الفَصلُ الرَّابعُ والثَّلاثون: أبو عُثمانَ الجاحِظُ (المتوفى: 255هـ)
أبو عُثمانَ عَمرُو بنُ بَحرِ بنِ مَحبوبٍ الكِنانيُّ بالولاءِ، اللَّيثيُّ، البصريُّ، الشَّهيرُ بالجاحِظِ.
مَوْلِدُه:وُلِد سَنةَ ثلاثةٍ وسِتِّين ومِائةٍ.
مِن مَشَايِخِه:أبو إسحاقَ إبراهيمُ بنُ سَيَّارٍ البَلْخيُّ المعروفُ بالنَّظَّام، وحجَّاجُ بنُ مُحَمَّدٍ الأعوَرُ المصيصي، و
أبو يوسُفَ يعقوبُ بنُ إبراهيمَ القاضي، وثمامةُ بنُ أشرَسَ النَّميريُّ.
ومِن تَلَامِذَتِه:أبو سعيدٍ الحَسَنُ بنُ عَلِيٍّ العَدَويُّ، وأبو بكرٍ عبدُ اللهِ بنُ أبي داودَ، ودِعامةُ بنُ الجَهْمِ، و
أبو العبَّاسِ مُحَمَّدُ بنُ يَزيدَ المُبَرَّدِ، ويموتُ بنُ المُزَرَّع.
عقيدتُه:يُعَدُّ الجاحِظُ مِن أعلامِ
المُعتَزِلةِ؛ فقد تتلمَذَ الجاحِظُ على يَدَي إبراهيمَ النَّظَّامِ، المتكَلِّمِ المعتزليِّ المشهورِ، وما لَبِث أن صارت له آراءٌ مخالِفةٌ لِما عليه أستاذُه، وفِرْقةٌ عُرِفَت بالفِرْقةِ
الجاحِظِيَّةِ.
وقال
الذَّهبيُّ: (كان ماجِنًا، قليلَ الدِّينِ)
[209] ينظر: ((سير أعلام النبلاء)) للذهبي (11/ 527). . وقال أيضًا: (وكان من أئِمَّةِ البِدَعِ)
[210] ينظر: ((ميزان الاعتدال)) للذهبي (3/ 247). .
وفي كُتُبِه من المُجونِ وإنكارِ الدِّينِ وأُصولِه -فضلًا عن الاعتزالِ- الشَّيءُ الكثيرُ؛ من ذلك قولُه: (ولعَلَّ قائلًا يقولُ: وأهلُ مدينةِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وسُكَّانُ حَرَمِه ودارِ هِجْرَتِه، أبصَرُ بالحَلالِ والحَرامِ، والمُسكِرِ والخَمرِ، وما أباح الرَّسولُ وما حَظَره. وكيف لا يكونُ كذلك والدِّينُ ومعالِمُه من عِندِهم خرج إلى النَّاسِ، والوَحْيُ عليهم نَزَل، والنَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فيهم دُفِن، وهم المهاجِرون السَّابقون، والأنصارُ المؤْثِرون على أنفُسِهم. وكُلُّهم مُجمِعٌ على تحريمِ الأنبِذَةِ المُسكِرةِ، وأنَّها كالخَمْرِ؟!
وخَلَفُهم على مِنهاجِ سَلَفِهم إلى هذه الغايةِ، حتِّى إنَّهم جَلَدوا على الرِّيحِ الخَفيِّ.
وكيف لا يَفعَلون ذلك ويَدِينون به وقد شَهِدوا من شَهِدَ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قد حَرَّمها وذَمَّها، وأمر بجَلْدِ شارِبِها.
ثمَّ كذلك فَعَلَ أئمَّةُ الهُدى مِن بَعْدِه. فهم إلى يومِ النَّاسِ على رأيٍ واحِدٍ، وأمرٍ مُتَّفِقٍ، يَنْهَون عن شُربِها، ويَجْلِدون عليها.
وإنَّا نقولُ في ذلك: إنَّ عِظَمَ حَقِّ البَلْدةِ لا يُحِلُّ شيئًا ولا يُحَرِّمُه، وإنما يُعرَفُ الحلالُ والحَرامُ بالكِتابِ النَّاطِقِ، والسُّنَّةِ المجمَعِ عليها، والعُقولِ الصَّحيحةِ، والمقاييسِ المُصِيبةِ.
وبَعْدُ؛ فمَن هذا المهاجِريُّ أو الأنصاريُّ الذي رَوَوا عنه تحريمَ الأنبِذَةِ ثمَّ لم يَرْوُوا عنه التحليلَ؟ بل لو أنصف القائِلُ لعَلِمَ أنَّ الذين من أهلِ المدينةِ حرَّموا الأنبِذَةَ ليسوا بأفضَلَ مِنَ الذين أحَلُّوا النِّكاحَ في أدبارِ النِّساءِ، كما استحَلَّ قومٌ من أهلِ مكَّةَ عارِيَّةَ الفُروجِ، وحَرَّم بَعْضُهم ذبائِحَ الزُّنوجِ؛ لأنَّهم -فيما زَعَموا- مُشَوَّهو الخَلْقِ. ثمَّ حَكَموا بالشَّاهِدِ واليَمينِ خِلافًا لظاهِرِ التَّنزيلِ.
وأهلُ المدينةِ وإن كانوا جَلَدوا على الرِّيحِ الخَفيِّ فقد جَلَدوا على حَملِ الزِّقِّ الفارِغِ؛ لأنَّهم زَعَموا أنَّه آلةُ الخَمرِ، حتَّى قال بَعضُ من يُنكِرُ عليهم: فهلَّا جَلَدوا أنفُسَهم؛ لأنَّه ليس منهم إلَّا ومعه آلةُ الزِّنا! وكان يجِبُ على هذا المِثالِ أن يُحكَمَ بمِثْلِ ذلك على حامِلِ السَّيفِ والسِّكِّينِ والسُّمِّ القاتِلِ، في نظائِرِ ذلك؛ لأنَّ هذه كُلَّها آلاتُ القَتْلِ)
[211] ينظر: ((الرسائل الأدبية)) (ص: 284). .
وقَولُه: (وأنت تعلَمُ أنَّ اليهودَ لو أخذوا القُرآنَ فتَرْجَموه بالعِبْرانيَّةِ لأخرَجوه من معانيه، ولحوَّلوه عن وُجوهِه، وما ظَنُّك بهم إذا تَرْجَموا:
فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ [الزخرف: 55] ، و
وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي [طه: 39] ، و
وَالسَّمَوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ [الزمر: 67] ، و
عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه: 5] ، و
نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة: 22، 23]، وقَولَه:
فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا [الأعراف: 143]، و
وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا [النساء: 164] ، و
وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا [الفجر: 22] .
وقد تعلَمُ أنَّ مُفَسِّري كِتابِنا وأصحابَ التَّأويلِ مِنَّا أحسَنُ مَعرِفةً وأعلَمُ بوُجوهِ الكلامِ مِنَ اليَهودِ ومتأوِّلي الكِتابِ، ونحن قد نجِدُ في تفسيرِهم ما لا يجوزُ على اللهِ في صِفَتِه، ولا عِندَ المتكَلِّمينَ في مقاييسِهم، ولا عندَ النَّحْويِّينَ في عَرَبيَّتِهم. فما ظَنُّك باليهودِ مع غباوَتِهم وغَيِّهم وقِلَّةِ نَظَرِهم، وتَقليدِهم؟ وهذا بابٌ قد غَلِطَت فيه العَرَبُ أنفُسُها، وفُصَحاءُ أهلِ اللُّغةِ إذا غَلِطت قُلوبُها، وأخطَأَت عُقولُها. فكيف بغَيرِهم ممَّن لا يَعلَمُ كعِلْمِها؟! ...)
[212] ينظر: ((المختار في الرد على النصارى)) للجاحظ (ص: 77). .
وهذا كُلُّه فضلًا عن كتابِه "الرَّدُّ على المُشَبِّهة"، والذي وضعَه لنَصْرِ قَولِ
المعتَزِلةِ في التأويلِ وإنكارِ الصِّفاتِ، وكتابِ خَلقِ القرآنِ، وكتابِ الوعدِ والوعيدِ، وكتابِ الاستطاعةِ وخَلقِ أفعالِ العِبادِ، وكتابِ فَضيلةِ
المعتزِلةِ، وكتابِ في الرَّدِّ على النَّابتةِ، الَّذين هم أهلُ السُّنَّةِ.
وقد صرَّح بنفسِه مُفتخِرًا بانتسابِه إلى
المعتزِلةِ بقولِه في مُقدِّمةِ كتابِه ردًّا على مَن طَعَن في كُتبِه: (وَعِبْتَ كِتابي في خَلْقِ القرآنِ، كما عِبتَ كِتابي في الرَّدِّ على المُشَبِّهَةِ، وعِبْتَ كِتابي في القولِ في أصولِ الفُتيا والأحكامِ، كما عِبتَ كِتابي في الاحتجاجِ لنَظْمِ القرآنِ وغريبِ تأليفِه وبَديعِ تَركيبِه، وعِبتَ مُعارَضتي للزَّيديَّةِ وتَفضيلي الاعتزالَ على كلِّ نِحْلَةٍ، كما عِبتَ كِتابي في الوعدِ والوعيدِ)
[213] ينظر: ((الحيوان)) (1/ 11). .
مَنْزِلَتُه وَمَكَانَتُه:كبيرُ أئمَّةِ الأدَبِ، المصَنِّفُ، الحَسَنُ الكلامِ، البَديعُ التصانيفِ، المتبَحِّرُ، ذو الفنون، وإليه تنتَسِبُ الفِرقةُ المعروفةُ ب
الجاحِظيَّةِ مِنَ
المُعتَزِلةِ، لم يقَعْ بيَدِه كتابٌ قط إلَّا استوفى قراءتَه، حتى إنه كان يكتري دكاكينَ الكُتُبِيِّينَ، ويَبِيتُ فيها للمُطالَعةِ، وكان داهيةً في قوَّةِ الحِفظِ، أصابه في أواخِرِ عُمُرهِ الفالجُ
[214] الفالج: هو استِرخاءُ أحَدِ الجانبَينِ مِنَ الإنسانِ، وقد فُلِج فلانٌ: إذا ذهب الحِسُّ والحركةُ عن بعضِ أعضائِه. يُنظر: ((مفاتيح العلوم)) للخوارزمي (ص: 186). ، فكان يطَّلي نِصفَه الأيمَنَ بالصَّندَلِ والكافورِ لشِدَّةِ حرارتِه، والنِّصفَ الأيسَرَ لو قُرِضَ بالمقاريضِ لَمَا أحَسَّ به من خَدَرِه وشِدَّةِ بَرْدِه!
سَبَبُ تَسْمِيَتِه بـ(الجاحظ):قيل له الجاحِظُ؛ لأنَّ عَيْنَيه كانتا جاحِظَتَينِ، والجُحوظُ: النُّتُوء، وكان يقالُ له أيضًا: "الحَدَقيُّ".
مُصنَّفاتُه:مِن مُصَنَّفَاتِه: كتاب: ((البيان والتبيين))، وكتاب: ((الرَّد على أصحاب الإلهام))، وكتاب: ((الرد على المشَبِّهة))، وكتاب: ((الرد على النصارى))، وكتاب: ((الطُّفَيْليَّة))، وكتاب: ((فضائل الترك))، وكتاب: ((الرَّد على اليهود))، وكتاب: ((الحُجَّة والنبُوَّة)).
وَفَاتُه:تُوفِّي سَنةَ خمسة وخمسينَ ومِائَتَينِ
[215] يُنظَر: ((تاريخ بغداد)) للخطيب البغدادي (12/ 208)، ((تاريخ دمشق)) لابن عساكر (45/ 431)، ((وفيات الأعيان)) لابن خلكان (3/ 471)، ((سير أعلام النبلاء)) للذهبي (11/ 526)، ((الأعلام)) للزركلي (5/ 74). .