لَفظيٌّ ومَعنَويٌّ، فاللَّفظيُّ: تَقريرُ مَعنى الأوَّلِ بلَفظِه أو مُرادِفِه، فمنَ المُرادِفِ
فِجَاجًا سُبُلًا [الأنبياءُ: 31] ، و
وغَرَابِيبُ سُودٌ [فاطِر: 27] )
[283] يُنظر: ((البرهان في علوم القرآن)) للزركشي (2/ 385). . أمَّا التَّوكيدُ بعَطفِ المُرادِفِ: فذَكَرَ أنَّه يَحْسُنُ بالواوِ، وأنابَ غَيرُه (أو) عنِ الواوِ.
أمَّا المُتَشابِهُ: وهو إيرادُ اللَّفظةِ الواحِدةِ في صُوَرٍ شَتى وفَواصِلَ مُختَلفةٍ، فيَذكُرُ أنَّ من أنواعِ المُتَشابِهِ استِبدالَ كلمةٍ بأُخرى في آيَتَينِ مُتَماثِلَتَينِ؛ مِثلُ:
مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا [البقرة: 170] ، وفي لقمان:
مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا [لقمان: 21] ، وكَذلك في التَّفاسيرِ المُختَلفةِ قد كثُرَ فيها تَفسيرُ ألفاظِ القُرآنِ بمُرادِفاتٍ.
وتَبنَّى صبحي الصَّالح القَولَ بوُجودِ التَّرادُفِ في القُرآنِ الكَريمِ؛ لأنَّه قد نَزلَ بلُغةِ قُرَيشٍ المِثاليَّةِ التي يَجري على أساليبِها وطُرُقِ تَعبيرِها، وقد أتاحَ لهذه اللُّغةِ طولُ احتِكاكِها باللَّهَجاتِ العَربيَّةِ الأُخرى منِ اقتِباسِ مُفرَداتٍ تَملِكُ أحيانًا نَظائِرَها، ولا تَملِكُ منها شَيئًا أحيانًا أُخرى، حتى إذا أصبَحَتْ جُزءًا من مَحصولِها اللُّغَويِّ، فلا غَضاضةَ أن يَستَعمِلَ القُرآنُ الألفاظَ الجَديدةَ المُقتَبَسةَ إلى جانِبِ الألفاظِ القُرَشيَّةِ الخاصَّةِ القَديمةِ
[284] يُنظر: ((دراسات في فقه اللغة)) لصبحي صالح (ص: 299). .
الاتِّجاهُ الثَّاني: مُنكِرو التَّرادُفِ: تَتَفاوتُ آراءُ مُنكِري التَّرادُفِ في القُرآنِ الكَريمِ؛ فمنهم:
1- مَن يَرى أنَّ ثَمَّةَ ألفاظًا أحسَنَ من ألفاظٍ، ومَعناها في اللُّغةِ واحِدٌ، وهو بذلك لا يُنكِرُ التَّرادُفَ، وإنَّما يُؤثِرُ بَعضَ الألفاظِ على بَعضِ الأفكارِ، فالإنكارُ هنا في تَساوي الفَصاحةِ لا المَعنى، وبِهذا يَرى
الزَّركَشيُّ أنَّ ذلك من فصاحةِ الكَلامِ باختِلافِ المَقامِ، فلكُلِّ مَوضِعٍ ما يَليقُ به ولا يَحْسُنُ بمُرادِفِه
[285] يُنظر: ((البرهان في علوم القرآن)) للزركشي (2/ 118). .
2- مَن يَتَحَرَّجُ منَ القَولِ بالتَّرادُفِ في بَعضِ الألفاظِ في كِتابِ اللهِ يُؤثِرُ الفُروقَ بَينَ ما يُظَنُّ منَ المُتَرادِفاتِ، كالفَرقِ بَينَ الخَوفِ والخَشيةِ.
3- مَن يُنكِرُ التَّرادُفَ إنكارًا تامًّا، مِثلُ ابنِ الأعرابيِّ والأصفَهانيِّ؛ فقد ذَكَرَ الأصفَهانيُّ في مُقَدِّمةِ كِتابِه ((المُفردات في غَريبِ القُرآنِ)) أنَّه سيَتَكَلَّمُ عنِ الألفاظِ المُتَرادِفةِ على المَعنى الواحِدِ وما بينَهما منَ الفُروقِ الغامِضةِ؛ ليُعرَفَ اختِصاصُ كُلِّ خَبَرٍ بلَفظٍ منَ الألفاظِ المُتَرادِفةِ دونَ غَيرِه من أخَواتِه، نَحوُ ذِكرِ القَلبِ مَرَّةً، والفَؤادِ مَرَّةً، والصَّدرِ مَرَّةً
[286] يُنظر: ((المفردات في غريب القرآن)) للراغب الأصفهاني (ص: 55). .
ومنَ العُلَماءِ الذينَ أنكَروا التَّرادُفَ عائِشةُ بنتُ الشَّاطِئِ؛ فهيَ تُنكِرُه في اللُّغةِ العَربيَّةِ، وأيضًا في القُرآنِ الكَريمِ، ما لم يَكُنِ التَّرادُفُ ناتِجًا عنِ اختِلافِ اللُّغاتِ أوِ القَرابةِ الصَّوتيَّةِ، وكَذلك كان للدكتور عفيفي محمود عفيفي رَأيٌ بذلك؛ فقد أثبَت بالأدِلَّةِ العِلميَّةِ أنَّه لا تَرادُفَ بَينَ ألفاظِ البَصَرِ والنَّظَرِ والرُّؤيةِ، وأنَّ لكُلٍّ منها مَجالَ استِعمالٍ مُحَدَّدًا في القُرآنِ الكَريمِ
[287] يُنظر: ((الإعجاز البياني للقرآن ومسائل ابن الأزرق)) لعائشة بنت الشاطئ (ص: 210). .
مِثالٌ: (أتى)، و(جاء): يَذكُرُ
ابنُ فارِسٍ في الإتيانِ أنَّه يَدُلُّ على مَجيءِ الشَّيءِ وإصحابِه وطاعَتِه
[288] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/ 49). ، وفي كثيرٍ منَ المَعاجِمِ القَديمةِ أنَّ جاءَ بمَعنى الإتيانِ، فلَم يُفَرِّقوا بينَهما، والأصفَهانيُّ يَقولُ: (جاءَ يَجيءُ ومَجيئًا، والمَجيءُ كالإتيانِ، لَكِنَّ المَجيءَ أعَمُّ؛ لأنَّ الإتيانَ مَجيءٌ بسُهولةٍ، والإتيانَ قد يُقالُ باعتِبارِ القَصدِ وإن لم يَكُنْ منه الحُصولُ، والمَجيءُ يُقالُ اعتِبارًا بالحُصولِ)
[289] ((المفردات في غريب القرآن)) للراغب الأصفهاني (ص: 212). . وبهذا وردتا في القرآنِ بقَولِه تعالى:
إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ * فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ [النمل: 7-8] ، ويَذكُرُ في هذا المَعنى أنَّ الإتيانَ تُحيطُ به ثُلَّةٌ من مَعاني الغَموضِ (الشَّكُّ، الجَهلُ، عَدَمُ القَصدِ)، والمَجيءُ تُحيطُ به مَعاني العِلمِ واليَقينِ وتَحَقُّقِ الوُقوعِ والقَصدِ، فنَجِدُ أنَّه ذَكَرَ في الآيةِ في بدايَتِه
سَآتِيكُمْ قَبلَ الوُصولِ إلى النَّارِ؛ لأنَّه لَدَيه شَكٌّ بالوُصولِ والحُصولِ على شِهابٍ قَبَسٍ، ثُمَّ بَعدَ الوُصولِ إليها، قال اللهُ تَعالى:
جَاءَهَا، أي: تَحَقَّقَ اليَقينُ بالوُصولِ إليها
[290] يُنظر: ((فقه اللغات العروبية وخصائص العربية)) لخالد الشناوي (ص: 232-233). .