المَطْلَبُ الأوَّلُ: الغَزَلُ
كانَ الغَزَلُ مِن أهَمِّ مَوْضوعاتِ الشِّعْرِ في العَصْرِ العبَّاسيِّ، وذلك للتَّرَفِ والغِنى الَّذي أصابَ الدَّوْلةَ الإسلاميَّةَ آنَذاكَ، فكَثُرَتْ القِيَانُ والمَلاهي، وانْتَشرَتِ الحاناتُ وأماكِنُ اللَّهْوِ والتَّرَفِ والمُجونِ، فكانَ طَبيعيًّا أن يَكثُرَ تَشْبيبُ الشُّعَراءِ بالنِّساءِ والتَّغزُّلُ فيهن غَزَلًا صَريحًا فاحِشًا؛ لأنَّهم يَتَغزَّلونَ بجَوارٍ مُهِمَّتُهنَّ إثارةُ الغَرائِزِ ونَشْرُ الفَواحِشِ؛ لِذلك انْتَشَرَ الغَزَلُ الصَّريحُ في هذا العَصْرِ، وغَلَبَ الغَزَلُ العُذْريُّ الَّذي لم يَخْتَفِ مِن السَّاحةِ، وإنَّما تَلاشى وضَعُفَ أمامَ ذلك النَّوْعِ مِن الغَزَلِ، والشِّعْرُ تَخْتلِفُ مَقاماتُه وتَتَبايَنُ أساليبُه وتَتَغايَرُ حالاتُه؛ فالتَّغزُّلُ في الحُرَّةِ الشَّريفةِ تَخْتلِفُ ألْفاظُه ومَعانيه وأساليبِه عن التَّغزُّلِ في الأمَةِ الماجِنةِ.
وفوقَ هذا كانَ للغَزَلِ العَفيفِ دَوْرُه ومُهِمَّتُه الَّتي لا يَقومُ الغَزَلُ الفاحِشُ فيها مَقامَه؛ فإنَّ التَّغزُّلَ في الحُرَّةِ الشَّريفةِ لا يَصِحُّ فيه التَّشْبيبُ وذِكْرُ المَحاسِنِ والمَفاتِنِ، فذلك النَّوعُ مِن الغَزَلِ إنَّما يَليقُ بالقِيَانِ والجَواري والمُغنِّياتِ؛ إذ لو تَغزَّلَ في حُرَّةٍ بذِكْرِ مَحاسِنِها وأوْصافِها لأودَتْ به نَخْوةُ العَربيِّ وأرْدَتْه قَتيلًا في الحالِ.
كما أنَّ بعضَ الشُّعَراءِ كانَ صادِقًا في حُبِّه وعاطِفتِه، يَعِفُّ عن وَصْفِ مَحْبوبتِه بما لا يَحِلُّ له، وإنَّما غايةُ أمْرِه أن يُسَلِّيَ نفْسَه بخاطِرِها، وأن يَطمَعَ برُؤْيتِها، وأن يَطمَحَ بلِقاءٍ عابِرٍ يَجمَعُه بها، فخَرَجَ غَزَلُهم في ثَوْبٍ طاهِرٍ نَقِيٍّ لا يَخدِشُ حَياءً، ولا يَكشِفُ سِتْرًا، ولا يَفضَحُ ذاتَ خِدْرٍ، فجاءَ شِعْرُهم كنَسَماتِ الصَّبا إذا مَرَّتْ على القُلوبِ لا تَعصِفُ بها بل تَزيدُها رِقَّةً ودَماثةً، وهذا هو الغَزَلُ الطَّاهِرُ البَريءُ الَّذي لا يَزيدُه الفِراقُ إلَّا رِقَّةً وضَعْفًا
[540]ينظر: ((الأدب العربي)) لمُحمَّد عبد المنعم خفاجي (ص:148). .
فمِن الغَزَلِ الصَّريحِ قَوْلُ مُطيعِ بنِ إياسٍ في جاريةٍ كانت تُغنِّي له ولأصْحابِه، فقامَ إليها فقَبَّلَها، فقالت: تُرابٌ، فأنْشَدَ:إنَّ قَلْبي قد تَصابى
بعْدَ ما كان أنابا
ورَماه الحُبُّ مِنه
بسِهامٍ فأصابا
قد دَهاه شادِنٌ يَل
بَسُ في الجِيدِ سِخابا
فهو بَدْرٌ في نِقابٍ
فإذا ألقى النِّقابا
قُلْتُ شَمْسُ يَوْمِ دَجْنٍ
حَسَرَتْ عنها السَّحابا
ليتَني مِنه على كَشْ
حَيْنِ قد لانا وطابا
أحْضَرَ النَّاسُ بما أكْ
رَهُه مِنه جَوابا
فإذا قُلْتُ أنِلْني
قُبْلةً قالَ تُرابا
[541] ((الأغاني)) لأبي الفرج الأصفهاني (13/ 195). ومِنه قَوْلُ بَشَّارِ بنِ بُرْدٍ:ألَا يا طِيبُ قدْ طِبْتِ
وما طَيَّبَكِ الطِّيبُ
ولكِنْ نَفَسٌ مِنكِ
إذا ضَمَّكِ تَقْريبُ
وثَغْرٌ بارِدٌ عَذْبٌ
جَرى فيهِ الأعاجيبُ
ووَجْهٌ يُشْبِهُ البَدْرَ
عليه التَّاجُ مَنْصوبُ
وعَيْنٌ تَسحَرُ العَيْنَ
وما في سِحْرِها حُوبُ
ووَحْفٌ زانَ مَتنَيكِ
وزانَتْهُ التَّقاصيبُ
وجِيدٌ يُشبِهُ الدُّرَّ
كجِيدِ الرِّيمِ سَلْهوبُ
ونَحْرٌ بَيْنَ حُقَّينِ
يَشِفُّ العَيْنَ مَشْبوبُ
عليهِ الجَوْهَرُ الأخْضَ
رُ والياقوتُ مَنْصوبُ
وشيءٌ بَيْنَ فَخْذَينِ
كقَعْبِ الشَّربِ مَكْبوبُ
[542] يُنظر: ((ديوان بشار بن برد)) (1/ 231). ومِن الغَزَلِ العُذْريِّ قَوْلُ مُحمَّدِ بنِ داودَ الظَّاهريِّ:على كَبِدي مِن خيفةِ البَيْنِ لَوْعةٌ
يَكادُ لها قَلْبي أسًى يَتَصدَّعُ
يَخافُ وُقوعَ البَيْنِ والشَّمْلُ جامِعٌ
فيَبْكي بعَيْنٍ دَمْعُها مُتَسرِّعُ
فلو كانَ مَسْرورًا بما هو واقِعٌ
كما هو مَحْزونٌ بما يُتَوقَّعُ
لكان سواءً بُرؤُه وسِقامُه
ولكنَّ وَشْكَ البَيْنِ أدْهى وأوْجَعُ
[543] يُنظر: ((الزهرة)) لابن داود الظاهري (ص: 61). ومِنه ما رَواه الأصْمَعيُّ أنَّه كانَ يَسيرُ يَوْمًا في الباديةِ، فوَجَدَ بَيْتًا مَكْتوبًا على الجِدارِ:أيا مَعشَرَ العُشَّاقِ باللهِ خَبِّروا
إذا حَلَّ عِشْقٌ بالفَتى كيف يَصنَعُ
فكَتَبَ الأصْمَعيُّ تحتَه:
يُداري هَواهُ ثُمَّ يَكتُمُ سِرَّهُ
ويَخشَعُ في كُلِّ الأمورِ ويَخضَعُ
ثُمَّ رَجَعَ الأصْمَعيُّ في اليَوْمِ الثَّاني فوَجَدَ مَكْتوبًا:
فكيف يُداري والهَوى قاتِلُ الفَتى
وفي كُلِّ يَوْمٍ قَلْبُه يَتَقطَّعُ
فكتَبَ الأصْمَعيُّ:
إذا لم يَجِدْ صَبْرًا لكِتْمانِ سِرِّهِ
فليس له شَيءٌ سِوى المَوْتِ أنْفَعُ
ثُمَّ عادَ الأصْمَعيُّ في اليَوْمِ التَّالي فوَجَدَ شابًّا مَيِّتًا، وقد كَتَبَ:
سَمِعْنا أطَعْنا ثُمَّ مِتْنا فبَلِّغوا
سَلامي على مَن كانَ للوَصْلِ يَمنَعُ
[544] ((المستطرف في كل فن مستطرف)) للأبشيهي (ص: 414)، ((نفحة اليمن فيما يزول بذكره الشجن)) للشرواني (ص: 32). ومِنه قَوْلُ مُحمَّدِ بنِ أُمَيَّةَ في جاريةٍ كانَ يُحِبُّها، وكانت تُمَنِّيه بالزِّيارةِ ولا تَزورُه، فأنَشَأَ يَقولُ: رُبَّ وَعْدٍ مِنكِ لا أنْساه لي
أوْجَبَ الشُّكْرَ وإن لم تَفْعَلي
أقْطَعُ الدَّهْرَ بظَنٍّ حَسَنٍ
وأُجَلِّي غَمْرةً ما تَنْجَلي
كلَّما أمَّلْتُ يَوْمًا صالِحًا
عَرَضَ المَكْروهُ لي في أمَلي
وأرى الأيَّامَ لا تُدْني الَّذي
أرْتَجي مِنكِ وتُدْني أجَلي
ثُمَّ إنَّ بعضَ أوْلادِ
الخَليفةِ المَهْديِّ اشْتَراها، فحُجِبَتْ عنه، وانْقَطَعَ ما بَيْنَهما إلَّا المُكاتَباتِ والمُراسَلاتِ، وكانَ أصْحابُه يَلومونَه في حُبِّه لها وبُخْلِها عليه، فأنْشَدَهم:
أَأن حُجِبَتْ عنِّي أجودُ لغيْرِها
بَوُدِّي وهلْ يُغْري المُحِبَّ سِوى البُخْلِ
أُسَرُّ بأن قالوا: تَضَنُّ بحُبِّها
عليكِ ومَن ذا سُرَّ بالبُخْلِ مِن قَبْلي
[545] يُنظر: ((الأغاني)) لأبي الفرج الأصفهاني (4/319)، (12/ 375). .
وقد ظَهَرَتْ ظاهِرةٌ جَديدةٌ في هذا العَصْرِ وهي الغَزَلُ بالمُذكَّرِ، وَصَلَ إليهم مِن الاخْتِلاطِ بالفُرْسِ، وأوَّلُ مَن نَظَمَ فيه حَمَّاد عَجْرَد، ووالِبةُ بنُ الحُبابِ، ثُمَّ
أبو نُواسٍ، وحُسَينُ بنُ الضَّحَّاكِ، ويَحْيى بنُ زِيادٍ، ومُطيعُ بنُ إياسٍ، وصارَ هذا الغَزَلُ ظاهِرةً مُنْتشِرةً في هذا العَصْرِ؛ لفِسْقِ أكْثَرِ الشُّعَراءِ ومُجونِهم وعَدَمِ تَورُّعِهم عن الحَرامِ.
وكانَ أشْهَرُ شُعَراءِ هذا البابِ أبا نُواسٍ؛ إذ يقولُ:يا بِدعةً في مِثالٍ
يَجوزُ حَدَّ الصِّفاتِ
فالوَجْهُ بَدْرُ تِمامٍ
بعَيْنِ ظَبْيِ فَلاةِ
والقَدُّ قَدُّ غُلامٍ
والغُنْجُ غُنْجُ فَتاةِ
مُذكَّرٌ حينَ يَبْدو
مُؤنَّثُ الخَلَواتِ
زَها عليَّ بصُدْغٍ
مُزَرْفَنِ الحَلَقاتِ
مِن فوقِ خَدٍّ أسيلٍ
يُضيءُ في الظُّلُماتِ
[546] ((ديوان أبي نواس)) (ص: 126).