تَمْهيدٌ: معجم الألْفاظُ المُعرَّبةُ في القُرآنِ الكَريمِ
إنَّ اللُّغةَ العَربيَّةَ شأنُها شأنُ باقي اللُّغاتِ في عَلاقاتِ الإقْراضِ والاقْتِراضِ والتَّأثيرِ والتَّأثُّرِ، ولكنَّها تَتَميَّزُ مِن غيْرِها بخُلودِها وغَزارةِ ألْفاظِها وتَعدُّدِ دَلالاتِها، وقدْ نَزَلَ القُرآنُ الكَريمُ بهذه اللُّغةِ الخالِدةِ؛ لِذلك وَرَدَ فيه ما وَرَدَ فيها، فتَعْريبُ الألْفاظِ الأعْجَميَّةِ مَثَلًا قد اسْتَخدَمَتْه العَربُ قبْلَ الإسْلامِ في شِعْرِها ونَثْرِها، وأصْبَحَتْ هذه الألْفاظُ عَربيَّةً فَصيحةً بعْدَ
التَّعْريبِ، فمِن البَدَهيِّ أن تكونَ هذه الألْفاظُ المُعرَّبةُ في القُرآنِ الكَريمِ، لا سيَّما وقدْ تَكلَّمَتْ بها العَربُ قبْلَ الإسْلامِ أصْلًا... ونحن في هذا البَحْثِ سنُسَلِّطُ الضَّوْءَ على تلك الظَّاهِرةِ في القُرآنِ الكَريمِ، ومَنْهَجُنا فيه كالآتي:
1- جَمْعُ مُعجَمٍ مُوسَّعٍ للألْفاظِ المُعرَّبةِ في القُرآنِ الكَريمِ.
2- الاقْتِصارُ على المَشْهورِ مِن الكَلِماتِ المُعرَّبةِ عنْدَ الجَمْعِ، وتَرْكُ الكَلِماتِ الَّتي كَثُرَ حولَها الخِلافُ أو الَّتي يَغلِبُ على الظَّنِّ أنَّها عَربيَّةٌ أصيلةٌ؛ وذلك لأنَّ بابَ
التَّعْريبِ واسِعٌ جِدًّا وكَثيرُ الاخْتِلافِ والتَّشَعُّبِ.
3- تَأصيلُ الكَلِماتِ المُعرَّبةِ في القُرآنِ مُرَتَّبةً تَرْتيبًا هِجائيًّا ألِفْبائِيًّا، ومَنْهَجُنا في ذلك:
أوَّلًا: تَحْديدُ مَوقِعِ الكَلِمةِ المُعرَّبةِ في القُرآنِ الكَريمِ، والاكْتِفاءُ بمَوضِعٍ واحِدٍ فقط إذا كانَت قد وَرَدَتْ في أكْثَرَ مِن مَوضِعٍ.
ثانيًا: مَعْرفةُ مَعْنى الكَلِمةِ في اللِّسانِ العَربيِّ بعْدَ
التَّعْريبِ.
ثالِثًا: ذِكْرُ أصْلِ الكَلِمةِ قبْلَ
التَّعْريبِ في اللُّغاتِ الأجْنَبيَّةِ الأُخرى الَّتي أخَذَتِ العَربيَّةُ مِنها.
4- تَوْضيحُ مَفْهومِ الكَلِمةِ في التَّفاسيرِ وبِخاصَّةٍ مَعاجِمُ غَريبِ القُرآنِ.
5- ذِكْرُ ما قالَه عُلَماءُ
التَّعْريبِ العَربُ حِيالَ الكَلِمةِ ونِسْبتِها إلى لُغتِنا، معَ مُراعاةِ التَّرْتيبِ الزَّمَنيِّ للآراءِ.
6- عَرْضُ ما قالوه على القَواميسِ والمَعاجِمِ الأصْليَّةِ كلُّ لُغةٍ فيما يَخُصُّها، معَ الاسْتِشْهادِ بكَلامِ أساتِذةِ اللُّغاتِ المُخْتَصِّينَ في هذا الشَّأنِ، والاسْتِرْشادِ بما تَناوَلَه بعضُ المُسْتَشْرِقينَ في جانِبِ التَّأصيلِ.
7- تَطْبيقُ مَناهِجِ عِلمِ اللُّغةِ الحَديثِ على ما ذُكِرَ مِن كَلِماتٍ قَدْرَ المُسْتَطاعِ.
8- كما راعَيْنا كِتابةَ الكَلِماتِ الدَّخيلةِ في القُرآنِ بحُروفِها الأصْليَّةِ ما أمْكَنَ.
9- ومِن أهَمِّ المَعاجِمِ الَّتي اعْتَمَدْنا عليها وكذلك المَصادِرُ ما يأتي:
المُعرَّبُ مِن الكَلامِ الأعْجَميِّ على حُروفِ المُعجَمِ
للجَواليقيِّ، والمُهذَّبُ فيما وَقَعَ في القُرآنِ مِن المُعرَّبِ
للسُّيوطيِّ، والمُتَوكِّلي
للسُّيوطيِّ، وكذلك الإتْقانُ في عُلومِ القُرآنِ
للسُّيوطيِّ أيضًا، والمُعرَّبُ في القُرآنِ الكَريمِ للدُّكْتورِ مُحمَّد السَّيِّد (وهو أهَمُّ مَرجِعٍ اعْتَمَدْنا عليه في التَّرْجيحاتِ، فمُؤلِّفُه مُتَخصِّصٌ في عُلومِ اللُّغةِ، وقدْ دَرَسَ وجَمَعَ وناقَشَ وسافَرَ وبَذَلَ فيه جُهْدًا عَظيمًا في سَبيلِ الوُقوفِ على أصولِ هذه الكَلِماتِ)، والتَّطوُّرُ النَّحْويُّ للُّغةِ العَربيَّةِ للمُسْتَشرِقِ الألْمانيِّ بِرْجِشْتِراسِر، والمُعرَّبُ والدَّخيلُ للسَّبْحان، وغَرائِبُ اللُّغةِ العَربيَّةِ لرَفائيل نَخْلة اليَسوعيِّ، والقاموسُ السُّرْيانيُّ العَربيُّ لِلُويس كوستاز، والأصلُ والبَيانُ في مُعرَّبِ القُرآنِ لحَمْزة فَتْح الله، وقاموسُ الفارِسيَّةِ لعبْدِ النَّعيمِ مُحمَّد حَسَنَين، والألْفاظُ الفارِسيَّةُ المُعرَّبةُ للسَّيِّدِ أَدِّي شِير، وغيْرُ ذلك.
قَضيَّةُ المُعرَّبِ في القُرآنِ الكَريمِإنَّ مَسْألةَ وُجودِ ألْفاظٍ مُعرَّبةٍ في القُرآنِ الكَريمِ تُعَدُّ مِن المَسائِلِ الَّتي كَثُرَ حولَها الجَدَلُ في القَديمِ والحَديثِ؛ فقدْ فازَت بقِسْطٍ وافِرٍ مِن الكِتاباتِ ما بيْنَ مُؤيِّدٍ لوُرودِها في القُرآنِ الكَريمِ وبيْنَ مُنكِرٍ لِذلك، ومِنهم مَن جَمَعَ بيْنَ الرَّأيَينِ، ولكلٍّ مِنهم حُجَجُه المَنْقولةُ والمَعْقولةُ، وقدِ اخْتَلَفوا على الآراءِ الآتيةِ:
الرَّأيُ الأوَّلُ: القائِلونَ بمَنْعِ وُقوعِ المُعرَّبِ في القُرآنِ الكَريمِ، ومِن هؤلاء
الإمامُ الشَّافِعيُّ، وأبو عُبَيْدةَ مَعمَرُ بنُ المُثنَّى، و
ابنُ فارِسٍ، ومُجاهِدٌ، وعِكْرِمةُ، ومِن المُحْدَثينَ الشَّيْخُ
أحْمَد مُحمَّد شاكِر، والدُّكْتورُ عبْدُ العالِ سالِم مكرم، وغيْرُهم
[349] يُنظر: ((المهذب فيما وقع في القرآن من المعرَّب)) للسيوطي (ص: 57)، ((الإتقان في علوم القرآن)) للسيوطي (2/ 125)، ((المعرَّب)) للجواليقي، تحقيق أحمد محمد شاكر (ص: 11)، ((المعرَّب في القرآن الكريم)) لمحمد السيد (ص: 103). .
وشَدَّدَ
الإمامُ الشَّافِعيُّ النَّكيرَ على مَنِ ادَّعى أنَّ في القُرآنِ مِن غيْرِ لُغةِ العَربِ شيئًا، فقالَ: (فقالَ مِنهم قائِلٌ: إنَّ في القُرآنِ عَربيًّا وأعْجَميًّا، والقُرآنُ دَلَّ على أنَّه ليس مِن كَلامِ اللهِ شيءٌ إلَّا بلِسانِ العَربِ، ووَجَدَ قائِلُ هذا القَوْلِ مَن قَبِلَ ذلك مِنه تَقْليدًا له وتَرْكًا للمَسْألةِ عن حُجَّتِه ومَسْألةِ غيْرِه ممَّن خالَفَه، وبالتَّقْليدِ أغْفَلَ مَن أغْفَلَ مِنهم، واللهُ يَغفِرُ لنا ولهم)
[350] ((الرسالة)) للشافعي (1/ 42). .
ومِن الأدِلَّةِ الَّتي اسْتَنَدوا إليها:1- صَراحةُ التَّعْبيرِ عنِ القُرآنِ الكَريمِ بأنَّه عَربيٌّ في جَميعِ الآياتِ الَّتي تَناوَلَت ذلك، مِثلُ قَوْلِه تعالى:
إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [يوسف: 2] ، وقَوْلِه تعالى:
وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا [طه: 113] ، وقَوْلِه تعالى:
قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ [الزمر: 28] ، وقَوْلِه تعالى:
إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [الزخرف: 3] ، وقَوْلِه تعالى:
بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ [الشعراء: 195] .
2- لو كانَ في القُرآنِ الكَريمِ مِن غيْرِ لُغةِ العَربِ شيءٌ لتَوَهَّمَ مُتَوهِّمٌ أنَّ العَربَ إنَّما عَجَزَتْ عن الإتْيانِ بمِثلِه لأنَّه أتى بلُغاتٍ لا يَعْرِفونَها
[351] يُنظر: ((الصاحبي)) لابن فارس (ص: 46). .
3- ما رَواه
ابنُ جَريرٍ عن
ابنِ عبَّاسٍ رَضيَ اللهُ عنهما وغيْرُه مِن تَفْسيرِ ألْفاظِ القُرآنِ أنَّها بالفارِسيَّةِ أو الحَبَشيَّةِ أو النَّبَطيَّةِ أو نَحْوِ ذلك في كَثيرٍ مِن المَواضِعِ- إنَّما اتَّفَقَ فيها تَوارُدُ اللُّغاتِ، فتَكلَّمَتْ بها العَربُ والفُرْسُ والحَبَشةُ بلَفْظٍ واحِدٍ.
4- يَرى البعضُ أنَّ تلك الألْفاظَ الَّتي وَرَدَتْ في القُرآنِ الكَريمِ إنَّما وُجِدَتْ في لُغةِ العَربِ؛ لأنَّها أوْسَعُ اللُّغاتِ وأكْثَرُها ألْفاظًا، ويَجوزُ أن يكونوا سَبَقوا إلى هذه الألْفاظِ، وهذا الرَّأيُ لأبي المَعالي شَيْدَلة
[352] يُنظر: ((المعرَّب في القرآن الكريم)) لمحمد السيد (ص: 107). .
الرَّأيُ الثَّاني: يَرى وُقوعَ المُعرَّبِ في القُرآنِ الكَريمِ، وبِهذا الرَّأيِ قالَ جَمْهَرةٌ كَبيرةٌ مِن العُلَماءِ والفُقَهاءِ؛ مِنهم: العَلَّامةُ
السُّيوطيُّ، والعَلَّامةُ
ابنُ جِنِّي، و
حَبْرُ الأمَّةِ ابنُ عبَّاسٍ، و
الإمامُ الجُوَينيُّ، وابنُ النَّقيبِ، وأبو مَيْسَرةَ، والضَّحَّاكُ، وبه قالَ سَعيدُ بنُ جُبَيْرٍ مِن القُدَماءِ، ومِن المُحدَثينَ الدُّكْتورُ رَمَضان عبْد التَّوَّاب، وغيْرُه كَثيرٌ
[353] يُنظر: ((الإتقان في علوم القرآن)) للسيوطي (2/ 126)، ((المهذب فيما وقع في القرآن من المعرَّب)) للسيوطي (ص: 59)، ((قضية التَّعْريب)) لعبد الغفار هلال (ص: 27)، ((المعرَّب في القرآن الكريم)) لمحمد السيد (ص: 109). ،
ومِن أدِلَّتِهم:1- أجابوا عن قَوْلِه تعالى:
قُرْآنًا عَرَبِيًّا [الزخرف: 3] بأنَّ الكَلِماتِ اليَسيرةَ بغيْرِ العَربيَّةِ لا تُخرِجُه عن كَوْنِه عَربيًّا، والقَصيدةُ الفارِسيَّةُ لا تَخرُجُ عنها بلَفْظةٍ فيها عَربيَّةٍ، وعن قَوْلِه تعالى:
أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ [فصلت: 44] بأنَّ المَعْنى مِن السِّياقِ: أكَلامٌ أعْجَميٌّ ومُخاطَبٌ عَربيٌّ
[354] يُنظر: ((الإتقان في علوم القرآن)) للسيوطي (2/ 126). !
2- أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مُرسَلٌ إلى كُلِّ الأمَمِ، وقدْ قالَ تعالى:
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ [إبراهيم: 4] ، فلا بُدَّ أن يكونَ في الكِتابِ المَبْعوثِ به مِن لِسانِ كلِّ قَوْمٍ وإن كانَ أصْلُه بلُغةِ قَوْمِه هو.
3- واسْتَدلُّوا باتِّفاقِ النُّحاةِ على أنَّ مَنْعَ صَرْفِ نَحْوِ "إبْراهيمَ" للعَلَميَّةِ والعُجْمةِ، ورُدَّ هذا الاسْتِدلالُ بأنَّ الأعْلامَ ليست مَحَلَّ خِلافٍ فالكَلامُ في غيْرِها مُوَجَّهٌ بأنَّه إذا اتُّفِقَ على وُقوعِ الأعْلامِ فلا مانِعَ مِن وُقوعِ الأجْناسِ
[355] يُنظر: ((الإتقان في علوم القرآن)) للسيوطي (2/ 126). .
الرَّأيُ الثَّالِثُ: ويَتَزعَّمُه
أبو عُبَيْدٍ القاسِمُ بنُ سَلَّامٍ: ويَرى تَصْديقَ الفَريقَينِ السَّابِقَينِ معًا؛ حيثُ وازَنَ بيْنَ رأيِ شَيْخِه أبي عُبَيْدةَ ورأيِ السَّلَفِ الصَّالِحِ، وانْتَهى إلى القَوْلِ بعَربيَّةِ هذه الألْفاظِ بعْدَ أن عَرَّبَتْها العَربُ، وهذا رأيٌ مالَ إليه
ابنُ جَريرٍ، و
الجَواليقيُّ، و
ابنُ الجَوزيِّ، وآخَرونَ مِن القُدَماءِ، ومِن المُحدَثينَ الشَّيْخُ عبْدُ القادِرِ المَغْرِبيُّ
[356] يُنظر: ((المهذب فيما وقع في القرآن من المعرَّب)) للسيوطي (ص: 65)، ((الألْفاظ الدَّخيلة في آيات وصف الجنة في القرآن الكريم، دراسة بيانية))، لمثنى نعيم حمادي (ص: 16، 17(. .
يقولُ
أبو عُبَيْدٍ: (والصَّوابُ عندي مَذهَبٌ فيه تَصْديقُ القَوْلَينِ جَميعًا؛ وذلك أنَّ هذه الأحْرُفَ أصولُها أعْجَميَّةٌ، كما قالَ الفُقَهاءُ، لكنَّها وَقَعَتْ للعَرَبِ فعَرَّبَتْها بألْسِنتِها وحَوَّلَتْها عن ألْفاظِ العَجَمِ إلى ألْفاظِها، فصارَتْ عَربيَّةً، ثُمَّ نَزَلَ القُرآنُ وقدِ اخْتَلَطَتْ هذه الحُروفُ بكَلامِ العَربِ، فمَن قالَ إنَّها عَربيَّةٌ فهو صادِقٌ، ومَن قالَ: إنَّها عَجَمِيَّةٌ فصادِقٌ)
[357] ((المهذب فيما وقع في القرآن من المعرَّب)) للسيوطي (ص: 65). .
ويقولُ الأسْتاذُ عبْدُ القادِرِ المَغْربيُّ: (إنَّ الكَلِمةَ الأعْجَميَّةَ إذا اسْتَعمَلَتْها العَربُ على مَناهِجِها أصْبَحَتْ عَربيَّةً، أو نقولُ: تَحوَّلَتْ عَربيَّةً بحيثُ يَصِحُّ أن يَنزِلَ بها الوَحْيُ الإلهيُّ، فمَن قالَ: إنَّها عَربيَّةٌ كانَ صادِقًا، ومَن قالَ: إنَّها أعْجَميَّةٌ كانَ صادِقًا؛ فهي أعْجَميَّةٌ في الابْتِداءِ، عَربيَّةٌ في الانْتِهاءِ، وعلى هذا يكونُ قَوْلُه تعالى:
إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا [يوسف: 2] حَقًّا وصِدْقًا، وفي القُرآنِ على هذا كَثيرٌ مِن الكَلِماتِ المُعرَّبةِ)
[358] ((الاشْتِقاق والتَّعْريب)) للمغربي (ص: 83). .
التَّرْجيحُ:نَرى -واللهُ أعْلَمُ- أنَّ الصَّوابَ في هذه المَسْألةِ هو الرَّأيُ الثَّالِثُ ممَّن قالوا بالتَّوْفيقِ بيْنَ الرَّأيَينِ المُتَضادَّينِ؛ لأنَّ أصْحابَ هذا الرَّأيِ أُولو نَظَرٍ عَميقٍ في تَحْقيقِ القَوْلَينِ السَّابِقَينِ عليهم، وعلى اطِّلاعٍ واسِعٍ بعُلومِ اللُّغةِ وتَعدُّدِ اللُّغاتِ واللَّهَجاتِ، وهو رأيٌ يَتَوافَقُ تَمامًا معَ رأيِ المُثْبِتينَ للمُعرَّبِ في القُرآنِ الكَريمِ، وإلى حَدٍّ ما يَتَوافَقُ معَ رأيِ المُنكِرينَ، ولكنَّه اعْتَبَرَ بعضَ المُنكِرينَ قد أساءَ فَهْمَ قَضيَّةِ المُعرَّبِ، فأصْحابُ التَّوْفيقِ لم يَرَوا خَطَأً في قَوْلِ المُثْبِتينَ؛ لوُرودِ المُعرَّبِ في القُرآنِ الكَريمِ؛ لأنَّ هذا واقِعٌ، لا سيَّما بعْدَ الدِّراساتِ المُسْتَفيضةِ في عِلمِ اللُّغةِ القَديمِ والحَديثِ، ولم يَرَوا خَطَأً كذلك في قَوْلِ المُنكِرينَ للمُعرَّبِ في القُرآنِ الكَريمِ، بمَعْنى أنَّ القُرآنَ الكَريمَ لا يَأتي بلَفْظةٍ أعْجَميَّةٍ لا يَفهَمُها العَربُ، وإنَّما كلُّ ما أتى به مِن ألْفاظٍ يُقالُ عنها أعْجَميَّةٌ قِسْمٌ مِنها كانَتِ العَربُ قد عَرَّبَتْه بالفِعلِ وأدْخَلَتْه في كَلامِها، فأصْبَحَ عَربيًّا فَصيحًا، ووَرَدَ مِنها الكَثيرُ في الشِّعْرِ والنَّثْرِ الجاهِليَّينِ، وقِسْمٌ مِنها مِن بابِ تَوارُدِ اللُّغاتِ.
فحَسْمًا للخِلافِ: هلْ وَرَدَ المُعرَّبُ في القُرآنِ الكَريمِ؟ نَعمْ، قد وَرَدَ، وأدَلُّ دَليلٍ على هذا قَوْلُ
الإمامِ الشَّافِعيِّ وهو مِن المُنكِرينَ: (ولا نُنكِرُ إذ كانَ اللَّفْظُ قيل تَعلُّمًا أو نُطِقَ به مَوْضوعًا- أن يُوافِقَ لِسانُ العَجَمِ أو بعضُها قَليلًا مِن لِسانِ العَربِ، كما يَتَّفِقُ القَليلُ مِن ألْسِنةِ العَجَمِ المُتَبايِنةِ في أكْثَرِ كَلامِها، معَ تَنائي دِيارِها، واخْتِلافِ لِسانِها، وبُعْدِ الأواصِرِ بيْنَها وبيْنَ مَن وافَقَتْ بعضَ لِسانِه مِنها)
[359] ((الرسالة)) للشافعي (1/ 44). ، وكَثيرٌ مِن الأقْوالِ الوارِدةِ عن المُنكِرينَ -كأبي عُبَيْدةَ- على هذا المِنْوالِ، فإنْكارُهم لوُرودِ الألْفاظِ الأعْجَميَّةِ في القُرآنِ الكَريمِ لا يَلزَمُ عنه ضَرورةً رَفْضُ المُعرَّبِ في القُرآنِ أيضًا، فمِن الواضِحِ أنَّهم لم يَرْفُضوا المُعرَّبَ وقَبِلوا به، ولكنَّ بعضَ المُحدَثينَ قد أساءَ فَهْمَ هذه القَضيَّةِ كالشَّيْخِ
أحْمَد مُحمَّد شاكِر، الَّذي يَرى أنَّ المُعرَّبَ لم يَرِدْ في القُرآنِ أصْلًا، وكلُّ ما قيلَ عنه إنَّه مُعرَّبٌ فهو مِن بابِ تَوارُدِ اللُّغاتِ، ولكنَّ العَجَمَ هُمْ مَن أخَذوا هذه الألْفاظَ عن العَربِ، فتَبْقى هذه الألْفاظُ عَربيَّةَ الأصْلِ
[360] يُنظر: ((المعرَّب في القرآن الكريم)) لمحمد السيد (ص: 119). ، فيَقولُ (لا يُعقَلُ أن تكونَ كَلِمةٌ مِن كَلِماتِ القُرآنِ -حاشا الأعْلامِ- دَخيلةً على لُغةِ العَربِ)
[361] ((المعرَّب)) للجواليقي، تحقيق أحمد محمد شاكر (ص: 11). .
ولا شَكَّ أنَّ هذا تَعسُّفٌ بلا دَليلٍ؛ فكلُّ اللُّغاتِ قد أثَّرَ بعضُها في بعضٍ، وأخَذَ بَعْضُها مِن بَعضٍ، والعَربيَّةُ ليست بِدْعًا مِن اللُّغاتِ، معَ أنَّ الشَّيْخَ
شاكِرًا رَحِمَه اللهُ مُعْترِفٌ بالمُعرَّبِ عُمومًا؛ حيثُ حقَّقَ كِتابَ المُعرَّبِ
للجَواليقيِّ، ولكنَّه معَ هذا كلِّه كانَ عنْدَ تَحْقيقِه للكَلِماتِ الأعْجَميَّةِ في القُرآنِ مِن غيْرِ الأعْلامِ الوارِدةِ في هذا الكِتابِ، كانَ يَتَحيَّنُ لها الاشْتِقاقَ العَربيَّ حتَّى يُثبِتَ عَربيَّتَها، ويَرُدُّ عليه الدُّكْتورُ مُحمَّد السَّيِّد بنَقْلٍ عن
الإمامِ السُّيوطيِّ أنَّ (تَعَسُّفاتِ الاشْتِقاقِيِّينَ لا يَشهَدُ لها شُبْهةٌ فَضْلًا عن حُجَّةٍ
[362] يُنظر: ((المزهر في علوم اللُّغة وأنواعها)) للسيوطي (1/ 317). [363] ((المعرَّب في القرآن الكريم)) لمحمد السيد (ص: 119). .
ويقولُ الدُّكْتورُ مُحمَّد السَّيِّد: (إنَّ مَوْضوعًا شائِكًا -كمَوْضوعِ وُقوعِ المُعرَّبِ في القُرآنِ الكَريمِ- لا بُدَّ مِن نَظْرةٍ عِلميَّةٍ سَديدةٍ بحيثُ يُمكِنُ الفَصْلُ فيه، ولن يَتأتَّى هذا إلَّا مِن خِلالِ عِلمِ اللُّغةِ المُقارِنِ؛ حيثُ الوُقوفُ على حَقيقةِ الألْفاظِ القُرآنيَّةِ الَّتي نُسِبَتْ إلى لُغاتٍ مُخْتلِفةٍ، ومُحاوَلةُ تَأصيلِها للوُقوفِ على أصْلِ لُغةِ هذه الكَلِماتِ، وبذلك يُمكِنُ أن تقالَ الكَلِمةُ الفاصِلةُ ويُقفَلَ بابُ الصِّراعِ الفِكريِّ في هذه القَضيَّةِ على أسُسٍ عِلميَّةٍ سَليمةٍ بَعيدةٍ عن مَنطِقِ الهَوى المُتجرِّدِ، هذا ونَظَرًا لأنَّني بتَوْفيقِ اللهِ وعَوْنٍ مِنه أخَذْتُ على عاتقي مُحاوَلةَ تَأصيلِ هذه الكَلِماتِ المَقولِ بأعْجَميَّتِها كما سيَتَّضِحُ فيما بعْدُ، ورَغْمَ الصُّعوبةِ البالِغةِ الَّتي لاقَيْتُها في تَأصيلِ هذه الكَلِماتِ، فإنَّني تَوَصَّلْتُ بحَمْدِ اللهِ إلى نَتيجةٍ أسْتَطيعُ مِن خِلالِها أن أجْزِمَ بوُقوعِ المُعرَّبِ في القُرآنِ الكَريمِ)
[364] ((المعرَّب في القرآن الكريم)) لمحمد السيد (ص: 121). .