المَبحَثُ الثَّامِنُ: الميزانُ في تَفسيرِ القُرآنِ
(الميزانُ في تَفسيرِ القُرآنِ) تَفسيرٌ شيعيٌّ مُعاصِرٌ، وهو مِن أكثَرِ التَّفاسيرِ الشِّيعيَّةِ انتشارًا وشُهرةً، وله مَكانةٌ عَظيمةٌ عِندَ الشِّيعةِ الإماميَّةِ، ومُؤَلِّفُه هو مُحَمَّد حُسَين الطَّباطَبائيُّ، المُتَوفَّى في قُمٍّ سَنةَ 1402 للهِجرةِ
[2286] يُنظر: ((تتمة الأعلام)) لمحمد خير رمضان (2/ 146). .
وقد تُرجِمَ هذا التَّفسيرُ إلى اللُّغةِ الفارِسيَّةِ والأُرديَّةِ والإنكليزيَّةِ، وطُبعَ عِدَّةَ مَرَّاتٍ في إيرانَ وبَيروتَ وباكِستانَ.
وأصلُ الكِتابِ عِبارةٌ عن مُحاضَراتٍ ألقاها المُؤَلِّفُ على طَلبةِ العُلومِ الدِّينيَّةِ في مَدينةِ قُمٍّ بإيرانَ، ثُمَّ ألحَّ عليه طُلَّابُه أن يجمَعَ تلك المُحاضَراتِ لتَكونَ تفسيرًا، فاستَجابَ لطَلَبِهم حتَّى صَدَرَ الجُزءُ الأوَّلُ من الميزانِ عامَ 1375ه، وتَوالتِ الأجزاءُ الأُخرى في الصُّدورِ حتَّى اكتَمَل في عِشرينَ مجلَّدًا
[2287] يُنظر: ((المفسرون حياتهم ومنهجهم)) لإيازي (3/1223). .
والطَّباطَبائيُّ يعتَمِدُ كثيرًا على تَفسيرِ القُمِّيِّ والعَيَّاشيِّ وغَيرِهما من غُلاةِ الشِّيعةِ؛ فقد ذَكرَ القُمِّيُّ في تَفسيرِه أكثَرَ مِن 500 مَرَّةٍ، وذَكَر العَيَّاشيُّ نَحوَ 400 مَرَّةٍ تَقريبًا، ونَقَل مِن كِتابِ الكافي للكُلينيِّ نَحوَ 500 مَرَّةٍ، ونَقل مِن تَفسيرِ البُرهانِ للبَحرانيِّ أكثَرَ مِن 80 مَرَّةً.
والطَّباطَبائيُّ يُكثِرُ في تَفسيرِه من ذِكرِ الرِّواياتِ المَوضوعةِ على النَّبيِّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ وأهلِ البَيتِ من كتُبِ الشِّيعةِ الإماميَّةِ، ويذكُرُ أيضًا بَعضَ الرِّواياتِ المَشهورةِ عنِ الصَّحابةِ والتَّابِعينَ، لكِنَّه لا يعتَمِدُ عليها؛ فقد قال في مُقدِّمةِ تَفسيرِه: (نورِدُ ما تَيسَّرَ لنا إيرادُه مِنَ الرِّواياتِ المَنقولةِ عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وآلِه وسَلَّمَ وأئِمَّةِ أهلِ البَيتِ سَلامُ اللهِ عليهم أجمَعينَ مِن طُرُقِ العامَّةِ والخاصَّةِ، وأمَّا الرِّواياتُ الوارِدةُ عن مُفسِّري الصَّحابةِ والتَّابِعينَ فإنَّها على ما فيها مِنَ الخَلطِ والتَّناقُضِ لا حُجَّةَ فيها على مُسلِمٍ!)
[2288] ((الميزان)) (1/11). .
وللإنصافِ فإنَّ الطَّباطَبائيَّ رَدَّ القَولَ بتَحريفِ القُرآنِ، ومِمَّا قال في ذلك: (العَجَبُ مِن هؤلاء المُحتَجِّينَ برِواياتٍ مَنسوبةٍ إلى الصَّحابةِ أو إلى أئِمَّةِ أهلِ البَيتِ عليهمُ السَّلامُ على تَحريفِ كِتابِ اللهِ سُبحانَه وإبطالِ حُجِّيَّتِه! وببُطلانِ حُجَّةِ القُرآنِ تَذهَبُ النُّبوَّةُ سُدًى والمَعارِفُ الدِّينيَّةُ لغًا لا أثَرَ لها، وماذا يُغني قَولُنا: إنَّ رَجُلًا في تاريخِ كذا ادَّعى النُّبوَّةَ وأتى بالقُرآنِ مُعجِزةً، أمَّا هو فقد ماتَ، وأمَّا قُرآنُه فقد حُرِّف، ولم يبقَ بأيدينا مِمَّا يُؤَيِّدُ أمرَه إلَّا أنَّ المُؤمِنينَ به أجمَعوا على صِدقِه في دَعواه، وأنَّ القُرآنَ الذي جاءَ به كان مُعجِزًا دالًّا على نُبوَّتِه، والإجماعُ حُجَّةٌ؛ لأنَّ النَّبيَّ المَذكورَ اعتَبَرَ حُجِّيَّتَه، أو لأنَّه يكشِفُ مَثَلًا عن قَولِ أئِمَّةِ أهلِ بَيتِه؟)
[2289] ((الميزان)) (12/114). .
قال مُحَمَّد عَلي إيازي: (يُعَدُّ الميزانُ مِن أهَمِّ تَفاسيرِ الشِّيعةِ وأجمَعِها بَعدَ مَجمَعِ البَيانِ للطَّبَرسيِّ، ويُعتَبَرُ أحَدَ التَّفاسيرِ الإسلاميَّةِ للقُرونِ الحَديثةِ)
[2290] ((المفسرون حياتهم ومنهجهم)) (3/1220). ويُنظر: ((التفسير والمفسرون)) لمعرفة (2/1025). .
وقال فهد الرُّوميُّ: (رَأيي في هذا التَّفسيرِ:
قِراءةٌ قَصيرةٌ في هذا التَّفسيرِ تُدرِكُ مِنها أوَّلَ ما تُدرِكُ أنَّ هذا الكِتابَ لم يُؤَلَّفْ للعامَّةِ وإنَّما للعُلماءِ نَظَرًا لِما فيه مِن أبحاثٍ دَقيقةٍ عَميقةٍ، ويُقالُ فيه ما قيل في تَفسيرِ الكشَّافِ: إنَّه من أحسَنِ التَّفاسيرِ لولا ما فيه مِنَ الاعتِزال، أمَّا هذا التَّفسيرُ فهو من أحسَنِ التَّفاسيرِ في العَصرِ الحَديثِ لولا ما فيه مِنَ التَّشَيُّعِ المُتَطَرِّفِ. ومِن مَزاياه هذه الأبحاثُ الواسِعةُ الشَّامِلةُ التي يورِدُها في تَفسيرِ بَعضِ الآياتِ مُستَقصيًا مُستَوفيًا لأطرافِ القَضيَّةِ التي يبحَثُها)
[2291] ((اتجاهات التفسير في القرن الرابع عشر)) (1/249). .
أمثلةٌ من تفسيرِ الميزانِ:1- في قَولِ اللهِ تعالى:
وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [البقرة: 57] ، قال الطَّباطَبائيُّ: (وفي الكافي: في قَولِه تعالى:
وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ، عن أبي الحَسَنِ الماضي عليه السَّلامُ قال: إنَّ اللهَ أعَزُّ وأمنَعُ مِن أن يُظلَمَ أو يَنسُبَ نَفسَه إلى الظُّلمِ، ولكِنَّه خَلَطَنا بنَفسِه فجَعَل ظُلْمَنا ظُلمَه ووِلايتَنا وِلايتَه، ثُمَّ أنزَل اللهُ بذلك قرآنًا على نَبيِّه، فقال:
وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ. قال الرَّاوي: قُلتُ: هذا تَنزيلٌ؟ قال: نَعَم. أقولُ: ورُويَ ما يقرُبُ مِنه أيضًا عنِ الباقِرِ عليه السَّلامُ. وقَولُه عليه السَّلامُ: "أمنَعُ مِن أن يُظلمَ" بالبناءِ للمَفعولِ تَفسيرٌ لقَولِه تعالى:
وَمَا ظَلَمُونَا، وقَولُه: أو يَنسُبَ نَفسَه إلى الظُّلمِ، بالبناءِ للفاعِلِ: وقَولُه: "ولكِنَّه خَلَطَنا بنَفسِه" أي: خَلَطَنا -مَعاشِرَ الأنبياءِ والأوصياءِ والأئِمَّةِ- بنَفسِه، وقَولُه: قُلتُ: هذا تَنزيلٌ؟ قال: نَعَم. ووجهُه أنَّ النَّفيَ في هذه المَوارِدِ وأمثالِها إنَّما يصِحُّ فيما يصِحُّ فيه الإثباتُ أو يُتَوهَّمُ صِحَّتُه، فلا يُقالُ للجِدارِ: إنَّه لا يُبصِرُ أو لا يَظلِمُ إلَّا لنُكتةٍ، وهو سُبحانَه أجَلُّ مِن أن يُسلِّمَ في كلامِه تَوهُّمَ الظُّلمِ عليه، أو جازَ وُقوعُه عليه، فالنُّكتةُ في هذا النَّفيِ الخَلطُ المَذكورُ؛ لأنَّ العُظَماءَ يتَكلَّمونَ عن خَدَمِهم وأعوانِهم)
[2292] ((الميزان)) (1/193). .
2- في قَولِ اللهِ سُبحانَه:
بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة: 81] ، قال الطَّباطَبائيُّ: (في الكافي عن أحَدِهما عليهما السَّلامُ في قَولِه تعالى:
بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً قال: إذا جَحَدوا وِلايةَ أميرِ المُؤمِنينَ فأولئك أصحابُ النَّارِ هم فيها خالِدونَ.
أقولُ: وروى قَريبًا مِن هذا المَعنى الشَّيخُ في أماليه عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وآلِه وسَلَّمَ)
[2293] ((الميزان)) (1/219). .
3- في قَولِ اللهِ تعالى:
لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً [آل عمران: 28]، قال الطَّباطَبائيُّ: (في تَفسيرِ العَيَّاشيِّ عنِ الصَّادِقِ عليه السَّلامُ قال: كان رَسولُ اللهِ يقولُ: لا دينَ لمَن لا تَقيَّةَ له، ويقولُ: قال اللهُ: إلَّا أن تَتَّقوا مِنهم تَقيَّةً. وفي الكافي عنِ الباقِرِ عليه السَّلامُ: التَّقيَّةُ في كُلِّ شَيءٍ يُضطَرُّ إليه ابنُ آدَمَ، وقد أحَلَّ اللهُ له.
أقولُ: والأخبارُ في مَشروعيَّةِ التَّقيَّةِ مِن طُرُقِ أئِمَّةِ أهلِ البَيتِ كثيرةٌ جِدًّا رُبَّما بَلغَت حَدَّ التَّواتُرِ، وقد عُرِفَت دَلالةُ الآيةِ عليها دَلالةً غَيرَ قابلةٍ للدَّفعِ)
[2294] يُنظر: ((الميزان)) (3/174). .
4- هذه الآيةُ الكريمةُ:
إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ [المائدة: 55] يُسَمِّيها الشِّيعةُ آيةَ الوِلايةِ، ويزعُمونَ أنَّها تَدُلُّ على وِلايةِ عَليِّ بنِ أبي طالبٍ رَضِيَ اللهُ عنه دونَ غَيرِه مِنَ المُؤمِنينَ، وقد تَحَدَّثَ عنها الطَّباطَبائيُّ في أكثَرَ مِن عِشرينَ صَفحةً محاولًا أن يُثبتَ بها الوِلايةَ لعَليٍّ والأئِمَّةِ مِن بَعدِه، وضَلالَ مَن لا يقولُ بعَقيدَتِه، ويذكُرُ أنَّ عَليًّا حاجَّ
أبا بكرٍ بها فاعتَرَف بأنَّ الوِلايةَ لعَليٍّ
[2295] يُنظر: ((الميزان)) (6/2 - 24). !
5- في قَولِ اللهِ سُبحانَه:
الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ [النور: 26] ، قال الطَّباطَبائيُّ: (في الاحتِجاجِ عنِ
الحَسَنِ بنِ عَليٍّ عليهما السَّلامُ في حَديثٍ له مَعَ
مُعاويةَ وأصحابِه وقد نالوا مِن عليٍّ عليه السَّلامُ، قال:
الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ هم واللهِ يا
مُعاويةُ أنتَ وأصحابُك هؤلاء وشيعَتُك ، و
وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ إلى آخِرِ الآيةِ، هم عَليُّ بنُ أبي طالبٍ وأصحابُه وشيعَتُه)
[2296] ((الميزان)) (15/107). .
6- في قَولِ اللهِ عزَّ وجَلَّ:
وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ [محمد: 8 - 9] قال الطَّباطَبائيُّ: (في المجمَعِ في قَولِه تعالى:
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ: قال أبو جَعفرٍ عليه السَّلامُ: كَرِهوا ما أنزَل اللهُ في حَقِّ عليٍّ عليه السَّلامُ)
[2297] ((الميزان)) (18/233). .