المَطلَبُ السَّادِسُ: تعقيبٌ على آراءِ الخَوارِجِ في أمرِ العُصاةِ
إنَّ الاجتراءَ على تكفيرِ أحَدٍ يدَّعي الإسلامَ بذنبٍ من الذُّنوبِ لا يجوزُ، إلَّا إذا جاء بما يدُلُّ على كُفرِه بمقتضى الأحكامِ الشَّرعيَّةِ التي يَثبُتُ بها كُفرُه في الدُّنيا وعذابُه في الآخرةِ، وليس للعَقلِ الحُكمُ بكُفرِ أحدٍ بسَبَبِ مَعصيةٍ من المعاصي إلَّا بدَلالةٍ شرعيَّةٍ تُبَيِّنُ ما يستحِقُّ الشَّخصُ المُسلِمُ بفِعلِه الكُفرَ وما لا يستَحِقُّ، من كتابِ اللهِ، أو سُنَّةِ نَبيِّه، أو إجماعِ العُلَماءِ عليه.
ونقولُ: إنَّ الكُفرَ لا يجوزُ إطلاقُه على أحَدٍ إلَّا بحَقٍّ؛ لأنَّ الكُفرَ له أحكامٌ خاصَّةٌ، فتُهرَقُ به دماءٌ وتَبطُلُ به حقوقٌ، وغيرُ ذلك من أحكامِ الدُّنيا، وفي الآخرةِ قد توعَّد اللهُ صاحِبَه بالعذابِ الشَّديدِ؛ لهذا فلا يجوزُ الاجتراءُ على القولِ بكُفرِ أحدٍ وتخليدِه في النَّارِ إلَّا بما وافق الحَقَّ.
ولهذا كان لا بُدَّ من التَّفِرقةِ الواضِحةِ بَينَ الكُفرِ والفِسقِ، حتَّى نبطِلَ تكفيرَ
الخَوارِجِ لأصحابِ الذُّنوبِ؛ فالواقِعُ أنَّ دراستَنا السَّابقةَ لمَذهَبِ
الخَوارِجِ في حُكمِ العُصاةِ وأدِلَّتِهم تدُلُّنا على أنَّهم خلَطوا بَينَ حقيقتَيِ الكُفرِ والفِسقِ، فسَمَّوا الفاسِقَ كافِرًا، وأثبَتوا له أحكامَه.
وهذا الكلامُ غيرُ صحيحٍ؛ لأنَّ توحيدَهم بَينَ الكُفرِ والفِسقِ يكونُ على أحَدِ وَجهَينِ:
1- أن يكونَ التَّوحيدُ بَينَهما في اللَّفظِ فقط دونَ إثباتِ أحكامِ أحَدِهما للآخَرِ؛ فيُسَمُّون الفِسقَ كُفرًا أو الفاسِقَ كافِرًا، ولو لم يَثبُتْ له شيءٌ من أحكامِ الكُفَّارِ، وهذا الوَجهُ لم يقُلْ به
الخَوارِجُ، وهو باطِلٌ في نفسِه كذلك،؛ لأنَّ الكُفرَ في الشَّرعِ قد ورد لمعاصٍ مخصوصةٍ، فلا يُسَمَّى كافِرًا إلَّا من ارتكبَها؛ كالكُفرِ باللهِ واستِحلالِ محارِمِه وإنكارِ ما عُرِف من دينِه بالضَّرورةِ، بخِلافِ الفِسقِ الذي يتمَثَّلُ في ارتكابِ الذُّنوبِ الأخرى دونَ استِحلالٍ لها.
وقد مايَز اللهُ تعالى بَينَ الكُفرِ والفِسقِ والعِصيانِ بقَولِه تعالى:
وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ [الحجرات: 7] فقد فصَلَ اللهُ تعالى بَينَ الكُفرِ والفِسقِ، وجَعَل كُلَّ واحدٍ مُستَقِلًّا بنَفسِه، والمعطوفُ غيرُ المعطوفِ عليه؛ فصار الكُفرُ نوعًا والفِسقُ نوعًا آخَرَ، والعصيانُ كذلك، فكَرَّهَها جميعًا إلى قلوبِ المُؤمِنين، وحبَّب إليهم الإيمانَ.
وفي بيانِ هذه الأنواعِ، قال
محمَّدُ بنُ نَصرٍ المَرْوزيُّ: (لَمَّا كانت المعاصي بعضُها كُفرٌ وبعضُها ليس بكُفرٍ، فَرَّق بَينَهما فجعَلَهما ثلاثةَ أنواعٍ: منها كُفرٌ، ونوعٌ منها فسوقٌ وليس بكُفرٍ، ونوعٌ عِصيانٌ وليس بكُفرٍ ولا فُسوقٍ، وأخبر أنَّه كَرَّهها كُلَّها إلى المُؤمِنين. ولَمَّا كانت الطَّاعاتُ كُلُّها داخلةً في الإيمانِ، وليس فيها شيءٌ خارِجًا عنه، لم يُفرِّقْ بينها، فيقولُ: حَبَّب إليكم الإيمانَ والفرائِضَ وسائِرَ الطَّاعاتِ، بل أجمَلَ ذلك فقال:
حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ [الحجرات: 7] ، فدَخَل في ذلك جميعُ الطَّاعاتِ)
[579] ((فتح القدير)) للشوكاني (5/60). إلخ.
وقال
الشَّوكانيُّ في تفسيرِه الآيةَ: (أي: جَعَل كُلَّ ما هو من جِنسِ الفُسوقِ ومن جِنسِ العِصيانِ مكروهًا عِندَكم، والعِصيانُ جِنسُ ما يُعصى اللهُ به)
[580] ((إبانة المناهج في نصيحة الخوارج)) للبهلولي (ص: 164). .
2- أن يكونَ توحيدُهم بَينَ الكُفرِ والفِسقِ لفظًا ومعنًى وحُكمًا، فيَدَّعون أنَّ أحكامَ الكُفَّارِ وأحكامَ العُصاةِ الفَسَقةِ سواءٌ، لا فَرْقَ بَينَهما في الحُكمِ الدُّنْيويِّ والأُخرَويِّ.
وهذا هو ما يذهَبُ إليه
الخَوارِجُ، وهو باطِلٌ أيضًا؛ لأنَّ اللهَ تعالى قد أثبت الإيمانَ للعُصاةِ الفَسَقةِ في أحكامٍ كثيرةٍ، نذكُرُ منها على سبيلِ المثالِ ما ورد في آيةِ اللِّعانِ بَينَ الزَّوجينِ؛ فإنَّ ممَّا لا شَكَّ فيه أنَّ أحَدَ الزَّوجَينِ كاذِبٌ فيما نفاه عن نفسِه، وإذا كان كاذِبًا -والكَذِبُ كبيرةٌ- فإنَّه فاسِقٌ، كما نصَّ القرآنُ الكريمُ على فِسقِه إن كان كاذبًا، وقد شرع اللهُ بَينَهما اللِّعانَ؛ لأنَّ بقاءَ الزَّوجيَّةِ قَبلَ اللِّعانِ غيرُ مُنتَفٍ مع فِسقِ أحَدِ الزَّوجينِ.
قال في (إبانةُ المناهِجِ): (فلو كان الفِسقُ كُفرًا والكافِرُ فاسِقًا، لكانت الزَّوجيَّةُ مُرتَفِعةً بَينَهما؛ إذ لا مُناكَحةَ بَينَ مُؤمِنٍ وكافرٍ، سِيَّما إذا كان كُفرُه رِدَّةً بَعدَ إسلامٍ مُتقَدِّمٍ، فكان يجبُ ألَّا يَصِحَّ وُقوعُ الملاعَنةِ بَينَهما؛ لأنَّ الملاعنةَ إنَّما شُرِعت بَينَ الزَّوجينِ لا بَينَ الأجنَبيَّينِ. فلمَّا عَلِمْنا صِحَّةَ اللِّعانِ بَينَ القاذِفِ وزوجتِه عَلِمْنا أنَّه لم يُكَفَّرْ واحِدٌ منهما مع أنَّ أحَدَهما فاسِقٌ بلا مِرْيةٍ، وذلك يوضِّحُ بُطلانَ مَذهَبِ
الخَوارِجِ في أنَّ كُلَّ فاسِقٍ كافِرٌ، وفي ذلك غِنًى لكُلِّ مُنصِفٍ)
[581] ((إبانة المناهج)) (ص: 164). .
ثمَّ إنَّه لم يُنقَلْ عن الصَّحابةِ ولا عن التَّابعين أنَّهم حَكَموا في الفُسَّاقِ بحُكمِ الكُفَّارِ في الحُقوقِ والواجباتِ، بل اعتَبَروا الفاسِقَ مُسلِمًا وعامَلوه معامَلةَ المُسلِمينَ في جميعِ الحُقوقِ.
قال جَعفَرُ بنُ أحمَدَ البَهلوليُّ مُبَيِّنًا الفَرْقَ بَينَ معاملةِ الكافِرِ والمُسلِم عِندَ سَلَفِ الأمَّةِ: (وممَّا يدُلُّ على ذلك ما ظهر من إجماعِ الصَّحابةِ والتَّابعين؛ فإنَّه معلومٌ من أحوالِهم أنَّهم لم يحكُموا في الفاسِقِ بأحكامِ الكُفَّارِ، فلم يحَرِّموا ميراثَه من المُسلِمين، ولا حكَموا بحُرمةِ زوجتِه عليه لأجْلِ فِسقِه، ولا منَعوا مِن دَفنِه في مقابِرِ المُسلِمين، وهذا أظهَرُ من أن يخفى على متأمِّلٍ لولا شِدَّةُ الميلِ عن الصَّوابِ، والانحرافُ، وقُوَّةُ التَّعصُّبِ للآباءِ والأسلافِ)
[582] يُنظر: ((اللآلئ البهية)) (ص: 76). .
وقد تبيَّن ممَّا سبَق أنَّه لا حُجَّةَ للخَوارِج في كُلِّ ما استدلُّوا به من أحاديثَ على كُفرِ مُرتَكِبِ الكبيرةِ؛ إذ إنَّ تلك الأحاديثَ لم تدُلَّ دَلالةً صريحةً على كُفرِه كُفرَ مِلَّةٍ، بينما نجِدُ في الجانِبِ الآخَرِ ما يُضادُّ هذا القولَ من نصوصٍ صريحةٍ واضحةٍ لا تحتَمِلُ أيَّ تأويلٍ أو جَدَلٍ؛ ذلك أنَّ قولَه تعالى:
قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر: 53] ، فهذه الآيةُ بيانٌ واضِحٌ بأنَّ اللهَ يغفِرُ الذُّنوبَ كُلَّها ما عدا الشِّرْكَ به تعالى، وهذا هو القَولُ الحَقُّ في هذا البابِ، وهو الاعتقادُ بأنَّ اللهَ يغفِرُ الذُّنوبَ مهما كانت ما دام أنَّ العبدَ قد اجتنَب الإشراكَ برَبِّه، الذي هو المحبِطُ الوحيدُ للعَمَلِ.
وأمَّا من مات على كبيرةٍ غيرَ تائبٍ فأمرُه إلى اللهِ؛ إن شاء عذَّبه ثُمَّ أخرجه إلى الجنَّةِ برحمتِه، وإن شاء عفا عنه، ولا يُخلَّدُ في النَّارِ غيرُ الكافِرين.
وأمَّا ما استدَلُّوا به من تلك الأحاديثِ السَّابقةِ فهي كُلُّها إمَّا أن تُحمَلَ على أنَّها واردةٌ في حَقِّ المستَحِلِّ لذلك، أو تكونَ وارِدةً للزَّجرِ، أو غيرُ ذلك ممَّا قاله العُلَماءُ، على أنَّه قد وردت أحاديثُ صريحةٌ في أنَّ العُصاةَ تحتَ المشيئةِ إذا ماتوا من دونِ توبةٍ، ووردت أحاديثُ أُخرى تدُلُّ دَلالةً صريحةً على أنَّ أهلَ الكبائرِ يَدخُلون الجنَّةَ وإن عُذِّبوا بالنَّارِ بقَدْرِ ذُنوبِهم، لكِنَّهم يخرُجون منها ولا يُخَلَّدون خلودَ الكافِرين، وهذا هو ما يقتضيه العَدلُ، ومن هذه الأحاديثِ:
ما جاء عن عبادة بن الصَّامت رَضيَ اللهُ عنه أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال وحولَه عصابةٌ من أصحابِه:
((بايِعوني على ألَّا تُشرِكوا باللهِ شيئًا، ولا تَسرِقوا، ولا تَزْنوا، ولا تقتُلوا أولادَكم، ولا تأتوا ببُهتانٍ تَفترونَه بَينَ أيديكم وأرجُلِكم، ولا تَعْصُوا في معروفٍ، فمَن وفى منكم فأجرُه على اللهِ، ومن أصاب من ذلك شيئًا فعوقِبَ في الدُّنيا فهو كفَّارةٌ له، ومن أصاب من ذلك شيئًا ثم سَتَرَه اللهُ فهو إلى اللهِ؛ إن شاء عفا عنه، وإن شاء عاقَبَه )) [583] رواه البخاري (18) واللَّفظُ له، ومُسلِم (1709). .
فالحديثُ صريحٌ في أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لم يحكُمْ على مُرتَكِبِ الكَبيرةِ الذي مات قَبلَ أن يتوبَ بأنَّه كافِرٌ، وإنَّما قال: (فهو إلى اللهِ؛ إن شاء عفا عنه، وإن شاء عاقَبه)؛ فالاحتمالُ قائمٌ في أن يعفوَ اللهُ عنه تلك الذُّنوبِ ما دام قد اجتَنَب الشِّرْكَ.
وأمَّا ما ورد عن رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم من أنَّ أهلَ النَّارِ يُجازَون فيها بقَدرِ ذُنوبِهم ثُمَّ يُخرَجون منها، فمِثلُ قَولِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ:
((يَدخُلُ أهلُ الجَنَّةِ الجَنَّةَ، وأهلُ النَّارِ النَّارَ، ثمَّ يقولُ اللهُ تعالى: أخرِجوا من كان في قَلْبِه مِثقالُ حَبَّةٍ مِن خَرْدَلٍ مِن إيمانٍ، فَيخرُجون منها قد اسوَدُّوا، فيُلْقَون في نَهْرِ الحَيَا أو الحياةِ -شَكَّ مالِكٌ أحَدُ رواةِ الحديثِ- فيَنبُتُون كما تَنبُتُ الحِبَّةُ في جانِبِ السَّيلِ )) [584] رواه البخاري (22) واللَّفظُ له، ومُسلِم (184). من حديثِ أبي سعيدٍ الخدريِّ رَضِيَ اللهُ عنه. .
وقَولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((يَخرُجُ من النَّارِ من قال لا إلهَ إلَّا اللهُ، وفي قَلْبِه وَزنُ شَعيرةٍ مِن خَيرٍ، ويَخرُجُ مِن النَّارِ من قال لا إلهَ إلَّا اللهُ، وفي قَلْبِه وزنُ بُرَّةٍ مِن خيرٍ، ويَخرُجُ من النَّارِ من قال لا إلهَ إلَّا اللهُ، وفي قَلْبِه وَزنُ ذَرَّةٍ من خيرٍ ))، وفي روايةٍ:
((من إيمانٍ)) بَدَلَ:
((خيرٍ)) [585] رواه البخاري (44) واللَّفظُ له، ومُسلِم (193). من حديثِ أنسِ بنِ مالكٍ رَضِيَ اللهُ عنه. .
وقال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((إنِّي لأعلَمُ آخِرَ أهلِ النَّارِ خُروجًا منها وآخِرَ أهلِ الجنَّةِ دُخولًا الجنَّةَ: رجلٌ يخرُجُ من النَّارِ حَبْوًا)) الحديثَ
[586] رواه البخاري (6571)، ومُسلِم (186) واللَّفظُ له. من حديثِ عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه. .
وقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((ما من عبدٍ قال: لا إلهَ إلَّا اللهُ، ثُمَّ مات على ذلك إلَّا دخل الجنَّةَ. قُلتُ: وإن زنى وإن سَرَق، قال: وإن زنى وإن سَرَق، قُلتُ: وإن زنا وإن سَرَق، قال: وإن زنى وإن سَرَق -ثلاثًا-، ثُمَّ قال في الرَّابعةِ: على رَغمِ أنفِ أبي ذَرٍّ. قال: فخرج أبو ذرٍّ وهو يقولُ: وإنْ رَغِمَ أنفُ أبي ذَرٍّ )) [587] رواه البخاري (5827)، ومُسلِم (94) واللَّفظُ له. من حديثِ أبي ذَرٍّ رَضِيَ اللهُ عنه. .
ولا يخفى أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان يأتيه مُرتَكِبُ الكبيرةِ فيُقيمُ عليه الحَدَّ ولا يطلُبُ إليه أن يُعلِنَ إسلامَه من جديدٍ، ولو كان مُرتَكِبُ الكبيرةِ كافِرًا لاستتابه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، ولطَلَب منه إعلانَ إسلامِه من جديدٍ. وهذا ما لم يَرْوِه أحدٌ عن رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لا في كبيرةٍ ولا في صغيرةٍ، على ما رُويَ عنه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم من جَلدِ الزُّناةِ أو رَجمِهم، وجَلدِ أهلِ الخَمرِ. كما أنَّه لم يُنقَلْ عن الصَّحابةِ ولا عن أحدٍ من العُلَماءِ أنَّه قال بتكفيرِ أهلِ الذُّنوبِ كُفرَ مِلَّةٍ، أو قال بتخليدِهم في النَّارِ.
وأمَّا ما ورد من الأحاديثِ التي تَصِفُ مَن اقترف عمَلًا من أعمالِ الجاهليَّةِ بأنَّه منهم، كقولِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ل
أبي ذَرٍّ حينَ عَيَّرَ رجُلًا بأمِّه:
((إنَّك امرُؤٌ فيك جاهليَّةٌ )) [588] رواه البخاري (30)، ومُسلِم (1661) من حديثِ أبي ذر رَضِيَ اللهُ عنه، ولفظُ مُسلِم: عن المعرورِ بنِ سُوَيدٍ قال: (مرَرْنا بأبي ذَرٍّ بالرَّبَذةِ، وعليه بُردٌ وعلى غُلامِه مِثلُه، فقُلْنا: يا أبا ذَرٍّ لو جمَعْتَ بينهما كانت حُلَّةً. فقال: إنَّه كان بيني وبين رجلٍ من إخواني كلامٌ، وكانت أمُّه أعجميَّةً، فعيَّرْتُه بأمِّه، فشكاني إلى النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فلَقِيتُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: يا أبا ذَرٍّ إنَّك امرُؤٌ فيك جاهليَّةٌ ! قُلتُ: يا رسولَ اللهِ، مَن سَبَّ الرِّجالَ، سَبُّوا أبَّاه وأمَّه. قال: يا أبا ذَرٍّ إنَّك امرُؤٌ فيك جاهليَّةٌ ! هم إخوانُكم، جعَلَهم اللهُ تحتَ أيديكم، فأطعِموهم ممَّا تأكُلون، وألبِسوهم ممَّا تَلبَسون، ولا تُكَلِّفوهم ما يَغلِبُهم، فإن كَلَّفْتُموهم فأعينوهم). فإنَّ هذا لا يدُلُّ على أنَّ مَن وُجِدت فيه خصلةٌ من خصالِ الجاهليَّةِ أنَّه يَكفُرُ بذلك، وقد بوَّب
البخاريُّ على هذا بقولِه: (بابُ المعاصي مِن أمرِ الجاهليَّةِ ولا يُكَفَّرُ صاحِبُها بارتكابِها إلَّا بالشِّرْكِ)
[589] ((صحيح البخاري)) (1/ 15). ، فلا دَلالةَ للخَوارِجِ على تكفيرِ أهلِ الذُّنوبِ وتخليدِهم في النَّارِ.
فمَذهَبُ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ إذًا أنَّه لا يُخَلَّدُ أحَدٌ من المُؤمِنين في النَّارِ مهما كان جُرمُه، فإن تاب فلا كلامَ فيه، وإنْ لم يَتُبْ فأمرُه مُفَوَّضٌ لرَبِّه.
قال
النَّوَويُّ: (اعلَمْ أنَّ مَذهَبَ أهلِ السُّنَّةِ وما عليه أهلُ الحَقِّ من السَّلَفِ والخَلَفِ أنَّ مَن مات مُوَحِّدًا دخل الجنَّةَ قَطعًا على كُلِّ حالٍ... وأمَّا من كانت له مَعصيةٌ كبيرةٌ ومات من غيرِ توبةٍ فهو في مشيئةِ اللهِ تعالى، فإن شاء عفا عنه وأدخَله الجنَّةَ أوَّلًا... وإن شاء عذَّبه القَدْرَ الذي يريدُه سُبحانَه وتعالى ثُمَّ يُدخِلُه الجنَّةَ... وقد تظاهرت أدِلَّةُ الكتابِ والسُّنَّةِ وإجماعِ مَن يُعتَدُّ به من الأمَّةِ على هذه القاعدةِ، وتواترت بذلك نصوصٌ يحصُلُ بها العِلمُ القَطعيُّ، فإذا تقَرَّرت هذه القاعدةُ حُمِل عليها جميعُ ما ورد من أحاديثِ البابِ وغيرِه، فإذا ورد حديثٌ في ظاهِرِه مُخالَفةٌ وَجَب تأويلُه عليها ليُجمَعَ بَينَ نصوصِ الشَّرعِ)
[590] ((شرح مُسلِم)) (1/ 217). .
ولكِنْ لماذا تمسَّك
الخَوارِجُ ببدعةِ القَولِ بتكفيرِ العُصاةِ وتخليدِهم في النَّارِ؟
في ذلك قال
ابنُ تيميَّةَ: (إنَّ الذي حمَل
الخَوارِجَ على القولِ بتخليدِ أهلِ الكبائِرِ في النَّارِ أنَّهم اعتَقَدوا أنَّ المُطلَقَ يتناوَلُ جميعَ ما أمَر اللهُ به ورسولُه، فمتى ذهب بعضُ ذلك فيلزَمُ تكفيرُ أهلِ الذُّنوبِ)
[591] ((الإيمان)) (ص: 185). ويُنظر: ((الإبانة)) للأشعري (ص: 10). .
والقولُ بذَهابِ الإيمانِ بذَهابِ بعضِ الأعمالِ قد نفاه أهلُ السُّنَّةِ ولم يقولوا به؛ قال
ابنُ تيميَّةَ: (فإنَّ هذا القولَ من البِدَعِ المشهورةِ، وقد اتَّفَق الصَّحابةُ والتَّابعون لهم بإحسانٍ وسائِرُ أئمَّةِ المُسلِمين على أنَّه لا يخلَّدُ في النَّارِ أحدٌ ممَّن في قَلْبِه مثقالُ ذَرَّةٍ من إيمانٍ، واتَّفَقوا أيضًا على أنَّ نَبيَّنا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يشفَعُ فيمن يأذَنُ اللهُ له بالشَّفاعةِ فيه من أهلِ الكبائِرِ من أمَّتِه)
[592] ((الإيمان)) (ص: 176). .