الموسوعة الفقهية

المبحث الثالث: أيُّهما أشدُّ حاجةً؛ الفقيرُ أو المسكين؟


الفقيرُ متى أُطلِقَ الفقراءُ أو المساكينُ تناوَلَ الصِّنفينِ، وإنْ جُمعَا أو ذُكِرَ أحدُهما ونُفِيَ الآخرُ؛ وجَب التمييزُ حينئذٍ، ويُحتاجُ عند ذلك إلى بيانِ النَّوعينِ أيُّهما أسوأُ حالًا. ((المجموع)) للنووي (6/197). أشدُّ حاجةً مِنَ المِسكينِ، وهذا مذهَبُ الشافعيَّة الفقيرُ عند الشَّافعية: هو مَن لا مالَ له ولا كَسْبَ يقَعُ موقعًا من حاجَتِه، أمَّا المسكينُ فهو مَن قدَر على مالٍ أو كَسْبٍ يقَعُ موقعًا مِن كِفايَتِه ولا يَكفِيه. ((المجموع)) للنووي (6/197)، ((مغني المحتاج)) للشربيني (3/108). ، والحَنابِلَة الفقيرُ عند الحَنابِلَة: هو مَن لا يجِدُ شيئًا ألبتَّةَ، أو يجِدُ شيئًا يسيرًا مِنَ الكفايةِ دُونَ نِصفِها، والمسكينُ: هو مَن يجِدُ مُعظَمَ الكفايةِ أو نِصفَها. ((كشاف القناع)) للبهوتي (2/271)، ((شرح منتهى الإرادات)) للبهوتي (1/453). ، وقَولٌ للمالكيَّةِ ((الذخيرة)) للقرافي (3/144). ، واختاره ابنُ حزمٍ قال ابنُ حَزْم: (الفُقراءُ هم الذين لا شيءَ لهم أصلًا، والمساكين: هم الذين لهم شيءٌ لا يقومُ بهم). ((المحلى)) (6/148 رقم 720). ، وابنُ باز قال ابنُ باز: (المسكينُ هو الفقيرُ الذي لا يجِدُ كَمالَ الكفايةِ، والفقيرُ أشدُّ حاجةً منه، وكلاهما مِن أصنافِ أهلِ الزَّكاةِ المذكورينَ في قَولِه تعالى: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا). ((مجموع فتاوى ابن باز)) (14/266). وابنُ عُثيمين قال ابنُ عُثيمِين: (الفُقراءُ أكثرُ حاجةً من المساكينِ، ويُمكِنُ أن يؤخَذ ذلك مِن أنَّ اللهَ بدأَ بهم في الآيةِ، وإنما يبدأُ بالأهمِّ فالأهَمِّ، ويؤخَذُ أيضًا مِن قَولِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم حين دنا مِنَ الصَّفا: ((أبدأُ بما بَدَأَ اللهُ به)) إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللَّهِ **البقرة: 158**، وفي هذا دَلالةٌ على أنَّ الواو قد تقتضي التَّرتيبَ لا باعتبارِ ذاتِها، ولكِنْ بتقديمِ المعطوفِ عليه ما يدلُّ على أنَّه أَوْلى). ((الشرح الممتع)) (6/223، 224).
الأدلَّة:
أوَّلًا: مِنَ الكِتابِ
1- قال الله تعالى: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ... [التوبة: 60]
وجه الدَّلالة:
 بداءةُ اللهِ بهم، وإنما يبدأُ بالأهمِّ فالأهَمِّ ((اختلاف الأئمة العلماء)) للوزير بن هبيرة (1/215)، ((الشرح الممتع)) لابن عُثيمين (6/223، 224).
2- قال الله تعالى: لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ [الحشر: 8]
وجه الدَّلالة:
 أنَّ الآيةَ تُفيدُ أنَّ الفقيرَ هو الذي لا مالَ له أصلًا; لأنَّ اللهَ تعالى أخبَرَ أنَّهم أُخرِجوا مِن ديارِهم وأموالِهم، ولا يجوزُ أن يُحمَلَ ذلك على بعضِ أموالِهم ((المحلى)) لابن حزم (6/148 رقم 720).
3- قال اللهُ تعالى: أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ [الكهف: 79]
وجه الدَّلالة:
أنَّه أخبَرَ أنَّ لهم سفينةً يعملونَ فيها، فدلَّ على أنَّ المسكينَ ليس مُعدِمًا، وإنَّما له شيءٌ لا يَكفيه المعتَبرُ في الكفايةِ: كفايَتُه مَطعَمًا وملبَسًا ومَسكنًا، وغيرها ممَّا لا بدَّ له منه، على ما يليقُ مِن غَيرِ إسرافٍ ولا تقتيرٍ. قال أبو عُبيدٍ: (فكُلُّ هذه الآثارِ دليلٌ على أنَّ ما يُعطاه أهلُ الحاجةِ مِنَ الزَّكاةِ، ليس له وقتٌ مَحظورٌ على المُسلمينَ ألَّا يعْدُوه إلى غَيرِه- وإن لم يكن المعطَى غارِمًا - بل فيه المحبَّةُ والفَضلُ، إذا كان ذلك على جهةِ النَّظَرِ مِنَ المعطِي بلا مُحاباةٍ، ولا إيثارِ هَوًى، كرجلٍ رأى أهلَ بيتٍ مِن صالِحِ المُسلمينَ أهلَ فَقرٍ ومسكنةٍ، وهو ذو مالٍ كثيرٍ، ولا مَنزِلَ لهؤلاءِ يُؤويهم ويستُرُ خَلَّتَهم، فاشترى مِن زكاةِ مالِه مسكنًا يُكنُّهم من كلَبِ الشِّتاءِ، وحرِّ الشَّمسِ، أو كانوا عُراةً لا كِسوةَ لهم، فكساهم ما يستُرُ عَورَتَهم في صلاتِهم ويقيهم مِنَ الحرِّ والبَرْد، أو رأى مملوكًا عند مليكِ سُوءٍ قد اضطهده، وأساءَ ملَكَتَه، فاستنقَذَه مِن رقِّه، بأن يشتَرِيَه فيُعتِقَه، أو مرَّ به ابنُ سبيلٍ بعيدُ الشُّقةِ، نائي الدَّارِ، قد انقطع به، فحمَلَه إلى وَطَنِه وأهلِه بِكِراءٍ أو شراءٍ. هذه الخِلالُ وما أشبَهَها، التي لا تُنالُ إلَّا بالأموالِ الكثيرةِ، ولم تسمَحْ نفسُ الفاعِلِ أن يجعَلَها نافلةً، فيَجعَلُها من زكاةِ مالِه؛ أمَا يكونُ هذا مؤدِّيًا للفَرْضِ؟! بلى، ثمَّ يكونُ إنْ شاء اللهُ مُحسِنًا). ((الأموال)) لأبى عبيد (ص 677). وقال ابنُ حَزْم: (ويعطَى من الزَّكاة الكثيرُ جدًّا والقليل, لا حدَّ في ذلك, إذ لم يوجِبِ الحَدَّ في ذلك قرآنٌ ولا سُنَّةٌ). ((المحلى)) (6/155 رقم 723). وقال ابنُ تيميَّة: (ويأخُذُ الفَقيرُ مِنَ الزَّكاةِ ما يَصيرُ به غنيًّا وإن كثُرَ، وهو أحَدُ القولينِ في مذهَبِ أحمَدَ والشَّافعيِّ). ((الاختيارات الفقهية)) (ص 457)، وينظر: ((المجموع)) للنووي (6/191)، ((مغني المحتاج)) للشربيني (3/106). والمعتبَر بعدم الكفاية: أن تكون نفقتُه أكثرَ من دخله. قال ابنُ عُثيمِين: (كيف يُمكِنُ أن نعرِف هذا؛ فالإنسانُ قد يُقدِّرُ أنَّ نَفَقتَه في السَّنةِ عَشَرةُ آلافِ ريال، ثم تزدادُ الأسعارُ فتكونُ النفقةُ خَمسةَ عَشَرَ ألفًا أو عشرينَ ألفًا؟ الجواب: أنَّ الإنسانَ يُقدِّرُ الكفايةَ العُرفيةَ حسَبَ ما يظهَرُ الآن، لا بحسَبِ الواقِعِ؛ لأنَّه مُستقبَلٌ والمستقبَلُ عند اللهِ، فإذا جدَّ شيءٌ فلكُلِّ حادثٍ حديثٌ، ويمكن أن يقدِّرَ ذلك أيضًا براتبٍ شهريٍّ، فإذا كان ما يتقاضاه سنويًّا خمسةَ آلافٍ، وهو ينفِقُ في السَّنةِ عَشَرةَ آلافٍ، فإنَّه في هذه الحال مِسكينٌ؛ لأنَّه يجِد نصفَ نَفَقتِه، وإذا كان راتِبُه السنويُّ أربعةَ آلافٍ ومَصروفُه عَشرةُ آلافٍ، فهو فقير، فإنْ لم يكن عنده وظيفةٌ أو عملٌ، فهو فقيرٌ). ((الشرح الممتع)) (6/220) ، فدلَّ على الفرْقِ بينه وبين الفَقيرِ المُعدِمِ ((المحلى)) لابن حزم (6/ 148 رقم 720)، ((الذخيرة)) للقرافي (3/ 144)، ((مغني المحتاج)) للخطيب الشربيني (3/ 108)، ((كشاف القناع)) للبهوتي (2/271).
ثانيًا: من السُّنَّة
عن أبي هُرَيرَة رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال: ((ليس المِسكينُ الذي ترُدُّه الأُكلةُ والأُكلتانِ، ولكنَّ المِسكينَ الذي ليس له غِنًى ويستحيي، أو لا يسألُ النَّاسَ إلحافًا )) رواه البخاري (1476) واللفظ له، ومسلم (1039)
وجه الدَّلالة:
أنَّ الحديثَ يدلُّ على أنَّ المسكينَ هو الذي لا يجِد غِنًى إلَّا أنَّ له شيئًا لا يقومُ له, فهو يصبِر ويَنطوي, وهو محتاجٌ، ولا يسألُ ((المحلى)) لابن حزم (6/148 رقم 720).
ثالثًا: أنَّ الاشتقاقَ اللُّغويَّ يدلُّ على أنَّ الفقيرَ أسوأُ حالًا مِنَ المسكينِ؛ فالفقير يُطلَقُ على مَن نُزِعَت فِقرةُ ظَهرِه فانقطَعَ صُلبُه، أمَّا المسكينُ فهو مِنَ السُّكونِ، وهو الذي أسكنَتْه الحاجةُ ((كشاف القناع)) للبهوتي (2/271، 272).

انظر أيضا: