الفصلُ الخامسُ: علاقةُ الأشاعِرةِ بالتَّصوُّفِ
علاقةُ
الأشاعِرةِ بالتَّصوُّفِ علاقةٌ قديمةٌ؛ فقد ثبتَ أنَّ أشهَرَ
الأشاعِرةِ القُدامى كان لهم صلةٌ بالتَّصوُّفِ، وقد ادَّعى بعضُ
الأشاعِرةِ كالسُّبْكيِّ أنَّ
أبا الحسنِ الأشعَريَّ (ت: 324 هـ) مُؤسِّسَ المَذهَبِ الأشعَريِّ التقى ب
الجُنَيدِ شيخِ الصُّوفيَّةِ (ت: 298 هـ)، وزعَم هؤلاء أنَّه أوَّلُ ارتباطٍ بَينَ
الأشاعِرةِ والصُّوفيَّةِ، وهذا بعيدٌ، لا دليلَ عليه
[224] يُنظر: ((المدراس الأشعرية دراسة مقارنة)) للشهري (ص: 278). .
ومِن أعلامِ الأشاعِرةِ الذين كان لهم صِلةٌ بالتَّصوُّفِ: أبو الحسينِ الشِّيرازيُّ بُنْدار (ت: 353 ه)، خادمُ
أبي الحسنِ الأشعَريِّ، وسمَّاه
الذَّهبيُّ شيخَ الصُّوفيَّةِ
[225] يُنظر: ((سير أعلام النبلاء)) (16/108). ، وكانت له صِلةٌ بأبي بكرٍ الشِّبْليِّ (ت: 334 هـ)، والشِّبْليُّ هذا مِن مشاهيرِ الصُّوفيَّةِ؛ قالَ عنه
الذَّهبيُّ: (أبو بكرٍ الشِّبْليُّ، الصُّوفيُّ المشهورُ، صاحبُ الأحوالِ)
[226] ((تاريخ الإسلام)) (7/ 687). .
وذَكرَ ترجمتَه السُّبْكيُّ في
((طبَقاتِ الشَّافعيَّةِ الكُبرى)) [227] يُنظر: ((طبقات الشافعية الكبرى)) (3/ 224). .
ومنهم أبو عبدِ اللهِ بنُ خَفيفٍ الشِّيرازيُّ (ت: 371 هـ)، وهو مِن تلاميذِ
أبي الحسنِ الأشعَريِّ.
ذَكرَه ابنُ عساكرَ مِن
الأشاعِرةِ، ووصَفه بالصُّوفيِّ
[228] يُنظر: ((تبيين كذب المفتري فيما نسب إلى الأشعري)) (ص: 190). ، وقال السُّبْكيُّ عن ابنِ خَفيفٍ: (روى عنه القاضي أبو بكرِ بنُ الباقِلَّانيِّ شيخُ
الأشعَريَّةِ وطائِفةٌ، رحَل ابنُ خَفيفٍ إلى الشَّيخِ
أبي الحسنِ الأشعَريِّ، وأخَذ عنه، وهو مِن أعيانِ تلامِذتِه)
[229] ((طبقات الشافعية الكبرى)) (3/ 150) باختصار. .
ومنهم: أبو منصورٍ عبدُ القاهرِ البَغداديُّ (ت: 429 هـ)، كان مِن شُيوخِه أبو عمرٍو إسماعيلُ بنُ نُجيدٍ السُّلَميُّ، شيخُ الصُّوفيَّةِ بخُراسانَ، وأحدُ مشايخِ
أبي عبدِ اللهِ الحاكِمِ في الحديثِ، وهو مِن أصحابِ
الجُنيدِ شيخِ الصُّوفيَّةِ، وهو جَدُّ الصُّوفيِّ المشهورِ أبي عبدِ الرَّحمنِ السُّلَميِّ لأمِّه
[230] يُنظر: ((تاريخ الإسلام)) للذهبي (8/ 237)، ((طبقات الشافعية الكبرى)) للسبكي (3/ 222). .
فالبَغداديُّ مِن أشهَرِ أعلامِ
الأشاعِرةِ، وقد كان مُتأثِّرًا بالصُّوفيَّةِ، وعَدَّهم مِن أصنافِ أهلِ السُّنَّةِ؛ قال عبدُ القاهرِ البَغداديُّ في ذِكرِه لأصنافِ أهلِ السُّنَّةِ: (الصِّنفُ السَّادسُ منهم: الزُّهَّادُ الصُّوفيَّةُ، الذين أبصَروا فأقصَروا، واختَبروا فاعتَبروا، ورَضُوا بالمَقدورِ وقنِعوا بالمَيسورِ، وعلِموا أنَّ السَّمعَ والبصرَ والفؤادَ كُلُّ أولئك مَسؤولٌ عن الخيرِ والشَّرِّ، ومُحاسَبٌ على مَثاقيلِ الذَّرِّ، فأعَدُّوا خيرَ الاعتِدادِ ليوم المَعادِ، وجرى كلامُهم في طريقَيِ العِبارةِ والإشارةِ على سَمتِ أهلِ الحديثِ، دونَ مَن يشتري لهْوَ الحديثِ، لا يعملونَ الخيرَ رِياءً، ولا يتركونَه حياءً، دينُهم التَّوحيدُ ونَفيُ التَّشبيهِ، ومَذهَبُهم التَّفويضُ إلى اللهِ تعالى والتَّوكُّلُ عليه، والتَّسليمُ لأمرِه، والقناعةُ بما رُزِقوا، والإعراضُ عن الاعتِراضِ عليه)
[231] ((الفرق بين الفرق)) (ص: 302). .
قال عنه
ابنُ الصَّلاحِ: (رأيتُ له كتابًا في "معنى لفظتَيِ التصَوُّفِ والصُّوفيِّ"، جمَع فيه مِن أقوالِ الصُّوفيَّةِ زُهاءَ ألفِ قَولٍ مُرتَّبةٍ على حُروفِ المُعجَمِ.
ومِن قَولِه فيه:
التصَوُّفُ: مجانَبةُ الأجانبِ من كُلِّ جانبٍ.
التصَوُّفُ: غَيثٌ بلا عَيثٍ.
الصُّوفيُّ: هو الذي لا يطمَعُ فيمَن يطمَعُ.
الصُّوفيُّ: مَن لا يُبالي أن يكونَ مَلومًا إذا لم يكُنْ مُليمًا.
الصُّوفيُّ: مُفهمٌ مُلهَمٌ، عن دَعواه مُفحَمٌ).
[232] ((طبقات الفقهاء الشافعية)) لابن الصلاح (2/ 554). ثمَّ قال: (الأستاذُ أبو منصورٍ هذا يخبِطُ كثيرًا في نُقولِه وما يحكيه خَبْطَ عَشواءَ، فما أدري مِن أينَ يُؤتى؟!)
[233] ((طبقات الفقهاء الشافعية)) لابن الصلاح(2/ 556) . .
ومنهم أبو القاسمِ القُشَيريُّ (ت: 465 هـ) مِن شيوخِه أبو عليٍّ الدَّقَّاقُ الصُّوفيُّ المَشهورُ، و
القُشَيريُّ أشهَرُ مَن أدخَلَ التَّصوُّفَ في المَذهَبِ الأشعَريِّ، وربَطَه به، وذلك حين ألَّف
القُشَيريُّ رِسالتَه المَشهورةَ في التَّصوُّفِ وأحوالِه وتراجِمِ رِجالِه المَشهورينَ، فذَكرَ في هذه الرِّسالةِ أنَّ عقيدةَ أعلامِ التَّصوُّفِ هي عقيدةُ
الأشاعِرةِ؛ فكانت رِسالتُه سببًا عظيمًا في دخولِ
الأشاعِرةِ في التَّصوُّفِ، ودخولِ الصُّوفيَّةِ في المَذهَبِ الأشعَريِّ
[234] يُنظر: ((الرسالة القشيرية)) (1/ 34 - 149)، ((تبيين كذب المفتري فيما نسب إلى الأشعري)) لابن عساكر (ص: 109 – 113، 226، 272)، ((لوامع الأنوار البهية)) للسفاريني (1/ 269)، ((موقف ابن تيمية من الأشاعرة)) للمحمود (2/ 591 - 599)، ((المدراس الأشعرية دراسة مقارنة)) للشهري (ص: 328 – 332، 353 - 355). .
ومنهم: أبو حامدٍ الغَزاليُّ (ت: 505 هـ). قال عبدُ الغافِر الفارسيُّ عن
الغَزاليِّ: (غلبَتِ الحالُ عليه بَعدَ تَبحُّرِه في العلومِ، واستطالتِه على الكُلِّ بكلامِه، والاستِعدادِ الذي خصَّه اللهُ به في تحصيلِ أنواعِ العلومِ، وتَمكُّنِه مِن البحثِ والنَّظرِ، حتَّى تَبرَّمَ مِن الاشتِغالِ بالعلومِ العَريَّةِ عن المُعامَلةِ، وتَفكَّرَ في العاقبةِ، وما يُجدي وما ينفعُ في الآخرةِ، فابتَدأَ بصُحبةِ الفارمذيِّ، وأخذَ مِنه استِفتاحَ الطَّريقةِ)
[235] ((طبقات الشافعية الكبرى)) للسبكي (6/ 209). ويُنظر: ((المدارس الأشعرية)) للشهري (ص: 680 -686). .
وأبو حامدٍ إمامٌ مَشهورٌ مِن أئمَّةِ المَذهَبِ الأشعَريِّ، وإمامٌ مَشهورٌ مِن أئمَّةِ التَّصوُّفِ، وله كلامٌ كثيرٌ في العقائِدِ
الأشعَريَّةِ، وفي التَّصوُّفِ، وأشهَرُ كُتبِه
((إحياءُ علومِ الدِّينِ)) دعا فيه إلى عقيدةِ
الأشاعِرةِ، وإلى التَّصوُّفِ؛ فقدْ عقَدَ فيه كتابًا أسماه قواعدَ العقائِدِ
[236] يُنظر: ((إحياء علوم الدين)) (1/ 89 - 125). ، قرَّر فيه عقائِدَ
الأشاعِرةِ، ف
الغَزاليُّ وكتابُه الإحياءُ مِن أهمِّ الأسبابِ التي ربطَتْ بَينَ التَّصوُّفِ والمَذهَبِ الأشعَريِّ، فلا تكادُ تجدُ صوفيًّا ممَّن يعظِّمُ
الغَزاليَّ ويعظِّمُ كتابَه إحياءَ علومِ الدِّينِ إلَّا وهو أشعَريُّ المَذهَبِ!
وهكذا امتَزجَ التَّصوُّفُ بالمَذهَبِ الأشعَريِّ، وارتَبطَ به ارتِباطًا قويًّا؛ فكثيرٌ ممَّن جاء بَعدَ
أبي حامدٍ الغَزاليِّ مِن أعلامِ
الأشاعِرةِ الدُّعاةِ إليه تَجِدُهم أيضًا مِن الدُّعاةِ إلى التَّصوُّفِ، فهُم معَ تَقريرِهم عقائِدَ
الأشاعِرةِ يدْعونَ إلى التَّصوُّفِ
[237] يُنظر: ((المدارس الأشعرية)) للشهري (ص: 462 - 473، 478، 479، 483، 707 - 709، 714، 715). .
ومنهم فخرُ الدِّينِ الرَّازيُّ (ت: 606 هـ)، فقال في قصَّةِ أصحابِ الكهفِ: (احتجَّ أصحابُنا الصُّوفيَّةُ بهذه الآيةِ على صحَّةِ القولِ بالكراماتِ، وهو استِدلالٌ ظاهرٌ)
[238] ((تفسير الرازي)) (21/ 430، 434). .
وقال عنه
طاش كُبْرى زادَه: (وكان من أهلِ الدِّينِ والتَّصَوُّفِ، وله يدٌ فيه، وتفسيرُه يُنبئُ عن ذلك)
[239] ((مفتاح السعادة ومصباح السيادة)) (2/ 103). .
وقال أيضًا: (اعلَمْ أنَّ الإمامَ كان من زُمرةِ الفُقهاءِ، ثمَّ التحق بالصُّوفيَّةِ، فصار من أهلِ المُشاهَدةِ، وصنَّف التَّفسيرَ بَعدَ ذلك. ومَن تأمَّل في مباحثِه، وتصفَّح لطائِفَه؛ يجِدْ في أثنائِه كَلِماتِ أهلِ التَّصوُّفِ من الأمورِ الذَّوقيَّةِ)
[240] ((مفتاح السعادة ومصباح السيادة)) (2/ 107، 108). .
ومنهم عزُّ الدِّينِ بنُ عبدِ السَّلامِ (ت: 660 هـ)، كانَ أشعرِيًّا مُتصوِّفًا.
قالَ
السُّيوطيُّ في ترجمتِه: (له كراماتٌ كثيرةٌ، ولبِسَ خِرقةَ التَّصوُّفِ مِن الشِّهابِ السُّهْروَرديِّ)
[241] ((حسن المحاضرة في تاريخ مصر والقاهرة)) (1/ 315). .
ومنهم تَقيُّ الدِّينِ السُّبْكيُّ (ت: 756 هـ)، قالَ
تاجُ الدِّينِ السُّبْكيُّ في ترجمةِ والدِه
تَقيِّ الدِّينِ السُّبْكيِّ: (صَحِبَ في التَّصوُّفِ الشَّيخَ تاجَ الدِّينِ بنَ عطاءِ اللهِ)
[242] ((طبقات الشافعية الكبرى)) (10/ 146). .
ومنهم تاجُ الدِّينِ السُّبْكيُّ (ت: 771هـ)، وكان يُكثِرُ في كتابِه طبَقاتِ الشَّافعيَّةِ الكُبرى مِن الثَّناءِ على الصُّوفيَّةِ، وتعظيمِ أمرِهم
[243] يُنظر مثلًا: ((طبقات الشافعية الكبرى)) (1/ 117) و (2/ 260) و (3/ 48) و (4/ 18). .
وقال في كتابِه "مُعيدُ النِّعمِ": (وقد جرَّبْنا فلم نَجِدْ فقيهًا ينكِرُ على الصُّوفيَّةِ إلَّا ويهلِكُه اللهُ تعالى، وتكونُ عاقبتُه وخيمةً)
[244] ((معيد النعم ومبيد النقم)) (ص: 71). .
وقال أيضًا: (إذا علِمْتَ أنَّ خاصَّةَ الخلْقِ هُم الصُّوفيَّةُ، فاعلمْ أنَّهم قد تشبَّهَ بهم أقوامٌ ليسوا منهم، فأوجَبَ تَشبُّهُ أولاء بهم سوءَ الظَّنِّ، ولعلَّ ذلك مِن اللهِ تعالى قصدًا لخفاءِ هذه الطَّائفةِ التي تُؤثِرُ الخمولَ على الظُّهورِ)
[245] ((معيد النعم ومبيد النقم)) (ص: 96). .
ومنهم زكريَّا الأنصاريُّ (ت: 926 هـ)، وله شرحٌ على رسالةِ
القُشَيريِّ، وذَكرَ في آخِرِ كتابِه "غايةُ الوصولِ" خاتمةً فيما يُذكَرُ مِن مبادئِ التَّصوُّفِ
[246] يُنظر: ((غاية الوصول في شرح لب الأصول)) (ص: 173). .
وقالَ
السَّخاويُّ عن زكريَّا الأنصاريِّ: (قرأ التَّصوُّفَ عن أبي عبدِ اللهِ الغَمْريِّ، والشِّهابِ أحمدَ الإدْكاويِّ، ومُحمَّدٍ الفُوِّيِّ...، وهو أحدُ مَن عظَّمَ
ابنَ عربيٍّ، واعتَقده، وسمَّاه ولِيًّا)
[247] ((الضوء اللامع لأهل القرن التاسع)) (3/ 235 - 237). .
ومنهم ابن حجر الهيتمي (ت: 974 هـ)، قالَ
ابن حجر الهيتمي: (أورادُ الصُّوفيَّةِ التي يقرؤونَها بَعدَ الصَّلواتِ على حسَبِ عاداتِهم في سلوكِهم لها أصلٌ أصيلٌ...، وإذا ثبَت أنَّ لِما يعتادُه الصُّوفيَّةُ مِن اجتماعِهم على الأذكارِ والأورادِ بَعدَ الصُّبحِ وغَيرِه أصلًا صحيحًا مِن السُّنَّةِ، وهو ما ذَكرْناه، فلا اعتِراضَ عليهم في ذلك، ثمَّ إن كان هناك مَن يتأذَّى بجَهرِهم كمُصلٍّ أو نائمٍ نُدِب لهم الإسرارُ، وإلَّا رجَعوا لِما يأمرُهم به أستاذُهم الجامعُ بَينَ الشَّريعةِ والحقيقةِ، لِما مرَّ أنَّه كالطَّبيبِ، فلا يأمرُ إلَّا بما يرى فيه شفاءً لعِلَّةِ المريضِ...، والأخذُ عن مشايخَ مُتعدِّدينَ يختلفُ الحالُ فيه بَينَ مَن يريدُ التَّبرُّكَ وبَينَ مَن يريدُ التَّربيةَ والسُّلوكَ؛ فالأوَّلُ يأخذُ عمَّن شاء؛ إذ لا حجْرَ عليه، وأمَّا الثَّاني فيَتعيَّنُ عليه على مصطَلحِ القومِ السَّالِمينَ مِن المَحظورِ واللَّومِ -حشَرَنا اللهُ في زُمرتِهم- أن لا يَبتدِئَ إلَّا بمَن جذَبه إليه حالُه قهرًا عليه، بحيثُ اضمحلَّتْ نفسُه لباهرِ حالِ ذلك الشَّيخِ المُحقِّ، وتخلَّتْ له عن شَهواتِها وإرادتِها، فحينَئذٍ يتعيَّنُ عليه الاستِمساكُ بهَديِه والدُّخولُ تحتَ جميعِ أوامرِه ونواهيه ورسومِه؛ حتَّى يصيرَ كالميِّتِ بَينَ يدَيِ الغاسلِ، يُقلِّبُه كيف شاءَ)
[248] ((الفتاوى الحديثية)) (ص: 55). .
وقال
ابن حجر الهيتمي أيضًا: (ينبغي للإنسانِ حيثُ أمكَنه عدمُ الانتِقادِ على السَّادةِ الصُّوفيَّةِ، نفَعَنا اللهُ بمعارِفِهم، وأفاض علينا بواسطةِ محبَّتِنا لهم ما أفاض على خواصِّهم، ونظَمَنا في سِلكِ أتباعِهم، ومَنَّ علينا بسوابِغِ عوارفِهم- أن يُسلِّمَ لهم أحوالَهم ما وجدَ لهم مَحمَلًا صحيحًا يخرِجُهم عن ارتِكابِ المُحرَّمِ، وقد شاهَدْنا مَن بالَغ في الانتِقادِ عليهم، معَ نوعِ تعصُّبٍ، فابتلاه اللهُ بالانحِطاطِ عن مرتبتِه، وأزال عنه عوائِدَ لُطفِه وأسرارَ حَضرتِه، ثُمَّ أذاقه الهوانَ والذِّلَّةَ، ورَدَّه إلى أسفَلِ سافِلينَ، وابتلاه بكلِّ عِلَّةٍ ومِحنةٍ)
[249] ((الفتاوى الحديثية)) (ص: 59). .
ثُمَّ في القرونِ الأربعةِ الأخيرةِ انتَشر التَّصوُّفُ انتِشارًا غَيرَ مَسبوقٍ، لا سيَّما في عَهدِ الدَّولةِ العُثمانيَّةِ التي كانت ترعاه، وتَبنَّاه علماءُ
الأشاعِرةِ والماتُريديَّةِ، ودعَوا إليه.
أمَّا في القرنَينِ الأخيرَينِ فقد التَحمَتِ الصُّوفيَّةُ معَ
الأشعَريَّةِ في مدرسةٍ واحدةٍ، وتجمَّع
الأشاعِرةُ في محاضِنِ الصُّوفيَّةِ، وانتَشر التَّصوُّفُ بَينَ علماءِ الأزهَرِ بمِصرَ، وعلماءِ الشَّامِ وحَضْرَموتَ، وعلماءِ المَغرِبِ وما جاوَرَها، وعلماءِ الهِندِ، وعلماءِ تُركيا والشِّيشانِ وطاجَكِستانَ وغيْرِها مِن البُلدانِ، فلا تكادُ تَجِدُ صوفيًّا إلَّا وهو أشعَريٌّ أو ماتُريديُّ المُعتقَدِ، وجميعُ مُؤسَّساتِ ومراكِزِ الصُّوفيَّةِ في العالَمِ تدرِّسُ العقيدةَ
الأشعَريَّةَ، وآخِرُ ما جمَعهم معًا المُؤتمَرُ الذي أُقيمَ في جروزني عاصمةِ الشِّيشانِ عامَ 1437هـ، المُوافِق 2016 م، والمُسمَّى زورًا وبُهتانًا (مُؤتمَرَ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ)، حضَره علماءُ الصُّوفيَّةِ مِن
الأشاعِرةِ والماتُريديَّةِ، وبعضُ المَخدوعينَ والمُنتفِعينَ، وكانت أبرَزُ نتائجِه إصدارَ بيانٍ قرَّروا فيه أنَّ أهلَ السُّنَّةِ والجماعةِ هُم
الأشاعِرةُ والماتُريديَّةُ، والمُفوِّضةُ مِن أهلِ الحديثِ، وأهلُ المَذاهبِ الأربعةِ في الفِقهِ، وأهلُ التَّصوُّفِ، وأخرجوا غَيرَ هؤلاء مِن مُسمَّى أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ!