الموسوعة الفقهية

المطلب الثاني: حُكم سُجود التِّلاوة


سُجودُ التِّلاوةِ سُنَّةٌ للتَّالي والمستمِع أما السامع فاختلف فيه أهل العلم: فقال المالكية والحنابلة وفي وجه للشافعية: أنه لا يسن في حقه السجود. ينظر: ((شرح مختصر خليل)) للخرشي (1/349)، ((كشاف القناع)) للبهوتي (1/446)، ((المجموع)) للنووي (4/58). وذهب الشافعية: إلى أنه يستحب ولا يتأكد في حقه. ينظر: ((المجموع)) للنووي (4/58)، وقال الحنفية: يجب على السامع السجود سواء قصد سماع القرآن أو لم يقصد. ينظر: ((مختصر القدوري)) (ص: 37). ، وهذا مذهبُ الجمهور: الشَّافعيَّة ((المجموع)) للنووي (4/58)، وينظر: ((أسنى المطالب)) لزكريا الأنصاري (1/197). ، والحنابلة ((شرح منتهى الإرادات)) للبُهوتي (1/251)، وينظر: ((المغني)) لابن قُدامة (1/446). ، والمالكيَّة على خلافٍ بينهم بين السُّنيَّة والاستحباب. يُنظر: ((مواهب الجليل)) للحطاب (2/361)، ((شرح التلقين)) للمازري (1/801)، ((شرح مختصر خليل)) للخرشي (1/350). ، وداود قال النوويُّ: (وبهذا قال جمهورُ العُلماء، وممَّن قال به: عُمرُ بن الخطَّاب، وسلمان الفارسيُّ، وابن عباس، وعِمران بن الحُصَين، ومالكٌ، والأوزاعيُّ وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، وداود، وغيرهم رضي الله عنهم) ((المجموع)) (4/61). ، وهو قولُ طائفةٍ من السَّلف قال ابنُ قُدامة: ("ومَن سجَد فحَسَنٌ، ومَن ترَك فلا شيءَ عليه"، وجملة ذلك: أنَّ سجود التلاوة سُنَّة مؤكَّدة وليس بواجبٍ عند إمامنا، ومالكٍ، والأوزاعي، والليث، والشافعي، وهو مذهب عمر وابنه عبد الله، وأوجبه أبو حنيفة وأصحابُه؛ لقول الله عزَّ وجلَّ: فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ** وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ **الانشقاق: 20-21**، ولا يُذَمُّ إلَّا على ترْك واجب. ولأنَّه سجودٌ يُفعل في الصَّلاة؛ فكان واجبًا كسجود الصَّلاة. ولنا: ما رَوى زيدُ بن ثابت، قال: ((قرأتُ على النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم (النجم)، فلم يَسجُدْ منَّا أحدٌ)) متفق عليه، ولأنَّه إجماعُ الصَّحابة) ((المغني)) (1/446). ، وحُكِيَ إجماعُ الصَّحابةِ على ذلكقال ابن قدامة: (قال ابنُ قُدامةَ: (سُجودُ التِّلاوةِ سُنَّةٌ مُؤكَّدةٌ ... لأنَّه إجماعُ الصَّحابةِ. وروَى البخاريُّ... عن عُمرَ، أنَّه قرَأ يومَ الجُمعةِ على المِنبرِ بسورِة النَّحلِ، حتَّى إذا جاء السَّجدةَ نزَل، فسجَد وسجَد النَّاسُ، حتَّى إذا كانت الجُمعةُ القابلةُ قرَأ بها، حتَّى إذا جاءتِ السَّجدةُ قال: يا أيُّها النَّاسُ، إنَّما نَمُرُّ بالسُّجودِ، فمَن سجَد فقد أصاب، ومَن لم يَسجُدْ فلا إثمَ عليه. ولم يَسجُدْ عُمرُ. وفي لفظٍ: إنَّ الله لم يَفرِضْ علينا السُّجودَ إلَّا أنْ نشاءَ. ... وهذا بحَضرةِ الجَمعِ الكثيرِ، فلم يُنكِرْه أحدٌ، ولا نُقِل خلافُه). ((المغني)) (1/446). ((المغني)) (1/446).
وقال شمس الدين ابن قدامة: (رُوِي عن عثمانَ، أنَّه مَر بقاصٍّ، فقَرَأ القاصُّ سَجْدَة ليَسْجُدَ عثمانُ معه، فلم يَسْجُدْ. وقال: إنما السَّجْدَةُ على مَن اسْتَمَعَ. وقال ابنُ مَسْعُودٍ، وعِمْرانُ: ما جَلَسْنا لها. ولم يُعْلَم لهم مُخالِفٌ في عَصْرِهم) ((الشرح الكبير)) (4/213).

الأدلَّة:
أوَّلًا: من السُّنة
1- عن أبي هُرَيرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْه، أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((إذا قرأ ابنُ آدَمَ السجدةَ فسجَدَ، اعتزلَ الشيطانُ يَبكي، يقول: يا وَيْلَهْ! أُمِر ابنُ آدَمَ بالسجود فسَجَدَ؛ فله الجَنَّة، وأُمرتُ بالسجود فعصيتُ؛ فلي النَّار )) أخرجه مسلم (81).
2- عَن عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ، رضِي اللَّهُ عنه، قال: ((قَرَأَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم (النَّجْم) بِمكَّةَ، فسَجَد فيها، وسجَد مَن معه غيرَ شيْخٍ... )) أخرجه البخاري (1067) واللفظ له، مسلم (576).
3- عن زَيدِ بن ثابتٍ رَضِيَ اللهُ عَنْه، قال: (قرأتُ على النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: وَالنَّجْمِ، فلَمْ يسجدْ فيها) [3101] أخرجه البخاري (1073) واللفظ له، ومسلم (577).
وَجْهُ الدَّلالَةِ:
أنَّه لو كان واجبًا لم يتركْ زيدٌ السجود فيها، ولا ترَكه النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ فدلَّ هذا - مع الأحاديثِ الأخرى التي تدلُّ على فِعله - على أنَّه سُنَّةٌ ((شرح صحيح البخاري)) لابن بطَّال (3/58).
ثانيًا: من الآثار
أنَّ عُمرَ بن الخطَّاب رَضِيَ اللهُ عَنْه، قرَأَ يومَ الجُمُعةِ على المِنبر بسورة النحل، حتى إذا جاءَ السَّجدة، نزَلَ فسَجَد وسجَد الناسُ، حتى إذا كانتِ الجُمُعةُ القابلة قَرَأ بها، حتى إذا جاءَ السجدة، قال: يا أيُّها الناس، إنَّا نمرُّ بالسجود، فمَن سجَد فقد أصاب، ومَن لم يسجدْ فلا إثمَ عليه. ولم يسجُدْ عمرُ رضى الله عنه [3103] أخرجه البخاريُّ (1077).
ثالثًا: إجماع الصَّحابة
نقَل إجماعَ الصحابةِ على ذلك: ابنُ رُشد قال ابنُ رشد: (ثبَت أنَّ عمر بن الخطاب قرأ السجدة يومَ الجُمعة، فنزل وسجَد وسجَد الناس معه، فلمَّا كان في الجمعة الثانية وقرأها تهيَّأ الناس للسُّجود، فقال: على رِسلكم! إنَّ الله لم يكتبْها علينا إلَّا أن نشاء، قالوا: وهذا بمحضر الصَّحابة، فلم يُنقل عن أحدٍ منهم خلافٌ، وهم أفهمُ بمغزَى الشرع، وهذا إنما يحتجُّ به مَن يرى قولَ الصَّحابيِّ إذا لم يكُن له مخالِفٌ حُجَّةً) ((بداية المجتهد)) (1/222). ، والعمرانيُّ قال العمرانيُّ: (ورُوي: أنَّ عُمرَ رضِي اللَّهُ عنه قرَأَ على المنبر سورةً فيها سجدة، فنزل وسجَد وسجَد الناس معه، فلمَّا كان في الجُمُعَةِ الثانية قرأها، فتهيَّأ الناس للسجود، فقال: (أيُّها الناس، على رِسلكم! إنَّ الله لم يكتبْها علينا، إلاَّ أن نشاء)، وهذا بمَجْمَع من الصَّحابة، ولم ينكر ذلك عليه أحدٌ، فدلَّ على أنه إجماع) ((البيان)) (2/289). ، وابنُ قُدامة قال ابنُ قُدامة: (رَوَى زيد بن ثابت، قال: ((قرأتُ على النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم النجم، فلم يسجدْ منَّا أحد)) متفق عليه، ولأنَّه إجماعُ الصَّحابة) ((المغني)) (1/446).
فرعٌ: سجودُ التِّلاوَةِ في أوقاتِ النَّهْيِ
اختلفَ العُلماءُ في حُكْمِ سُجودِ التِّلاوةِ في أوقاتِ النَّهْيِ على قولينِ:
القول الأول: يجوزُ سجودُ التلاوةِ في كلِّ وقتٍ، ولو في أوقاتِ النَّهي عن الصَّلاة، وهذا مذهب الشافعيَّة ((المجموع)) للنووي (4/170)، ((تحفة المحتاج)) للهيتمي (1/442). ، ورواية عن أحمد ((الكافي)) لابن قدامة (1/241). واختاره ابنُ تَيميَّة قال ابنُ تيميَّة: (الرِّواية الثانية: جوازُ جميع ذوات الأسباب، وهي اختيار أبي الخطاب، وهذا مذهبُ الشافعي، وهو الرَّاجح) ((مجموع الفتاوى)) (23/191). وقال أيضًا: (وأمَّا إذا حدث سبَبٌ تُشْرَع الصلاة لأجله: مثل تحيَّة المسجد، وصلاةِ الكسوف، وسجود التلاوة، وركعتي الطَّواف، وإعادة الصلاةِ مع إمامِ الحيِّ، ونحو ذلك؛ فهذه فيها نزاع مشهورٌ بين العلماء، والأظهَرُ جوازُ ذلك واستحبابُه فإنَّه خير لا شَرَّ فيه، وهو يفوت إذا تُرِكَ، وإنما نُهِيَ عن قصد الصلاة وتحرِّيها في ذلك الوقت؛ لِمّا فيه من مشابهة الكفَّار بقصد السجود ذلك الوقتَ؛ فما لا سبب له قد قصد فعله في ذلك الوقت وإن لم يقصد الوقت بخلاف ذي السبب فإنه فعل لأجل السبب) ((مجموع الفتاوى)) (17/502). ، والصنعاني قال الصنعاني: (أدلةُ وجوبِ الطَّهارة وردت للصلاة، والسَّجدة لا تسمى صلاةً، فالدليلُ على من شَرَطَ ذلك، وكذلك أوقاتُ الكراهة ورد النهيُ عن الصلاة فيها، فلا تشمَلُ السجدة الفردة) ((سبل السلام)) (1/209). والشوكاني قال الشوكاني: (روي عن بعض الصحابة أنَّه يُكْرَه سجود التلاوة الأوقاتَ المكروهة. والظاهر عدم الكراهة، لأنَّ المذكور ليس بصلاة، والأحاديث الواردة في النهي مختصَّة بالصلاة) ((نيل الأوطار)) (3/126). ، وابن باز قال ابن باز: (وأمَّا ذواتُ الأسبابِ؛ مثل: صلاة الكسوف، وسجود التلاوة، وصلاة الركعتين إذا دخل الإنسان المسجد وكان يريد الجلوس، وهي المعروفة بتحية المسجد- فتجوز في وقت النهي على الرَّاجِحِ من أقوال أهل العلم) ((مجموع فتاوى ابن باز)) (11/291). وابن عثيمين قال ابن عثيمين: (كلُّ صلاةٍ لها سببٌ؛ فإنَّها تُفْعَل ولو في وقتِ النَّهيِ، كسجود التلاوة، وتحيَّةِ المسجد، وما أشبه ذلك) ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (14/309). ، وذلك؛ للأدلَّة الواردة في جوازِ صلاةِ ذواتِ الأسبابِ في أوقاتِ النَّهي تُنظر الأدلَّة في موضعها من (باب أوقاتُ النَّهي).
القول الثاني: لا يجوز سجود التلاوة في أوقات النهي، وهذا مذهب الجمهور: الحنفية ((تبيين الحقائق)) للزيلعي (1/85)، ((البحر الرائق)) لابن نجيم (1/262). والمالكية ((حاشيةالعدوي على كفاية الطالب الرباني)) (1/362)، وينظر: ((الفواكه الدواني)) للنفراوي (1/252). والحنابلة ((الإقناع)) للحجاوي (1/158)، ((شرح منتهى الإرادات)) للبهوتي (1/258). وذلك لعموم الأدلَّة الواردة في النَّهي تُنظر الأدلَّة في موضعها من (باب أوقاتُ النَّهي).

انظر أيضا: