المَبحَثُ الأوَّلُ: إثباتُ تسميةِ الإيمانِ عَملًا، وتسميةِ العَملِ إيمانًا
نُصوصُ الكتابِ والسُّنَّةِ كثيرةٌ جدًّا في تسميةِ الإيمانِ عَملًا، وتسميةِ العَملِ إيمانًا، بما يُخالِفُ قولَ
المُرجِئةِ في إخراجِهم العَملَ مِن مُسمَّى الإيمانِ، ومِن ذلك:
قولُ اللهِ تعالى:
وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ [البقرة: 143] ، أي: صلاتَكم
[188] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (2/650). .
وقد أوَّل
المُرجِئةُ هذه الآيةَ على معنى: تصديقِكم وُجوبَ الصَّلاةِ، وهذا تكلُّفٌ وخُروجٌ عن ظاهِرِ النَّصِّ دونَ قرينةٍ، ويرُدُّه سببُ نُـزولِ الآيةِ؛ فعن
عبدِ اللهِ بنِ عبَّاسٍ رضِي اللهُ عنهما قال: (لمَّا وُجِّهَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلى الكعبةِ، قالوا: يا رسولَ اللهِ، كيف بإخوانِنا الذين ماتوا وهُم يُصلُّونَ إلى بَيتِ المَقدِسِ؟ فأنزَل اللهُ:
وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ الآية )
[189] أخرجه أبو داود (4680)، والترمذي (2964) واللَّفظُ له، وأحمد (3249). صحَّحه الترمذي، وابن حبان في ((صحيحه)) (1717)، وابن حجر في ((موافقة الخبر الخبر)) (2/279)، والألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (4680). .
وقد بوَّب
البُخاريُّ بابًا في ذلك، فقال: (بابُ: الصَّلاةُ مِن الإيمانِ، وقولُ اللهِ:
وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ [البقرة: 143] ، يعني صلاتَكم عندَ البيتِ)
[190] يُنظر: ((صحيح البخاري)) (1/23). .
قال ابنُ بطَّالٍ: (هذه الآيةُ أقطَعُ الحُجَجِ للجَهْميَّةِ و
المُرجِئةِ في قولِهم: إنَّ الفرائِضَ والأعمالَ لا تُسمَّى إيمانًا)
[191] ((شرح صحيح البخاري)) (1/97). .
وقد ذكَر
البُخاريُّ في صحيحِه نُصوصًا صريحةً في الرَّدِّ على مَن أخرَج العَملَ عن الإيمانِ.
بعضُ تبويباتِ البُخاريِّ في صحيحِه ردًّا على المُرجِئةِ:1- عقَد في كتابِ الإيمانِ تراجِمَ كثيرةً لذلك، مِثلُ: (بابٌ: الجِهادُ مِن الإيمانِ)، (بابٌ: الصَّلاةُ مِن الإيمانِ)
[192] يُنظر: ((صحيح البخاري)) (1/23). ، (بابٌ: صومُ رَمضانَ احتِسابًا مِن الإيمانِ)
[193] يُنظر: ((صحيح البخاري)) (1/22). ، وأورَد تحتَ كُلِّ بابٍ بعضَ الأحاديثِ الصَّحيحةِ.
2- عقَد
البُخاريُّ بابًا، فقال: (بابٌ: مَن قال: إنَّ الإيمانَ هو العَملُ؛ لقولِ اللهِ تعالى:
وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [الزخرف: 72] ، وقال عِدَّةٌ مِن أهلِ العِلمِ في قولِه تعالى:
فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الحجر: 93] عن قولِ: لا إلهَ إلَّا اللهُ، وقال:
لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ [الصافات: 61] [194] يُنظر: ((صحيح البخاري)) (1/17). ، ثُمَّ روى بسندِه عن أبي هُرَيرةَ أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم سُئِل: أيُّ العَملِ أفضَلُ؟ فقال:
((إيمانٌ باللهِ ورسولِه، قيل: ثُمَّ ماذا؟ قال: الجهادُ في سبيلِ اللهِ، قيل: ثُمَّ ماذا؟ قال: حجٌّ مبرورٌ )) [195] أخرجه البخاري (26) واللَّفظُ له، ومسلم (83). .
وما قاله
البُخاريُّ وقرَّره هو بعَينِه رأيُ السَّلفِ جميعًا، وقد بدَّعوا مَن خالَفه، وأنكَروا عليهم رأيَهم.
نُقولاتٌ عن أئمَّةِ السَّلفِ ومَن اتَّبَعهم بإحسانٍ مِن عُلَماءِ الأمَّةِ في إثباتِ أنَّ الإيمانَ اعتِقادٌ وقولٌ وعَملٌ:1- قال
الشَّافِعيُّ: (كان الإجماعُ مِن الصَّحابةِ والتَّابِعينَ مِن بَعدِهم ممَّن أدْرَكْناهم أنَّ الإيمانَ قولٌ وعَملٌ ونيَّةٌ، لا يُجزِئُ واحِدٌ مِن الثَّلاثةِ بالآخَرِ)
[196] يُنظر: ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة)) (5/ 956). .
2- قال
أبو عُبَيدٍ القاسِمُ بنُ سلَّامٍ: (الأمرُ الذي عليه السُّنَّةُ عندَنا ما نصَّ عليه عُلَماؤُنا: أنَّ الإيمانَ بالنِّيَّةِ والقولِ والعَملِ جميعًا)
[197] ((الإيمان)) (ص: 19). .
3- قال
أحمَدُ بنُ حَنبَلٍ: (الإيمانُ لا يكونُ إلَّا بعَملٍ)
[198] رواه الخلال في ((كتاب السنة)) (962). .
4- قال
البُخاريُّ: (لقيتُ أكثَرَ مِن ألفِ رجُلٍ مِن العُلَماءِ بالأمصارِ، فما رأَيتُ أحدًا منهم يختلِفُ في أنَّ الإيمانَ قولٌ وعَملٌ، ويزيدُ ويَنقُصُ)
[199] يُنظر: ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة)) للَّالَكائي (1/194). .
5- قال
الآجُرِّيُّ: (الذي عليه عُلَماءُ المُسلِمينَ أنَّ الإيمانَ واجِبٌ على جميعِ الخَلقِ، وهو التَّصديقُ بالقلبِ، وإقرارٌ باللِّسانِ، وعَملٌ بالجوارِحِ، ثُمَّ اعلَموا -رحِمنا اللهُ وإيَّاكم- أنَّه لا تُجزِئُ المعرفةُ بالقلبِ -وهو التَّصديقُ- إلَّا أن يكونَ معَه إيمانٌ باللِّسانِ، وحتَّى يكونَ معَه نُطقٌ، ولا تُجزِئُ معرفةٌ بالقلبِ والنُّطقُ باللِّسانِ حتَّى يكونَ معَه عَملٌ بالجوارِحِ، فإذا كمَلَت فيه هذه الخِصالُ الثَّلاثُ كان مُؤمِنًا حقًّا، دلَّ على ذلك الكتابُ، والسُّنَّةُ، وقولُ عُلَماءِ المُسلِمينَ)
[200] ((الأربعون حديثًا)) (ص: 111). .
6- قال
ابنُ بطَّةَ بَعدَ أن سرَد آياتٍ كثيرةً تدُلُّ على أنَّ العَملَ مِن الإيمانِ: (قد تلَوتُ عليكم مِن كتابِ اللهِ عزَّ وجلَّ ما يدُلُّ العُقَلاءَ مِن المُؤمِنينَ أنَّ الإيمانَ قولٌ وعَملٌ، وأنَّ مَن صدَّق بالقولِ وترَك العَملَ كان مُكذِّبًا وخارِجًا مِن الإيمانِ، وأنَّ اللهَ لا يقبَلُ قولًا إلَّا بعَملٍ، ولا عَملًا إلَّا بقولٍ)
[201] ((الإبانة الكبرى)) (2/795). .
7- قال
ابنُ عبدِ البَرِّ: (أجمَع أهلُ الفِقهِ والحديثِ على أنَّ الإيمانَ قولٌ وعَملٌ، ولا عَملَ إلَّا بنيَّةٍ، والإيمانُ عندَهم يزيدُ بالطَّاعةِ ويَنقُصُ بالمعصيةِ، والطَّاعاتُ كُلُّها عندَهم إيمانٌ)
[202] ((التمهيد)) (9/238). .
8- قال
البَغَويُّ: (اتَّفَقَت الصَّحابةُ والتَّابِعونَ فمَن بَعدَهم مِن عُلَماءِ السُّنَّةِ على أنَّ الأعمالَ مِن الإيمانِ)
[203] ((شرح السنة)) (1/38). .
9- قال
النَّوَويُّ: (لا خلافَ بَينَ الجميعِ أنَّه لو أقرَّ وعمِل على غَيرِ عِلمٍ منه ومعرفةٍ بربِّه، لا يستحِقُّ اسمَ مُؤمِنٍ، ولو عرَفه وعمِل، وجحَد بلِسانِه وكذَّب ما عرَف مِن التَّوحيدِ، لا يستحِقُّ اسمَ مُؤمِنٍ، وكذلك إذا أقرَّ باللهِ تعالى وبرُسلِه صلواتُ اللهِ وسلامُه عليهم أجمعينَ، ولم يعمَلْ بالفرائِضِ؛ لا يُسمَّى مُؤمِنًا بالإطلاقِ)
[204] ((شرح مسلم)) (1/147). .
10- قال
ابنُ تيميَّةَ: (الإيمانُ قولٌ وعَملٌ عندَ أهلِ السُّنَّةِ مِن شعائِرِ السُّنَّةِ، وحكى غَيرُ واحِدٍ الإجماعَ على ذلك)
[205] ((مجموع الفتاوى)) (7/308). ويُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (1/47). .
وقال
ابنُ تيميَّةَ أيضًا: (التَّولِّي ليس هو التَّكذيبَ، بل هو التَّولي عن الطَّاعةِ؛ فإنَّ النَّاسَ عليهم أن يُصدِّقوا الرَّسولَ فيما أخبَر، ويُطيعوه فيما أمَر. وضدُّ التَّصديقِ التَّكذيبُ، وضدُّ الطَّاعةِ التَّولي؛ فلهذا قال:
فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى * وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى [القيامة: 31-32] ، وقد قال تعالى:
وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ [النور: 47] ، فنفى الإيمانَ عمَّن تولَّى عن العَملِ، وإن كان قد أتى بالقولِ...، ففي القرآنِ والسُّنَّةِ مِن نفيِ الإيمانِ عمَّن لم يأتِ بالعَملِ مواضِعُ كثيرةٌ، كما نفى فيها الإيمانَ عن المُنافِقِ، وأمَّا العالِمُ بقلبِه معَ المُعاداةِ والمُخالَفةِ الظَّاهِرةِ فهذا لم يُسمَّ قطُّ مُؤمِنًا)
[206] ((مجموع الفتاوى)) (7/ 142، 143). .
وقال
ابنُ تيميَّةَ أيضًا: (قد تبيَّن أنَّ الدِّينَ لا بُدَّ فيه مِن قولٍ وعملٍ، وأنَّه يمتنِعُ أن يكونَ الرَّجلُ مُؤمِنًا باللهِ ورسولِه بقلبِه، أو بقلبِه ولِسانِه ولم يُؤدِّ واجِبًا ظاهِرًا ولا صلاةً ولا زكاةً ولا صيامًا، ولا غَيرَ ذلك مِن الواجِباتِ، لا لأجْلِ أنَّ اللهَ أوجَبها، مِثلُ أن يُؤدِّيَ الأمانةَ، أو يَصدُقَ الحديثَ، أو يَعدِلَ في قَسمِه وحُكمِه مِن غَيرِ إيمانٍ باللهِ ورسولِه؛ لم يخرُجْ بذلك مِن الكُفرِ؛ فإنَّ المُشرِكينَ وأهلَ الكتابِ يرَونَ وُجوبَ هذه الأمورِ؛ فلا يكونُ الرَّجلُ مُؤمِنًا باللهِ ورسولِه معَ عَدمِ شيءٍ مِن الواجِباتِ التي يختصُّ بإيجابِها مُحمَّدٌ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ومَن قال بحُصولِ الإيمانِ الواجِبِ بدونِ فِعلِ شيءٍ مِن الواجِباتِ؛ سواءٌ جعَل فِعلَ تلك الواجِباتِ لازِمًا له أو جُزءًا منه، فهذا نِزاعٌ لفظيٌّ؛ كان مُخطِئًا خطأً بيِّنًا، وهذه بِدعةُ الإرجاءِ التي أعظَمَ السَّلفُ والأئمَّةُ الكلامَ في أهلِها، وقالوا فيها مِن المقالاتِ الغليظةِ ما هو معروفٌ، والصَّلاةُ هي أعظَمُها وأعَمُّها وأوَّلُها وأجَلُّها)
[207] ((مجموع الفتاوى)) (7/ 621). .
وقال أيضًا: (الإيمانُ عندَ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ قولٌ وعَملٌ كما دلَّ عليه الكتابُ والسُّنَّةُ، وأجمَع عليه السَّلفُ، وعلى ما هو مُقرَّرٌ في مَوضِعِه؛ فالقولُ تصديقُ الرَّسولِ، والعَملُ تصديقُ القولِ، فإذا خلا العَبدُ عن العَملِ بالكُلِّيَّةِ لم يكنْ مُؤمِنًا، والقولُ الذي يصيرُ به مُؤمِنًا قولٌ مخصوصٌ، وهو الشَّهادتانِ، فكذلك العَملُ هو الصَّلاةُ، وأيضًا ما احتجَّ به ابنُ شاقْلَا، ويُذكَرُ عن
الإمامِ أحمَدَ أنَّ
إبليسَ بامتِناعِه عن السُّجودِ لآدَمَ قد لزِمه الكُفرُ واللَّعنةُ، فكيف مَن يمتنِعُ عن السُّجودِ للهِ تعالى، وهذا لأنَّ الكُفرَ لو كان مُجرَّدَ الجَحدِ أو إظهارِ الجَحدِ لَما كان
إبليسُ كافِرًا؛ إذ هو خلافُ نصِّ القرآنِ، وأيضًا فإنَّ حقيقةَ الدِّينِ هو الطَّاعةُ والانقِيادُ، وذلك إنَّما يتِمُّ بالفِعلِ لا بالقولِ فقط؛ فمَن لم يفعَلْ للهِ شيئًا فما دان للهِ دِينًا، ومَن لا دِينَ له فهو كافِرٌ)
[208] ((شرح العمدة)) (ص: 86). .
11- قال
ابنُ رَجبٍ: (كثيرٌ مِن عُلَماءِ أهلِ الحديثِ يرى تكفيرَ تارِكِ الصَّلاةِ، وحكاه
إسحاقُ بنُ راهَوَيْهِ إجماعًا منهم، حتَّى إنَّه جعَل قولَ مَن قال: لا يكفُرُ بتَركِ هذه الأركانِ معَ الإقرارِ بها، مِن أقوالِ
المُرجِئةِ...، ونقَل حربٌ عن
إسحاقَ، قال: غلَت
المُرجِئةُ حتَّى صار مِن قولِهم: إنَّ قومًا يقولونَ: مَن ترَك الصَّلواتِ المكتوباتِ، وصومَ رَمضانَ، والزَّكاةَ، والحجَّ، وعامَّةَ الفرائِضِ، مِن غَيرِ جُحودٍ لها؛ لا نُكفِّرُه، يُرجَأُ أمرُه إلى اللهِ بَعدُ؛ إذ هو مُقِرٌّ، فهؤلاء الذين لا شكَّ فيهم -يعني في أنَّهم مُرجِئةٌ-، وظاهِرُ هذا أنَّه يَكفُرُ بتَركِ هذه الفرائِضِ. وروى يعقوبُ الأشعَريُّ عن ليثٍ عن سعيدِ بنِ جُبَيرٍ، قال: مَن ترَك الصَّلاةَ مُتعمِّدًا فقد كفَر، ومَن أفطَر يومًا في رَمضانَ فقد كفَر، ومَن ترَك الحجَّ مُتعمِّدًا فقد كفَر، ومَن ترَك الزَّكاةَ مُتعمِّدًا فقد كفَر. ويُروى عن الحَكمِ بنِ عُتَيبةَ نَحوُه، وحكى روايةً عن
أحمَدَ اختارها أبو بكرٍ مِن أصحابِه، وعن عبدِ الملِكِ بنِ حَبيبٍ المالِكيِّ مِثلُه، وهو قولُ أبي بكرٍ الحُمَيديِّ)
[209] ((فتح الباري)) (1/ 23، 24). .