المَبْحَثُ الثَّامِنُ: التَّعْريبُ بين السَّماعِ والقِياسِ
بُذِلَتْ مُحاوَلاتٌ كَثيرةٌ في تَعْديلِ قَرارِ مَجمَعِ اللُّغةِ العَربيَّةِ بالقاهرة الَّذي يُجيزُ
التَّعْريبَ عنْدَ الضَّرورةِ، وبَقِيَ القَرارُ سائِرًا إلى اليَوْمِ؛ والسَّبَبُ في ذلك أنَّ كَلِمةَ (الضَّرورةِ) الَّتي اخْتَلَفَ فيها المَجْمعيُّونَ اخْتِلافًا كَبيرًا حَرَصوا على اسْتِبْقائِها؛ كأنَّهم أرادوا ألَّا يكونَ لها مَعنًى مُحدَّدٌ، أو يكونَ مَعْناها مُخْتلِفًا باخْتِلافِ العُصورِ والأحْوالِ.
وقَرارُ المَجمَعِ يَفهَمُه المُتَوسِّعونَ في
التَّعْريبِ والمُتَشدِّدونَ فيه كلٌّ على هَواه وبحسَبِ ما يَرى:
- فالمُتَشدِّدونَ لم يُطَمْئِنْهم ذلك القَرارُ -معَ مُحافَظتِه- لأنَّهم يَخْشَوْنَ أن تَطْغى لُغةُ العِلمِ على لُغةِ الأدَبِ، ومِن ثَمَّ يَسْتَغْلِقُ على النَّاسِ فَهْمُ التُّراثِ، وهُمْ في ذلك قد ذَهَبوا غيْرَ مَذهَبٍ؛ لأنَّ العَربيَّ يَتَكلَّمُ بالعَربيَّةِ أو يَكتُبُ بها مَهْما كَثُرَتِ المُفرَداتُ الأجْنَبيَّةُ الَّتي يَسْتعمِلُها، فلا يكونُ بذلك مُتَكلِّمًا أو كاتِبًا بلُغةٍ أجْنَبيَّةٍ.
- والمُتَوسِّعونَ في
التَّعْريبِ يَرَوْنَ أنَّ الألْفاظَ الأعْجَميَّةَ مَهْما كَثُرَتْ فليست مِن مُقَوِّماتِ اللُّغةِ؛ لأنَّ اللُّغاتِ يَتَميَّزُ بعضُها مِن بعضٍ بقَواعِدِ النَّحْوِ والصَّرْفِ، وأساليبِ الاشْتِقاقِ والقِياسِ وغيْرِ ذلك، ويَرَوْنَ أنَّ المُصْطلَحاتِ المُعرَّبةَ سوف تَستَقِرُّ ويَألَفُها الطَّلبةُ والباحِثونَ كالألْفاظِ العَربيَّةِ الَّتي لم يَكُنْ لهم بها عَهْدٌ، كما أنَّ
التَّعْريبَ يَجعَلُ اللُّغةَ قادِرةً على اسْتِيعابِ لُغةِ العُلومِ
[345] يُنظر: ((التَّعْريب في القديم والحديث)) لمحمد حسن عبد العزيز (ص: 233، 234). .
إنَّ قَضيَّةَ
التَّعْريبِ مِن ناحِيةِ كَوْنِه قِياسيًّا أو يُوقَفُ فيه عنْدَ المَسْموعِ مِن كَلامِ العَربِ: مِن القَضايا الشَّائِكةِ في القَديمِ والحَديثِ؛ وذلك فيما يَخُصُّ أسْماءَ الأجْناسِ والمُصْطلَحاتِ، أمَّا نقْلُ الأعْلامِ الأجْنَبيَّةِ فقدِ اتَّفَقَ القُدامى والمُحدَثونَ على جَوازِه.
وقدِ انْقَسَمَ أئِمَّةُ اللُّغةِ إلى فَريقَينِ في هذه القَضيَّةِ:
فَريقُ القِياسيِّينَ:وحُجَّتُهم "القِياسُ"؛ فقدْ نَظَروا إلى ما قالَه وفَعَلَه العَربُ، ثُمَّ أباحوا لأنْفُسِهم ولغَيْرِهم أن يَسلُكوا المَسلَكَ الَّذي سَلَكَه أسْلافُهم العَربُ، فقدْ رأَوا أنَّ العَربَ نَقَلوا مِن الفارِسيَّةِ والهِنْديَّةِ والرُّوميَّةِ والحَبَشيَّةِ وغيْرِها كَلِماتٍ كَثيرةً، مِمَّا لم يَكُنْ عنْدَهم مِن مُسْتحدَثاتِ الحَضارةِ، فأدْخَلَ العَربُ ما ليس في لُغتِهم لداعٍ ولغيْرِ داعٍ تَوسُّعًا وإثْراءً للُغتِهم، وقد جاءَت هذه الكَلِماتُ في الشِّعْرِ الجاهِليِّ وفي القُرآنِ الكَريمِ، ولم تَكتَفِ العَربُ بالنَّقْلِ مِن اللُّغاتِ الأُخرى، بل اشْتَقَّتْ مِن الأعْجَميِّ النَّكِرةِ كما تَشتَقُّ مِن أصولِ كَلامِها، وقدْ بَوَّبَ
ابنُ جِنِّي في الخَصائِصِ بابًا بعُنْوانِ: "بابٌ: في أنَّ ما قِيسَ على كَلامِ العَربِ فهو مِن كَلامِ العَربِ"، واسْتَدَلَّ على ذلك بأنَّ العَربَ قد أجْرَتِ المُعرَّبَ مِن أسْماءِ الأجْناسِ الأعْجَميَّةِ مَجْرى الكَلِماتِ العَربيَّةِ، بلْ واشْتَقَّتِ العَربُ مِن الأعْجَميِّ النَّكِرةِ، كقَوْلِهم: دَرْهَمَتِ الخُبَّازى، فاشْتَقُّوا مِن الدِّرْهَمِ وهو مُعرَّبٌ، ونَقَلَ قَوْلَ
أبي عَليٍّ الفارِسيِّ: (إذا قلْتَ: "طابَ الخُشْكُنانُ" فهذا مِن كَلامِ العَربِ؛ لأنَّك بإعْرابِك إيَّاه قد أدْخَلْتَه كَلامَ العَربِ)
[346] ((الخصائص)) لابن جني (1/ 358، 359). .
فَريقُ السَّماعِيِّينَ:ومِن هؤلاء الَّذين عَدُّوا
التَّعْريبَ سَماعيًّا الشِّهابُ الخَفاجيُّ
[347] يُنظر: ((شفاء الغليل)) للشهاب الخفاجي (ص: 23). .
وهؤلاء حُجَّتُهم:- أنَّ
التَّعْريبَ مَقْصورٌ على العَربِ أنْفُسِهم باعْتِبارِهم مالِكي اللُّغةِ.
- أنَّنا لو فَتَحْنا البابَ للتَّعْريبِ لَطَغَتِ العُجْمةُ، فلا يكونُ ثَمَّةَ سَبيلٌ للنَّاسِ لفَهْمِ القُرآنِ والتُّراثِ.
- أنَّ ما عَرَّبَه العَربُ لم يَتَعَدَّ الأسْماءَ والأعْلامَ إلى الجُمَلِ والتَّراكيبِ، وما عَرَّبوه مِن تلك الأسْماءِ والأعْلامِ وإن كانَ كَثيرًا، فهو قَليلٌ بالقِياسِ إلى ما لم يُعرَّبْ.
وقدِ اتَّفَقَ القُدامى والمُحدَثونَ على نَقْلِ الأعْلامِ الأجْنَبيَّةِ، بصَقْلِها على أوْزانِ العَربِ أو بغيْرِ صَقْلٍ، لكنَّهم اخْتَلَفوا في أسْماءِ الأجْناسِ والمُصْطلَحاتِ وما يَتَّصِلُ بها: أتُنْقَلُ إلى العَربيَّةِ حتَّى ولو كانَ لها نَظائِرُ في اللُّغةِ، أم يَقصُرونَ النَّقْلَ على ما ليس له نَظائِرُ؟ فانْقَسَمَ الباحِثونَ المُعاصِرونَ إلى فَريقَينِ:
1- فَضَّلَ كَثيرٌ مِن الباحِثينَ قَصْرَ النَّقْلِ على ما ليس له نَظيرٌ في لُغةِ العَربِ؛ وَفاءً بالغَرَضِ، وحِفاظًا على اللُّغةِ وكِيانِها.
2- وبعضُهم -وهم أنْصارُ التَّعْريبِ- يَرى أن تُنقَلَ إلى العَربيَّةِ حتَّى ولو لم يَكُنْ لها نَظائِرُ فيها، وحُجَجُهم:
- أنَّهم لو قَسَموا مُصْطلَحاتِ الحَضارةِ الحَديثةِ إلى قِسْمَينِ؛ قِسْمٍ نُعرِّبُه، وقِسْمٍ نَخْتارُ له ما يُقابِلُه مِن الألْفاظِ العَربيَّةِ، لنَفِدَ العُمرُ قبْلَ أن نُحقِّقَ ذلك الأمْرَ.
- أنَّ الاحْتِجاجَ برَأيِ فَريقٍ مِن العُلَماءِ السَّابِقينَ الَّذين حَرَّموا تَعْريبَ المُصْطلَحاتِ وأسْماءِ الأجْناسِ لا يَضَعُ في الاعْتِبارِ أنَّ عَصْرَ أولئك العُلَماءِ لم تَتَزاحَمْ فيه المُصْطلَحاتُ كما تَزاحَمَتْ في عَصْرِنا، ولم تَكُنْ تَرْجَمةُ المُصْطلَحاتِ أسْماءِ الأجْناسِ صَعْبةً عليهم كما هي صَعْبةٌ في الوَقْتِ الحاليِّ؛ لتَمكُّنِهم مِن العَربيَّةِ، واتِّساعِ الوَقْتِ لديهم، وخِفَّةِ أعْباءِ الحَياةِ، أمَّا الآنَ فثَمَّةَ أفْواجٌ مِن المُصْطلَحاتِ والمُسَمَّياتِ الجَديدةِ، واللُّغةُ الَّتي في بُطونِ المَعاجِمِ مُرْهِقةٌ بالنِّسْبةِ لنا، فمِن الخَطَرِ الأخْذُ بقَوْلِ القُدامى في حَياةٍ تَخْتلِفُ عن حَياتِهم، وفي واقِعٍ عِلميٍّ وصِناعيٍّ لا يَمُتُّ للماضي بصِلةٍ.
- اللُّغةُ الَّتي لا تُوائِمَ بيْنَ نَفْسِها وما يُحيطُ بها فإنَّ مَصيرَها لا يكونُ إلَّا إلى زَوالٍ.
- المَجامِعُ اللُّغويَّةُ تَقرَأُ وتُهذِّبُ ما عَرَّبَه المُتَخصِّصونَ؛ كي يَتِمَّ الاتِّفاقُ على الكَلِماتِ المُعرَّبةِ.
- للتَّعْريبِ فائِدةٌ مُهِمَّةٌ، وهي إشاعةُ المُصْطلَحاتِ العِلميَّةِ والفَنِّيَّةِ بيْنَ النَّاطِقينَ بالعَربيَّةِ، وهي مُصْطلَحاتٌ عامَّةٌ عالَميَّةٌ تَكادُ تَشيعُ بيْنَ العُلَماءِ والباحِثينَ في مُخْتلِفِ بِلادِ العالَمِ.
و
التَّعْريبُ لن يكونَ مُطلَقًا إنَّما سيكونُ مُقيَّدًا؛ فيُخْتارُ أحْيانًا، ويُعدَلُ عنه أحْيانًا إذا كانَتِ التَّرْجَمةُ لا تَحْتاجُ إلى جُهْدٍ شاقٍّ، فهذا أفْضَلُ بلا شَكٍّ، لكنَّ المَذْمومَ أن يَتَأخَّرَ الباحِثُ في إنْجازِ عَمَلِه بسَبَبِ الوُقوفِ طَويلًا أمامَ كَلِمةٍ أجْنَبيَّةٍ بَعيدةِ المَدْلولِ العَربيِّ، لعلَّه يَجِدُ مُقابِلًا لها في اللُّغةِ.
- إنَّ قَرارَ مَجمَعِ اللُّغةِ العَربيَّةِ: (يُجيزُ اسْتِعمالَ بعضِ الألْفاظِ الأجْنَبيَّةِ عنْدَ الضَّرورةِ على طَريقةِ العَربِ في تَعْريبِهم)، مَعْناه المُوافَقةُ على
التَّعْريبِ، لكنَّه يُوافِقُ عليه بشَرْطِ البَحْثِ المُضْني وَراءَ كُلِّ كَلِمةٍ، فعنْدَئذٍ تَتَّضِحُ الضَّرورةُ، أمَّا أنْصارُ
التَّعْريبِ فهُمْ لا يَرَوْنَ لِهذا الجُهْدِ طائِلًا.
- لا بُدَّ أن يكونَ المُقابِلُ بَعيدًا عن القُصورِ والتَّقْصيرِ، بَعيدًا عن الجُهْدِ والإعْناتِ، وإلَّا فالمُبادَرةُ إلى
التَّعْريبِ.
- ليس الشَّأنُ في
التَّعْريبِ في قِلَّةٍ وكَثْرةٍ حتَّى يُحكَمَ عليه بكَوْنِه سَماعيًّا أم قِياسيًّا، إنَّما
التَّعْريبُ مَسلَكٌ سَلَكَه العَربُ أنْفُسُهم، فلمَ لا نَتَّبِعُهم؟ فإذا كنَّا أمامَ مَسْموعٍ كَثيرٍ ومَسْموعٍ آخَرَ يُغايِرُه في الحُكْمِ، فحينَئذٍ نَنْقسِمُ في مَعْرفةِ الأَولى مِنهما بالأخْذِ، أمَّا
التَّعْريبُ فالمَسْموعُ فيه نَوْعٌ واحِدٌ لا يَخْتلِفُ فيه الحُكْمُ.
- وَضْعُ اسمٍ عَربيٍّ لمُصْطلَحٍ أجْنَبيٍّ يَنقُلُه مِن مَعنْاه الوَضْعيِّ إلى مَعنًى جَديدٍ لا تَعرِفُه العَربُ، كما أنَّ إشاعةَ نَقْلِ الألْفاظِ العَربيَّةِ إلى المَعاني الأجْنَبيَّةِ فيه تَضْييقٌ لدائِرةِ اللُّغةِ.
- إنَّ
التَّعْريبَ -معَ الأخْذِ بالحَيطةِ والحَذَرِ- لهو عِلاجٌ ناجِعٌ لِهذا السَّيْلِ مِن المُخْترَعاتِ والمُبْتكَراتِ في العَصْرِ الحَديثِ، وإنَّ إهْمالَ
التَّعْريبِ لا يَقِلُّ خَطَرًا عن إباحتِه بغيْرِ تَقْييدٍ.
ويَرى الدُّكْتورُ عبَّاس حَسَن أنْ لا فَرْقَ بيْنَ رأيِ أنْصارِ
التَّعْريبِ ورأيِ المانِعينَ؛ إذ إنَّ المانِعينَ أباحوا للمُتَخصِّصينَ في العُلومِ والفُنونِ
التَّعْريبَ، معَ إرْسالِ ما يَقومونَ بتَعْريبِه إلى المَجمَعِ اللُّغويِّ ليُقِرَّه ويُوثِّقَه، وإن رأى ما يَستَحِقُّ التَّغيُّرَ فله ذلك، وهُمْ بذلك لا يَقِفونَ عائِقًا أمامَ العُلَماءِ والباحِثينَ، ولا يُخرِجونَ المَجمَعَ عن دائِرةِ اخْتِصاصِه، ويَرى عبَّاس حَسَن أنَّ المُتَخصِّصينَ يَسيرونَ قُدُمًا في أعْمالِهم دونَ انْتِظارٍ لفَتْوى المَجمَعِ اللُّغويِّ أو لرأيِه، والخِلافَ الَّذي يُثارُ لا مَجالَ له
[348] يُنظر: ((اللُّغة والنحو)) لعباس حسن (ص: 220 – 239). .