تمهيدٌ: ما يَجزِمُ فِعلَين
وهي أدواتُ الشَّرْطِ الجازمةُ، وتنقَسِمُ تلك الأدواتُ إلى حروفٍ، وهي: (إنْ، إذما)، وسائِرُ الأدواتِ الجازمةِ أسماءٌ، وهي: (مَن، ما، مهْما، أيٌّ، متى، أيَّانَ، حيثُما، أَنَّى).
وتلك الأسماءُ منها ما هو ظرفٌ، وهو (أيْ، متى، أيَّان، حَيثُما، أنَّى)، وغيرُ ظرفٍ، وهي (مَن، ما، مهْما).
والظَّرفُ إمَّا ظَرفُ زَمانٍ، كـ(متى، أيَّان)، وإمَّا ظَرفُ مكانٍ كـ(أين، حَيثُما)، أمَّا (أنَّى) فقيل: ظَرفُ مكانٍ، وقيل: لتعميمِ الأحوالِ، وأمَّا (أيٌّ) فهي عامَّةٌ بحسَبِ ما تُضافُ إليه؛ فإن أُضيفت إلى ظَرفِ زمانٍ كانت ظرفَ زمانٍ، وإنْ أُضِيفت إلى ظَرفِ مكانٍ كانت ظرفَ مكانٍ، وإن لم تُضَفْ لم تكُنْ ظرفًا.
و"إنْ" هي أمُّ البابِ، وذلك لسببينِ:أحدهما: أنَّها حَرفٌ، وغيرُها مِن الأدوات اسمٌ، والأصلُ في إفادةِ المعاني الحروفُ.
والثاني: أنَّها تُستعمَلُ في جميع صُوَر الشَّرطِ، وغيرُها يَخُصُّ بعضَ المواضعِ، فـ(مَنْ) لمَن يَعقِلُ، و(ما) لَما لا يَعقِلُ، وكذا باقيها، كلٌّ منها يَنفرِدُ بمعنًى، في حينَ أنَّ (إنْ) مُفرَدةً تَصلُحُ للجميعِ
ينظر: ((اللباب)) للعكبري (2/50). .
وبذلك فإنَّ غيرَها مِن الأسماءِ يَعمَلُ عَمَلَها، ولهذا بُنيَ لمشابَهة الحرفِ، إلَّا (أيًّا) فإنها مُعْرَبةٌ؛ لأنَّه قد عارض ما فيها من شَبَهِ الحَرفِ لُزومُ الإضافةِ إلى الأسماءِ، فحماها ذلك من البناءِ.
وتجزم تلك الأدواتُ فِعلَين، هما فِعلُ الشَّرْطِ وجوابُ الشَّرْطِ؛ تَقولُ: إنْ تَقُمْ أقُمْ.
إن: حرفٌ مَبْنيٌّ على السُّكونِ.
تَقُمْ: فِعلُ الشَّرْطِ مجزومٌ، وعَلامةُ جزمِه السُّكونُ.
أقُمْ: فِعلٌ مُضارعٌ مجزومٌ في جوابِ الشَّرْطِ، وعَلامةُ جَزمِه السُّكونُ.
ومنه قَولُه تعالى:
وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ [محمد: 38] ، وقَولُه تعالى:
أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ [النساء: 78] ، وقَولُه تعالى:
مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ [الأعراف: 132] ، وقَولُه تعالى:
وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ [التغابن: 11] ، وقَولُه تعالى:
وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ [البقرة: 197] ، وقَولُه تعالى:
أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى [الإسراء: 110] .
ومنه قَولُ الشَّاعِرِ:
وإنَّكَ إذما تأبَ ما أنت آمِرٌ
به تُلْفَ مَنْ إِيَّاهُ تَأمُرُ آبِيَا
وقَولُ الشَّاعِرِ:
خليليَّ أنَّى تأتياني تأتيا
أخًا غيرَ ما يُرضِيكما لا يُحاوِلُ
وقَولُ الآخَرِ:
ولسْتُ بِحَلَّالِ التِّلَاعِ مَخَافَةً
وَلَكِنْ مَتَى يَسْتَرفِدِ القَوْمُ أرْفِدِ
وقولُ الآخَرِ:
أيَّانَ نُؤْمِنْكَ تَأْمَنْ غَيْرَنا وإذا
لم تُدرِكِ الأمنَ مِنَّا لم تَزلْ حَذِرَا
وقَولُ الآخَرِ:
أَيْنَ تَصْرِفْ بِنَا العُدَاةَ تَجِدْنَا
نصْرفُ العيسَ نحوها للتَّلاقي
وقَولُ الآخَرِ:
حيثُما تَستَقِمْ يُقَدِّرْ لك اللـ
ــهُ نجاحًا في غابِرِ الأزمانِ
وقَولُ الآخَرِ:
أَغَرَّكِ مِني أَنَّ حُبَّكِ قاتِلِي
وأَنَّكِ مَهْمَا تَأمُرِي القَلْبَ يَفْعَلِ
وقَولُ الآخَرِ:
فأصْبَحْتَ أنَّى تأتِها تَلْتَبِسْ بها
كِلا مَرْكَبَيْها تحت رِجلَيْك شاجِرُ
وبعضُ تلك الأدواتِ قد تخرجُ عن الشَّرْطيَّةِ فلا تجزِمُ الفِعْلينِ؛ كـ(مَن، أين، متى، أنى، ما) فإنها قد تخرجُ إلى الاستفهامِ؛ تَقولُ: مَن يضرِبُ الجَرَسَ؟ وأين تقيمُ؟ ومتى تخرجُ؟ وأنَّى يَحدُثُ هذا؟ وما تَفعَلُ؟
ومِثلُ "أيٍّ" فإنها قد تخرج عن الشَّرْطيَّةِ إلى غيرِها، كالاستفهامِ في نحو: أيُّ ولدٍ ضرَبَك؟
أمَّا (حيثما) فلا تخرج عن الشَّرْطيَّةِ، وكانت قبل دخولِ (ما) عليها اسمًا مجردًا عن معنى الشَّرْط ولا يعمَلُ في الأفعالِ
يُنظَر: ((شرح التسهيل)) لابن مالك (4/ 66)، ((ارتشاف الضَّرَب من لسان العرب)) لأبي حيان الأندلسي (4/ 1862). .
وهذه الأدواتُ تقتضي جملتَينِ؛ الأُولى منهما يُقالُ لها: جُملةُ الشَّرْطِ، ولا بُدَّ فيها أن تبدأ بفعلٍ متصَرِّفٍ -ماضيًا كان أو أمرًا-؛ تَقولُ: إنْ أتيتَ أكرِمْك، وإنْ تأتِ أكرِمْك.
ويجوزُ أن يُحذَفَ الفِعْلُ إذا دلَّ عليه دليلٌ؛ كقَولِهم: إنْ خيرًا فخيرٌ وإن شرًّا فشَرٌّ، أي: إنْ كان العَمَلُ خيرًا.
أو يُحذَفَ ويُفسِّره ما بَعْدَه، كقَولِه تعالى:
وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ [التوبة: 6] ، أي: وإنِ استجارك أحدٌ، على ما يأتي في بابِ الاشتغالِ إن شاء اللهُ تعالى.
والجُملةُ الأخرى هي جُملةُ جوابِ الشَّرْطِ، ويجوزُ أن تكونَ اسميَّةً أو فِعليَّةً، خَبَريَّةً أو طلبيَّةً، إلَّا أنَّ الأصلَ أن تكونَ فِعليةً متصدِّرةً بفعلٍ مُتصَرِّف ماضٍ -مجرَّدٍ من (قد) وغيرِها لفظًا أو تقديرًا-، أو مضارعٍ مُثبَتٍ، أو منفيٍّ بـ(لا) أو (لم).