الفَصْلُ الأوَّلُ: ظُهورُ عِلمِ الكَلامِ
عِلمُ الكَلامِ يُطلِقُه المُتَكلِّمونَ على عِلمِ العَقائِدِ الَّذي يَتَكلَّمونَ فيه بالحَقِّ والباطِلِ على غَيْرِ الطَّريقةِ المَعْروفةِ عنْدَ الصَّحابةِ رَضِيَ اللهُ عنهم والتَّابِعينَ لهم بإحْسانٍ، وهي الاعْتِصامُ بالقُرْآنِ الكَريمِ والسُّنَّةِ النَّبَويَّةِ؛ فأهْلُ الكَلامِ يَتَسَلَّطونَ على أدِلَّةِ القُرْآنِ بالتَّأويلِ، وعلى أدِلَّةِ السُّنَّةِ بالتَّأويلِ والرَّدِّ والتَّشْكيكِ، ويَخوضونَ مُتَكَلِّفينَ في مَسائِلَ أَمسَكَ السَّلَفُ الصَّالِحُ عن الكَلامِ فيها؛ ولِذلك اتَّفَقَ أئِمَّةُ الإسْلامِ مِن المُتَقَدِّمينَ والمُتَأخِّرينَ على ذَمِّ عِلمِ الكَلامِ، وذَمِّ أصْحابِه، وتَجْهيلِهم
[252] يُنظر: ((مجموع الفَتاوى)) (19/ 134)، ((بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكَلامِيَّة)) (1/ 438) و (2/ 499) كلاهما لابن تَيْمِيَّةَ. .
قالَ الإيجيُّ وهو مِن أَشهَرِ عُلَماءِ الكَلامِ: (الكَلامُ عِلمٌ يُقتَدَرُ معَه على إثْباتِ العَقائِدِ الدِّينيَّةِ بإيرادِ الحُجَجِ ودَفْعِ الشُّبْهةِ، والمُرادُ بالعَقائِدِ ما يُقصَدُ به نَفْسُ الاعْتِقادِ دونَ العَمَلِ، وبالدِّينيَّةِ المَنْسوبةُ إلى دينِ مُحَمَّدٍ؛ فإنَّ الخَصْمَ وإن خَطَّأْناه لا نُخرِجُه مِن عُلَماءِ الكَلامِ)
[253] ((المواقف)) (1/ 31). .
وقالَ
ابنُ خَلْدونَ: (هو عِلمٌ يَتَضَمَّنُ الحِجاجَ عن العَقائِدِ الإيمانيَّةِ بالأدِلَّةِ العَقْلِيَّةِ، والرَّدَّ على المُبْتَدِعةِ المُنْحَرِفينَ في الاعْتِقاداتِ عن مَذاهِبِ السَّلَفِ وأهْلِ السُّنَّةِ)
[254] ((تاريخ ابن خلدون)) (1/ 580). .
وقالَ الجُرْجانيُّ: (الكَلامُ: عِلمٌ يُبحَثُ فيه عن ذاتِ اللهِ تَعالى وصِفاتِه، وأحْوالِ المُمْكِناتِ مِن المَبدَأِ والمَعادِ على قانونِ الإسْلامِ، والقَيْدُ الأخيرُ لإخْراجِ العِلمِ الإلَهيِّ للفَلاسِفةِ)
[255] ((التعريفات)) (ص: 185). .
فعِلمُ الكَلامِ عنْدَ المُتَكلِّمينَ يُطلَقُ على كُلِّ عِلمٍ يُدافَعُ به عن العَقائِدِ الصَّحيحةِ أو الباطِلةِ، فعُلَماءُ الكَلامِ يُطلَقُ على المُخْتلِفينَ الَّذين يُضَلِّلُ بعضُهم بعضًا، كما قالَ الإيجيُّ: (الخَصْمُ ك
المُعْتَزِلةِ مَثَلًا وإن خَطَّأْناه في اعْتِقادِه، وما يَتَمَسَّكُ به في إثْباتِه لا نُخرِجُه مِن عُلَماءِ الكَلامِ، ولا يَخرَجُ عِلمُه الَّذي يَقتَدِرُ معَه على إثْباتِ عَقائِدِه الباطِلةِ مِن عِلمِ الكَلامِ)
[256] ((المواقف)) (1/ 34). .
وعن سَبَبِ تَسْميتِه عِلمَ الكَلامِ قالَ الإيجيُّ: (إنَّما سُمِّيَ كَلامًا إمَّا لأنَّه بإزاءِ المَنطِقِ للفَلاسِفةِ، أو لأنَّ أبْوابَه عُنْوِنَتْ أوَّلًا بالكَلامِ في كَذا، أو لأنَّ مَسْألةَ الكَلامِ أَشهَرُ أجْزائِه حتَّى كَثُرَ فيه التَّناحُرُ والسَّفْكُ فغَلَبَ عليه، أو لأنَّه يُورِثُ قُدْرةً على الكَلامِ في الشَّرْعيَّاتِ ومعَ الخَصْمِ)
[257] ((المواقف)) (1/ 45). .
وقدْ فُتِنَ كَثيرٌ مِن المُشْتَغِلينَ بعِلمِ الكَلامِ بِهذا العِلمِ، وظَنُّوه مِن أَهَمِّ وأَشرَفِ العُلومِ الشَّرْعيَّةِ، وأَوجَبوا تَعَلُّمَه على بَعْضِ النَّاسِ
[258] يُنظر: ((الإشارة في علم الكَلام)) للرازي (ص: 26 - 38). ، وألَّفوا فيه كَثيرًا مِن الكُتُبِ، ومِن تلك الكُتُبِ: (نِهايةُ الإقْدام في عِلمِ الكَلام) للشَّهْرَسْتانيِّ، و(أساسُ التَّقْديسِ في عِلمِ الكَلامِ) للرَّازِيِّ، و(غايةُ المَرام في عِلمِ الكَلام) للآمِدِيِّ، و(المَواقِفُ في عِلمِ الكَلامِ) للإيجيِّ، و(المَقاصِدُ في عِلمِ الكَلامِ) للتَّفْتازانيِّ، و(المُسايَرةُ في عِلمِ الكَلامِ) ل
ابنِ الهُمامِ، وغَيْرُها كَثيرٌ.
وقدْ تَكلَّمَ
أبو حامِدٍ الغَزاليُّ عن عِلمِ الكَلامِ في كِتابِه (إحْياء عُلومِ الدِّينِ)، وقَرَّرَ أنَّه عِلمٌ مُحدَثٌ، وذَمَّه بما فيه، إلَّا أنَّه أَوجَبَ تَعَلُّمَه على بعضِ النَّاسِ، وجَعَلَه مِن العُلومِ الشَّرْعيَّةِ لضَرورةِ رَدِّ شُبَهِ أهْلِ البِدَعِ به بقَدْرِ الحاجةِ، فقالَ: (حاصِلُ ما يَشْتَمِلُ عليه عِلمُ الكَلامِ مِن الأدِلَّةِ الَّتي يُنْتَفَعُ بِها فالقُرْآنُ والأخْبارُ مُشْتَمِلةٌ عليه، وما خَرَجَ عنهما فهو إمَّا مُجادَلةٌ مَذْمومةٌ، وهي مِن البِدَعِ، وأمَّا مُشاغَبةٌ بالتَّعَلُّقِ بمُناقِضاتِ الفِرَقِ لها، وتَطْويلٌ بنَقْلِ المَقالاتِ الَّتي أَكثَرُها تُرَّهاتٌ وهَذَياناتٌ تَزْدَريها الطِّباعُ، وتَمُجُّها الأسْماعُ، وبعضُها خَوْضٌ فيما لا يَتَعَلَّقُ بالدِّينِ، ولم يكُنْ شيءٌ مِنه مَألوفًا في العَصْرِ الأوَّلِ، وكانَ الخَوْضُ فيه بالكُلِّيَّةِ مِن البِدَعِ، ولكنْ تَغَيَّرَ الآنَ حُكْمُه إذ حَدَثَتِ
البِدْعةُ الصَّارِفةُ عن مُقْتَضى القُرْآنِ والسُّنَّةِ، فصارَ ذلك المَحْذورُ بحُكْمِ الضَّرورةِ مَأذونًا فيه، بل صارَ مِن فُروضِ الكِفاياتِ...، فإن قُلْتَ: تَعَلُّمُ الجَدَلِ والكَلامِ مَذْمومٌ كتَعَلُّمِ النُّجومِ، أو هو مُباحٌ أو مَنْدوبٌ إليه؟ فاعْلَمْ أنَّ لِلنَّاسِ في هذا غُلُوًّا وإسْرافًا في أطْرافٍ، فمِن قائِلٍ: إنَّه
بِدْعةٌ أو حَرامٌ، وإنَّ العَبْدَ إن لَقِيَ اللهَ عَزَّ وجَلَّ بكلِّ ذَنْبٍ سِوى الشِّرْكِ خَيْرٌ له مِن أن يَلْقاه بالكَلامِ، ومِن قائِلٍ: إنَّه واجِبٌ وفَرْضٌ إمَّا على الكِفايةِ أو على الأعْيانِ، وإنَّه أَفضَلُ الأعْمالِ وأَعْلى القُرُباتِ، فإنَّه تَحْقيقٌ لعِلمِ التَّوْحيدِ، ونِضالٌ عن دينِ اللهِ تَعالى، وإلى التَّحْريمِ ذَهَبَ
الشَّافِعيُّ، و
مالِكٌ، و
أَحْمَدُ بنُ حَنْبَلٍ، وسُفْيانُ، وجَميعُ أهْلِ الحَديثِ مِن السَّلَفِ. قالَ ابنُ عَبْدِ الأَعْلى رَحِمَه اللهُ: سَمِعْتُ
الشَّافِعيَّ رَضِيَ اللهُ عنه يَوْمَ ناظَرَ حَفْصًا الفَرْدَ وكانَ مِن مُتَكَلِّمي
المُعْتَزِلةِ، يَقولُ: لأنْ يَلْقى اللهَ عَزَّ وجَلَّ العَبْدُ بكلِّ ذَنْبٍ ما خلا الشِّرْكَ باللهِ خَيْرٌ مِن أن يَلْقاه بشيءٍ مِن عِلمِ الكَلامِ، ولقدْ سَمِعْتُ مِن حَفْصٍ كَلامًا لا أَقدِرُ أن أَحْكيَه! وقالَ أيضًا: قدِ اطَّلَعْتُ مِن أهْلِ الكَلامِ على شيءٍ ما ظَنَنْتُه قَطُّ، ولأنْ يُبْتَلى العَبْدُ بكلِّ ما نَهى اللهُ عنه ما عَدا الشِّرْكَ خَيْرٌ له مِن أن يَنظُرَ في الكَلامِ! قالَ الزَّعْفَرانيُّ: قالَ
الشَّافِعيُّ: حُكْمي في أصْحابِ الكَلامِ أن يُضْرَبوا بالجَريدِ، ويُطافَ بِهم في القَبائِلِ والعَشائِرِ، ويُقالَ: هذا جَزاءُ مَن تَرَكَ الكِتابَ والسُّنَّةَ، وأخَذَ في الكَلامِ...، والأَوْلى والأَبْعَدُ عن الالْتِباسِ أن نَقولَ: إنَّ في عِلمِ الكَلامِ مَنْفَعةً، وفيه مَضَرَّةً؛ فهو باعْتِبارِ مَنْفَعتِه في وَقْتِ الانْتِفاعِ حَلالٌ أو مَنْدوبٌ إليه أو واجِبٌ كما يَقْتَضيه الحالُ، وهو باعْتِبارِ مَضَرَّتِه في وَقْتِ الاسْتِضْرارِ ومَحَلِّه حَرامٌ؛ أمَّا مَضَرَّتُه فإثارةُ الشُّبُهاتِ، وتَحْريكُ العَقائِدِ وإزالتُها عن الجَزْمِ والتَّصْميمِ، فذلك ممَّا يَحصُلُ في الابْتِداءِ، ورُجوعُها بالدَّليلِ مَشْكوكٌ فيه، ويَخْتلِفُ فيه الأشْخاصُ، فهذا ضَرَرُه في الاعْتِقادِ الحَقِّ، وله ضَرَرٌ آخَرُ في تَأكيدِ اعْتِقادِ المُبْتَدِعةِ للبِدْعةِ...، وأمَّا مَنْفَعتُه فقدْ يُظَنُّ أنَّ فائِدتَه كَشْفُ الحَقائِقِ ومَعْرِفتُها على ما هي عليه، وهَيْهاتَ! فليس في الكَلامِ وَفاءٌ بِهذا المَطلَبِ الشَّريفِ، ولَعلَّ التَّخْبيطَ والتَّضْليلَ فيه أَكثَرُ مِن الكَشْفِ والتَّعْريفِ؛ فاسْمَعْ هذا ممَّن خَبَرَ الكَلامَ ثُمَّ قَلاه بَعْدَ حَقيقةِ الخِبْرةِ، وبَعْدَ التَّغَلْغُلِ فيه إلى مُنْتَهى دَرَجةِ المُتَكلِّمينَ، وجاوَزَ ذلك إلى التَّعَمُّقِ في عُلومٍ أُخَرَ تُناسِبُ نَوْعَ الكَلامِ، وتَحَقَّقَ أنَّ الطَّريقَ إلى حَقائِقِ المَعْرِفةِ مِن هذا الوَجْهِ مَسْدودٌ، ولَعَمْري لا يَنفَكُّ الكَلامُ عن كَشْفٍ وتَعْريفٍ وإيضاحٍ لبعضِ الأمورِ، ولكِنْ على النُّدورِ في أمورٍ جَليَّةٍ تَكادُ تُفهَمُ قَبْلَ التَّعَمُّقِ في صَنْعةِ الكَلامِ...، وإذا وَقَعَتِ الإحاطةُ بضَرَرِه ومَنْفَعتِه فيَنْبَغي أن يكونَ كالطَّبيبِ الحاذِقِ في اسْتِعْمالِ الدَّواءِ الخَطِرِ؛ إذ لا يَضَعُه إلَّا في مَوضِعِه، وذلك في وَقْتِ الحاجةِ، وعلى قَدْرِ الحاجةِ)
[259] ((إحياء علوم الدين)) (1/ 22، 94 - 97) باختِصارٍ وتَصَرُّفٍ يسير. ويُنظر: ((تاريخ ابن خلدون)) (1/ 589 - 591). .
وقال
الغزاليُّ أيضًا: (ليس الطَّريقُ في تقويتِه وإثباتِه أي: الاعتقادِ أن يعلَمَ صنعةَ الجَدَلِ والكَلامِ، بل يشتَغِلُ بتلاوةِ القُرآنِ وتفسيرِه، وقراءةِ الحديثِ ومعانيه، ويشتَغِلُ بوظائفِ العباداتِ، فلا يزالُ اعتقادُه يزدادُ رُسوخًا بما يقرَعُ سمعَه من أدلَّةِ القرآنِ وحُجَجِه، وبما يَرِدُ عليه من شواهِدِ الأحاديثِ وفوائِدِها، وبما يسطَعُ عليه من أنوارِ العباداتِ ووظائفِها، وبما يسري إليه من مُشاهَدةِ الصَّالحينَ ومُجالسَتِهم وسيماهم، ... وينبغي أن يحرُسَ سمعَه من الجَدَلِ والكلامِ غايةَ الحراسةِ؛ فإنَّ ما يُشَوِّشُه الجدَلُ أكثَرُ ممَّا يُمهِّدُه، وما يُفسِدُه أكثَرُ ممَّا يُصلِحُه، بل تقويتُه بالجَدلِ تُضاهي ضَربَ الشَّجَرةِ بالمدَقَّةِ من الحديدِ رجاءَ تقويتِها بأن تكثُرَ أجزاؤُها، ورُبَّما يُفتِّتُها ذلك ويُفسِدُها، وهو الأغلَبُ، والمُشاهَدةُ تكفيك في هذا بيانًا، فناهيك بالعِيانِ بُرهانًا، فقِسْ عقيدةَ أهلِ الصَّلاحِ والتُّقى من عوامِّ النَّاسِ بعقيدةِ المُتكَلِّمينَ والمجادِلينَ، فترى اعتقادَ العامِّيِّ في الثَّباتِ كالطَّودِ الشَّامِخِ لا تحرِّكُه الدَّواهي والصَّواعِقُ، وعقيدةَ المُتكَلِّمِ الحارِسِ اعتقادَه بتقسيماتِ الجَدَلِ كخَيطٍ مُرسَلٍ في الهواءِ، تُفيئُه الرِّياحُ مرَّةً هكذا، ومرَّةً هكذا!)
[260] ((قواعد العقائد)) (ص: 76 - 78). .
فهذا كَلامُ
الغَزاليِّ الَّذي تَعَمَّقَ في عِلمِ الكَلامِ، وبَيَّنَ عن تَجْرِبةٍ ومَعْرِفةٍ أنَّ عِلمَ الكَلامِ كَثيرُ الضَّرَرِ، قَليلُ الفائِدةِ، ثُمَّ إنَّه في آخِرِ أمْرِه رَجَعَ عن عِلمِ الكَلامِ.
قالَ
ابنُ تَيْمِيَّةَ: (تَجِدُ عامَّةَ هؤلاء الخارِجينَ عن مِنْهاجِ السَّلَفِ مِن المَتَكلِّمةِ والمُتَصوِّفةِ يَعتَرِفُ بِذلك إمَّا عنْدَ المَوْتِ وإمَّا قَبْلَ المَوْتِ، والحِكاياتُ في هذا كَثيرةٌ مَعْروفةٌ؛ هذا
أبو الحَسَنِ الأشْعَريُّ نَشَأَ في الاعْتِزالِ أرْبَعينَ عامًا يُناظِرُ عليه ثُمَّ رَجَعَ عن ذلك، وصَرَّحَ بتَضْليلِ
المُعْتَزِلةِ، وبالَغَ في الرَّدِّ عليهم، وهذا
أبو حامِدٍ الغَزاليُّ معَ فَرْطِ ذَكائِه وتَألُّهِه، ومَعْرفتِه بالكَلامِ والفَلْسَفةِ، وسُلوكِه طَريقَ الزُّهْدِ والرِّياضةِ والتَّصوُّفِ رَجَعَ إلى طَريقةِ أهْلِ الحَديثِ، وصَنَّفَ (إلْجام العَوام عن عِلمِ الكَلام)، وهذا
الرَّازِيُّ في كِتابِه الَّذي صَنَّفَه في (أقْسام اللَّذَّاتِ) قالَ: لقد تَأمَّلْتُ الطُّرُقَ الكَلامِيَّةَ، والمَناهِجَ الفَلْسَفيَّةَ، فما رَأيْتُها تَشْفي عَليلًا، ولا تَرْوي غَليلًا، ورَأيْتُ أَقرَبَ الطُّرُقِ طَريقةَ القُرْآنِ، أَقرَأُ في الإثْباتِ:
الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه: 5] ،
إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ [فاطر: 10] ، وأَقرَأُ في النَّفْيِ:
لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى: 11] ،
وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا [طه: 110] ،
هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا [مريم: 65] ، ثُمَّ قالَ: ومَن جَرَّبَ مِثلَ تَجْرِبتي عَرَفَ مِثلَ مَعْرِفتي، وكانَ يَتَمَثَّلُ كَثيرًا:
نِــهــايــةُ إقْــدامِ العُقولِ عِقالُ
وأَكثَـرُ سَعْيِ العالَمينَ ضَلالُ
وأرْواحُنا في وَحْشةٍ مِن جُسومِنا
وحاصِلُ دُنْيانا أذًى ووَبالُ
ولم نَسْتَفِدْ مِن بَحْثِنا طولَ عُمرِنا
سِوى أن جَمَعْنا فيه قيلَ وقالوا
وهذا إمامُ الحَرَمَينِ تَرَكَ ما كانَ يَنْتَحِلُه ويُقَرِّرُه، واخْتارَ مَذهَبَ السَّلَفِ، وكانَ يَقولُ: يا أصْحابَنا لا تَشْتَغِلوا بالكَلامِ؛ فلو أنِّي عَرَفْتُ أنَّ الكَلامَ يَبلُغُ بي إلى ما بَلَغَ ما اشْتَغَلْتُ به!
وكذلك الشَّهْرَسْتانيُّ، وكانَ يُنشِدُ:
لَعَمْري لقد طُفْتُ المَعاهِدَ كلَّها
وسَيَّرْتُ طَرْفي بَيْنَ تلك المَعالِمِ
فلم أرَ إلَّا واضِعًا كَفَّ حائِرٍ
على ذَقَنٍ أو قـارِعًا سِنَّ نادِمِ)
[261] ((مجموع الفَتاوى)) (4/ 72). .
وقال
ابنُ القيِّمِ تعليقًا على كلامِ
الغزاليِّ السَّابقِ: (فهذا كلامُ أبي حامدٍ مع معرفتِه بالكلامِ والفَلسَفةِ وتعمُّقِه في ذلك يذكُرُ اتِّفاقَ سَلَفِ أهلِ السُّنَّةِ على ذَمِّ الكلامِ، ويذكُرُ أنَّه ليس فيه فائدةٌ إلَّا الذَّبُّ عن هذه العقائِدِ الشَّرعيَّةِ التي أخبر بها الرَّسولُ أمَّتَه... وأمَّا السَّلَفُ فلم يكُنْ ذَمُّهم للكلامِ لمجرَّدِ ذلك أي: لمجرَّدِ إثارتِه الشُّكوكَ، ولا لمجرَّدِ اشتمالِه على ألفاظٍ اصطِلاحيَّةٍ إذا كانت معانيها صحيحةً، ولا حرَّموا معرفةَ الدَّليلِ على الخالِقِ وصفاتِه وأفعالِه، بل كانوا أعلَمَ النَّاسِ بذلك، ولا حرَّموا نظرًا صحيحًا في دليلٍ صحيحٍ يُفضي إلى عِلمٍ نافعٍ، ولا مُناظَرةً في ذلك؛ إمَّا لهدى مُسترشِدٍ، وإمَّا لقَطعِ مُبطِلٍ، بل هم أكمَلُ النَّاسِ نظَرًا واستدلالًا واعتبارًا، وهم نظروا في أصحِّ الأدلَّةِ وأقوَمِها؛ فإنَّ القومَ كان نظَرُهم في خيرِ الكلامِ وأفضَلِه وأصدَقِه، وأدَلِّه على الحَقِّ، وأوصَلِه إلى المقصودِ بأقرَبِ الطُّرُقِ، وهو كلامُ اللهِ، وكانوا ينظُرونَ في آياتِ اللهِ تعالى الأفقِيَّةَ والنَّفسيَّةَ، فيرونَ منها من الأدِلَّةِ ما يُبيِّنُ أنَّ القرآنَ حقٌّ، فيتطابقُ عندهم السَّمعُ والعَقلُ، ويتصادَقُ الوَحيُ والفِطرةُ، كما قال تعالى:
سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ [فصلت: 53] ، وقال:
وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ [سبأ: 6] ، والإنسانُ له حالتانِ: إمَّا أن يكونَ ناظِرًا، وإمَّا أن يكونَ مُناظِرًا.
والنَّاظِرُ له حالتانِ؛ إحداهما: يُحمَدُ فيها، والثَّانيةُ: يُذَمُّ فيها. والمناظِرُ له حالتانِ أيضًا؛ قال تعالى:
قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ [سبأ: 46] فأشار بقيامِهم اثنينِ اثنينِ إلى المناظَرةِ، وفُرادى إلى النَّظَرِ والتفَكُّرِ. وكلٌّ منهما ينقَسِمُ إلى محمودٍ ومذمومٍ؛ فالنَّظَرُ المحمودُ النَّظَرُ في الطَّريقِ الصَّحيحِ ليتوصَّلَ به إلى معرفةِ الحقِّ.
والنَّظَرُ المذمومُ نوعانِ:أحَدُهما: النَّظَرُ في الطَّريقِ الباطِلِ وإن قَصَد به التوصُّلَ إلى الحقِّ؛ فإنَّ الطَّريقَ الباطِلَ لا يُفضي إلى الحَقِّ.
والثَّاني: النَّظَرُ والفِكرُ الذي يقصِدُ به ردَّ قَولِ خَصمِه مُطلَقًا حَقًّا كان أو باطِلًا، فهو ينظُرُ نظرًا يَرُدُّ به قَولَ من يبغِضُه ويُعاديه بأيِّ وجهٍ كان)
[262] ((الصواعق المرسلة في الرد على الجهمية والمعطلة)) (4/ 1272 - 1275). .
وقدْ ثَبَتَ مِن حَديثِ
أُمِّ المُؤمِنينَ عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها قالَتْ: قالَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((إنَّ أَبغَضَ الرِّجالِ إلى اللهِ الأَلَدُّ الخَصِمُ )) [263] أخرجه البخاري (2457) ومُسلِم (2668). .
قالَ أبو العبَّاسِ القُرْطُبيُّ في شَرْحِ هذا الحَديثِ: (هذا المَبْغوضُ عنْدَ اللهِ تَعالى هو الَّذي يَقصِدُ بخُصومتِه: مُدافَعةَ الحَقِّ، ورَدَّه بالأَوْجُهِ الفاسِدةِ والشُّبَهِ الموهِمةِ، وأَشَدُّ ذلك الخُصومةُ في أُصولِ الدِّينِ، كخُصومةِ أَكثَرِ المُتَكلِّمينَ المُعْرضينَ عن الطُّرُقِ الَّتي أَرشَدَ إليها كِتابُ اللهِ، وسُنَّةُ نَبيِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وسَلَفُ أُمَّتِه، إلى طُرُقٍ مُبْتَدَعةٍ، واصْطِلاحاتٍ مُخْتَرَعةٍ، وقَوانينَ جَدَليَّةٍ، وأمورٍ صِناعيَّةٍ، مَدارُ أَكثَرِها على مَباحِثَ سوفِسْطائيَّةٍ، أو مُناقَشاتٍ لَفْظيَّةٍ تَرِدُ بشُبَهِها على الآخِذِ فيها شُبَهٌ رَبَّما يَعجِزُ عنها، وشُكوكٌ يَذهَبُ الإيمانُ معَها، وأَحسَنُهم انْفِصالًا عنها أَجدَلُهم لا أَعلَمُهم، فكم مِن عالِمٍ بفَسادِ الشُّبْهةِ لا يَقْوى على حَلِّها! وكم مِن مُنفَصِلٍ عنها لا يُدرِكُ حَقيقةَ عِلمِها! ثُمَّ إنَّ هؤلاء المُتَكلِّمينَ قد ارْتَكَبوا أنْواعًا مِن المُحالِ لا يَرْتَضيها البُلْهُ ولا الأطْفالُ، لمَّا بَحَثوا عن تَحَيُّزِ الجَواهِرِ، والأكْوانِ، والأحْوالِ، ثُمَّ إنَّهم أخَذوا يَبحَثونَ فيما أَمسَكَ عن البَحْثِ فيه السَّلَفُ الصَّالِحُ، ولم يوجَدْ عنهم فيه بَحْثٌ واضِحٌ، وهو كَيْفيَّةُ تَعلُّقاتِ صِفاتِ اللهِ تَعالى، وتَقْديرُها، واتِّخاذُها في أنْفُسِها، وأنَّها هي الذَّاتُ أو غَيْرُها، وأنَّ الكَلامَ هل هو مُتَّحِدٌ أو مُنْقَسِمٌ، وإذا كانَ مُنْقَسِمًا فهل يَنْقَسِمُ بالأنْواعِ أو بالأوْصافِ، وكيف تَعلَّقَ في الأزَلِ بالمَأمورِ، ثُمَّ إذا انْعَدَمَ المَأمورُ فهل يَبْقى ذلك التَّعلُّقُ، وهلِ الأمْرُ لزَيدٍ بالصَّلاةِ مَثَلًا هو عَيْنُ الأمْرِ لعَمْرٍو بالزَّكاةِ.. إلى غَيْرِ ذلك مِن الأبْحاثِ المُبْتَدَعةِ الَّتي لم يَأمُرِ الشَّرْعُ بالبَحْثِ عنها، وسَكَتَ أصْحابُ النَّبِيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ومَن سَلَكَ سَبيلَهم عن الخَوْضِ فيها؛ لِعِلمِهم بأنَّها بَحْثٌ عن كَيْفيَّةِ ما لا تُعلَمُ كَيْفيَّتُه؛ فإنَّ العُقولَ لها حَدٌّ تَقِفُ عنْدَه، وهو العَجْزُ عن
التَّكْييفِ لا يَتَعدَّاه، فَرْقٌ بَيْنَ البَحْثِ في كَيْفيَّةِ الذَّاتِ وكَيْفيَّةِ الصِّفاتِ؛ ولِذلك قالَ العَليمُ الخَبيرُ:
لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى: 11] ، ولا تُبادِرْ بالإنْكارِ فِعْلَ الأغْبِياءِ الأغْمارِ؛ فإنَّك قد حُجِبْتَ عن كَيْفيَّةِ حَقيقةِ نَفْسِك معَ عِلمِك بوُجودِها، وعن كَيْفيَّةِ إدْراكاتِك معَ أنَّك تُدرِكُ بِها! وإذا عَجَزْتَ عن إدْراكِ كَيْفيَّةِ ما بَيْنَ جَنْبَيك، فأنت عن إدْراكِ ما ليس كذلك أَعجَزُ! وغايةُ عِلمِ العُلَماءِ وإدْراكِ عُقولِ الفُضَلاءِ أن يَقْطَعوا بوُجودِ فاعِلِ هذه المَصْنوعاتِ، مُنَزَّهٍ عن صِفاتِها، مُقدَّسٍ عن أحْوالِها، مَوْصوفٍ بصِفاتِ الكَمالِ اللَّائِقِ به، ثُمَّ مَهْما أَخبَرَنا الصَّادِقونَ عنه بشَيءٍ مِن أوْصافِه وأسْمائِه قَبِلْناه واعْتَقَدْناه، وما لم يَتَعَرَّضوا له سَكَتْنا عنه، وتَرَكْنا الخَوْضَ فيه، هذه طَريقةُ السَّلَف، وما سِواها مَهاوٍ وتَلَف، ويَكْفي في الرَّدْعِ عن الخَوْضِ في طُرُقِ المُتَكلِّمينَ ما قد وَرَدَ في ذلك عن الأئِمَّةِ المُتَقَدِّمينَ؛ فمِن ذلك قَوْلُ
عُمَرَ بنِ عَبْدِ العَزيزِ: مَن جَعَلَ دينَه غَرَضًا للخُصوماتِ أَكثَرَ الشُّغْلَ، والدِّينُ قد فُرِغَ مِنه، ليس بأمْرٍ يُؤتَكَفُ على النَّظَرِ فيه. وقالَ
مالِكٌ: ليس هذا الجِدالُ مِن الدِّينِ في شيءٍ، وقالَ: كانَ يُقالُ: لا تُمَكِّنْ زائِغَ القَلْبِ مِن أُذُنِك؛ فإنَّك لا تَدْري ما يَعلَقُك مِن ذلك، وقالَ
الشَّافِعيُّ: لأنْ يُبْتَلى العَبْدُ بكلِّ ما نَهى اللهُ عنه ما عَدا الشِّرْكَ خَيْرٌ له مِن أن يَنظُرَ في عِلمِ الكَلامِ، وإذا سَمِعْتَ مَن يَقولُ: الاسمُ هو المُسَمَّى، أو غَيْرُ المُسَمَّى، فاشْهَدْ أنَّه مِن أهْلِ الكَلامِ ولا دينَ له، قالَ: وحُكْمي في أهْلِ الكَلامِ أن يُضرَبوا بالجَريدِ، ويُطافَ بِهم في العَشائِرِ والقَبائِلِ، ويُقالَ: هذا جَزاءُ مَن تَرَكَ الكِتابَ والسُّنَّةَ وأخَذَ في الكَلامِ. وقالَ
الإمامُ أَحْمَدُ بنُ حَنْبَلٍ: لا يُفلِحُ صاحِبُ الكَلامِ أبَدًا، عُلَماءُ الكَلامِ زَنادِقةٌ. وقالَ
ابنُ عَقيلٍ: قالَ بعضُ أصْحابِنا: أنا أَقطَعُ أنَّ الصَّحابةَ رَضِيَ الله عنهم ماتوا وما عَرَفوا الجَوْهَرَ والعَرَضَ، فإن رَضِيتَ أن تكونَ مِثلَهم فكُنْ، وإن رَأيْتَ أنَّ طَريقةَ المُتَكلِّمينَ أَوْلى مِن طَريقةِ
أبي بَكْرٍ وعُمَرَ، فبِئْسَ ما رَأيْتَه! قالَ: وقدْ أَفْضى هذا الكَلامُ بأهْلِه إلى الشُّكوكِ، وبكَثيرٍ مِنهم إلى الإلْحادِ، وأصْلُ ذلك: أنَّهم ما قَنِعوا بما بُعِثَتْ به الشَّرائِعُ، وطَلَبوا الحَقائِقَ، وليس في قُوَّةِ العَقْلِ إدْراكُ ما عنْدَ اللهِ مِن الحِكَمِ الَّتي انْفَرَدَ بِها...، وقدْ رَجَعَ كَثيرٌ مِن أئِمَّةِ المُتَكلِّمينَ عن الكَلامِ بَعْدَ انْقِضاءِ أعْمارٍ مَديدةٍ، وآمادٍ بَعيدةٍ، لمَّا لَطَفَ اللهُ تَعالى بِهم، وأَظهَرَ لهم آياتِه، وباطِنَ بُرْهانِه؛ فمِنهم: إمامُ المُتَكلِّمينَ
أبو المَعالي، فقدْ حَكى عنه الثِّقاتُ أنَّه قالَ: لقد خَلَّيْتُ أهْلَ الإسْلامِ وعُلومَهم، ورَكِبْتُ البَحْرَ الأَعظَمَ، وغُصْتُ في الَّذي نُهوا عنه، كلُّ ذلك رَغْبةً في طَلَبِ الحَقَّ، وهَرَبًا مِن التَّقْليدِ، والآنَ فقدْ رَجَعْتُ عن الكلِّ إلى كَلِمةِ الحَقِّ، عليكم بدينِ العَجائِزِ، وأَختِمُ عاقِبةَ أمْري عنْدَ الرَّحيلِ بكَلِمةِ الإخْلاصِ، والوَيْلُ ل
ابنِ الجُوَيْنيِّ! وكانَ يَقولُ لأصْحابِه: يا أصْحابَنا لا تَشْتَغِلوا بالكَلامِ، فلو عَرَفْتُ أنَّ الكَلامَ يَبلُغُ بي ما بَلَغَ ما تَشاغَلْتُ به. وقالَ أَحْمَدُ بنُ سِنانٍ: كانَ الوَليدُ بنُ أَبَانَ الكَرابيسيُّ خالي، فلمَّا حَضَرْتُه الوَفاةُ قالَ لبَنيه: تَعلَمونَ أحَدًا أَعلَمَ مِنِّي؟ قالوا: لا، قالَ: فتَتَّهِموني؟ قالوا: لا، قالَ: فإنِّي أوصيكم، أفَتَقْبَلونَ؟ قالوا: نَعمْ، قالَ: عليكم بما عليه أصْحابُ الحَديثِ؛ فإنِّي رَأيْتُ الحَقَّ معَهم. وقالَ
أبو الوفا بنُ عَقيلٍ: لقد بالَغْتُ في الأُصولِ طولَ عُمُري، ثُمَّ عُدْتَ القَهْقَرى إلى مَذهَبِ المَكتَبِ. قُلْتُ: وهذا الشَّهْرَسْتانيُّ صاحِبُ نِهايةِ الإقْدامِ في عِلمِ الكَلامِ وَصَفَ حالَه فيما وَصَلَ إليه مِن الكَلامِ وما نالَه، فتَمَثَّلَ بما قالَه:
لَعَمْري لقد طُفْتُ المَعاهِدَ كلَّها
وصَيَّرْتُ طَرْفي بَيْنَ تلك المَعالِمِ
فـلم أرَ إلَّا واضِـعًا كَـفَّ حائِرٍ
على ذَقَـنٍ أو قـارِعًا سِنَّ نادِمِ
ثُمَّ قالَ: عليكم بدينِ العَجائِز؛ فإنَّه أَسْنى الجَوائِز. قُلْتُ: ولو لم يكُنْ في الكَلامِ شيءٌ يُذَمُّ به إلَّا مَسْألتانِ هما مِن مَبادِئِه لكانَ حَقيقًا بالذَّمِّ، وجَديرًا بالتَّرْكِ:
إحْداهما: قَوْلُ طائِفةٍ مِنهم: إنَّ أوَّلَ الواجِباتِ الشَّكُّ في اللهِ تَعالى!
والثَّانيةُ: قَوْلُ جَماعةٍ مِنهم: إنَّ مَن لم يَعرِفِ اللهَ تَعالى بالطُّرُقِ الَّتي طَرَقوها، والأبْحاثِ الَّتي حَرَّروها، فلا يَصِحُّ إيمانُه، وهو كافِرٌ! فيَلزَمُهم على هذا تَكفيرُ أَكثَرِ المُسلِمينَ مِن السَّلَفِ الماضينَ، وأئِمَّةِ المُسلِمينَ، وأنَّ مَن يَبدَأُ بتَكْفيرِه أباه وأسْلافَه وجيرانَه، وقدْ أُورِدَ على بعضِهم هذا، فقالَ: لا يُشنَّعُ علَيَّ بكَثْرةِ أهْلِ النَّارِ! أو كما قالَ، ثُمَّ إنَّ مَن لم يَقُلْ بهاتَينِ المَسْألتَينِ مِن المُتَكلِّمينَ رَدُّوا على مَن قالَ بهما بطُرُقِ النَّظَرِ والاسْتِدْلالِ بِناءً مِنهم على أنَّ هاتَينِ المَسْألتَينِ نَظَريَّتانِ، وهذا خَطَأٌ فاحِشٌ، فالكُلُّ يُخَطِّئونَ الطَّائِفةَ الأُولى بأصْلِ القَوْلِ بالمَسْألتَينِ، والثَّانيةَ بتَسْليمِ أنَّ فَسادَها ليس بضَروريٍّ، ومَن شَكَّ في تَكْفيرِ مَن قال: إنَّ الشَّكَّ في اللهِ تَعالى واجِبٌ، وأنَّ مُعظَمَ الصَّحابةِ والمُسلِمينَ كُفَّارٌ، فهو كافِرٌ شَرْعًا، أو مُخْتَلُّ العَقْلِ وَضْعًا؛ إذ كلُّ واحِدةٍ مِنهما مَعْلومةُ الفَسادِ بالضَّرورةِ الشَّرْعيَّةِ الحاصِلةِ بالأخْبارِ المُتَواتِرةِ القَطْعيَّةِ، وإن لم يكُنْ كذلك فلا ضَروريَّ يُصارُ إليه في الشَّرْعيَّاتِ ولا العَقْليَّاتِ، عَصَمَنا اللهُ مِن بِدَعِ المُبْتَدِعينَ، وسَلَكَ بِنا طُرُقَ السَّلَفِ الماضينَ، وإنَّما طَوَّلْتُ في هذه المَسْألةِ الأنْفاسَ؛ لِما قد شاعَ مِن هذه البِدَعِ في النَّاس، ولأنَّه قد اغْتَرَّ كَثيرٌ مِن الجُهَّالِ بزُخْرُفِ تلك الأقْوالِ، وقدْ بَذَلْتُ ما وَجَبَ علَيَّ مِن النَّصيحة، واللهُ تَعالى يَتَوَلَّى إصْلاحَ القُلوبِ الجَريحة)
[264] ((المفهم لما أشكل من تلخيص كِتاب مُسلِم)) (6/ 690 - 694). .
وأوَّلُ ما نَشَأَتْ بِدْعةُ الكَلامِ في مَسْألةِ القَدَرِ، فكانَ القَدَريَّةُ يَخوضونَ بعُقولِهم في مَسْألةِ القَدَرِ، وقدْ رَدَّ عليهم بعضُ الصَّحابةِ، ك
عَبْدِ اللهِ بنِ عُمَرَ، رَضِيَ اللهُ عنهم
[265] أخرج مُسلِم (8) عن يحيى بنِ يَعْمَرَ قال: كان أوَّلَ مَن قال في القَدَرِ بالبَصْرةِ مَعْبَدٌ الجُهَنيُّ، فانطلَقْتُ أنا وحُمَيدُ بنُ عَبدِ الرَّحمنِ الحِمْيَريُّ حاجَّينِ أو مُعتَمِرَينِ، فقُلْنا: لو لَقِينا أحَدًا من أصْحابِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فسأَلْناه عمَّا يقولُ هؤلاءِ في القَدَرِ، فوُفِّقَ لنا عَبْدُ اللهِ بنُ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ داخِلًا المسجِدَ، فاكتنَفْتُه أنا وصاحِبي أحَدُنا عن يمينِه، والآخَرُ عن شِمالِه، فقُلْتُ: أبا عَبدِ الرَّحمنِ إنَّه قد ظَهَر قِبَلَنا ناسٌ يَقْرَؤون القُرْآنَ، ويتقفَّرونَ العِلمَ، وأنَّهم يَزْعُمون أنْ لا قَدَرَ، وأنَّ الأَمْرَ أُنُفٌ! قال: (فإذا لَقِيتَ أولئك فأخبِرْهم أنِّي بَريءٌ منهم، وأنَّهم برآءُ مِنِّي، والَّذي يَحلِفُ به عَبْدُ اللهِ بنُ عُمَرَ لو أنَّ لأحَدِهم مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا فأنفَقَه، ما قَبِلَ اللهُ منه حتى يؤمِنَ بالقَدَرِ)، ثُمَّ روى عن أبيه عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ حَديثَ جِبْريلَ الطَّويلَ، وفيه: ((الإيمانُ أن تُؤمِنَ باللهِ وملائِكَتِه وكُتُبِه ورُسُلِه واليَوْمِ الآخِرِ، وتُؤمِنَ بالقَدَرِ خَيْرِه وشَرِّه)). .
قالَ الشَّهْرَسْتانيُّ: (وأمَّا الاخْتِلافاتُ في الأُصولِ فحَدَثَتْ في آخِرِ أيَّامِ الصَّحابةِ بِدْعةُ مَعبَدَ الجُهَنيِّ، وغَيْلانَ الدِّمَشْقيِّ، ويونُسَ الأسْواريِّ في القَوْلِ بالقَدَرِ، وإنكارِ إضافةِ الخَيْرِ والشَّرِّ إلى القَدَرِ، ونَسَجَ على مِنْوالِهم
واصلُ بنُ عَطاءٍ الغَزَّالُ، وكانَ تِلْميذَ
الحَسَنِ البَصْريِّ، وتَلْمَذَ له
عَمْرُو بنُ عُبَيْدٍ، وزادَ عليه في مَسائِلِ القَدَرِ...، والوَعيديَّةُ مِن
الخَوارِجِ، و
المُرْجِئةُ مِن الجَبْريَّةِ. والقَدَريَّةُ ابْتَدؤوا بِدْعتَهم في زَمانِ الحَسَنِ، واعْتَزَلَ
واصِلٌ عنهم وعن أسْتاذِه القَوْلَ مِنه بالمَنزِلةِ بَيْنَ المَنزِلتَينِ، فسُمِّيَ هو وأصْحابُه مُعْتَزِلةً، وقدْ تَلْمَذَ له زَيدُ بنُ علِيٍّ، وأخَذَ الأُصولَ؛ فلِذلك صارَتِ الزَّيْديَّةُ كلُّهم مُعْتَزِلةً، ومَن رَفَضَ زَيدَ بنَ علِيٍّ؛ لأنَّه خالَفَ مَذهَبَ آبائِه في الأُصولِ، وفي التَّبَرِّي والتَّوَلِّي، وهُمْ مِن أهْلِ الكوفةِ، وكانوا جَماعةً، سُمُّوا رافِضةً، ثُمَّ طالَعَ بَعْدَ ذلك شُيوخُ
المُعْتَزِلةِ كُتُبَ الفَلاسِفةِ حيثُ نُشِرَتْ أيَّامَ
المَأمونِ، فخَلَطَتْ مَناهِجَها بمَناهِجِ الكَلامِ، وأفْرَدَتْها فَنًّا مِن فُنونِ العِلمِ، وسَمَّتْها باسمِ الكَلامِ، إمَّا لأنَّ أَظهَرَ مَسْألةٍ تَكَلَّموا فيها وتَقاتَلوا عليها هي مَسْألةُ الكَلامِ، فسُمِّيَ النَّوْعُ باسْمِها، وإمَّا لمُقابَلتِهم الفَلاسِفةَ في تَسْميتِهم فَنًّا مِن فُنونِ عِلمِهم بالمَنطِقِ، والمَنطِقُ والكَلامُ مُترادِفانِ)
[266] ((الملل والنحل)) (1/ 28). .
وكانَ ظُهورُ الشِّيعةِ و
الخَوارِجِ في عَصْرِ الصَّحابةِ في خِلافةِ علِيٍّ رَضِيَ اللهُ عنه، ثُمَّ ظَهَرَتْ بِدْعةُ
المُرْجِئةِ في مُقابِلِ بِدْعةِ
الخَوارِجِ، وكَثُرَ الكَلامُ بالآراءِ والأهْواءِ في تَأييدِ هذه البِدَعِ، وظَهَرَ الكَلامُ في مَسْألةِ إخْراجِ العَمَلِ عن مُسَمَّى الإيمانِ، وحينَ ظَهَرَتِ القَدَريَّةُ قابَلَها بَعْدَ ذلك الجَبْريَّةُ، ووافَقَتِ
المُعْتَزِلةُ الخَوارِجَ في القَوْلِ بتَخْليدِ أصْحابِ الكَبائِرِ في النَّارِ، إلَّا أنَّهم ابْتَدَعوا القَوْلَ بالمَنزِلةِ بَيْنَ المَنْزِلتَينِ، فلا يُسَمُّونَ صاحِبَ الكَبيرةِ مُؤمِنًا ولا كافِرًا، وإنما يَقولونَ: هو في مَنزِلةٍ بَيْنَ المَنزِلتَينِ، ثُمَّ في أواخِرِ عَصْرِ التَّابِعينَ ظَهَرَ القَوْلُ بخَلْقِ القُرْآنِ ونَفْيِ الصِّفاتِ على يَدِ الجَعْدِ بنِ دِرْهَمٍ (ت نحو 118هـ)، وهو شَيْخُ
الجَهْمِ بنِ صَفْوانَ السَّمْرقَندِيِّ (ت نحو 128هـ)، الَّذي تُنسَبُ إليه
الجَهْميَّةُ، وحينَ تُرجِمَت كتُبُ الفلسفةِ من اللُّغةِ اليونانيَّةِ إلى اللُّغةِ العربيَّةِ تأثَّر أهلُ البِدَعِ بالفَلسفةِ اليونانيَّةِ، وانتشَرَت مقالةُ
الجَهميَّةِ، وظهر
بِشرُ بنُ غِياثٍ المِرِّيسيُّ البغداديُّ (ت 218هـ) الذي نصر مذهَبَ
الجَهميَّةِ، ومن أشهَرِ الآخذينَ عنه:
القاضي أحمدُ بنُ أبي دُؤادَ (ت 240هـ)، ثُمَّ ظَهَرَ عَبْدُ اللهِ بنُ سَعيدِ بنِ كُلَّابٍ (ت 243هـ)، فرَدَّ على
الجَهْميَّةِ في قَوْلِهم بخَلْقِ القُرْآنِ، وابْتَدَعَ القَوْلَ بأنَّ كَلامَ اللهِ قائِمٌ بذاتِ اللهِ بلا مَشيئةٍ، ثمَّ ظهر في البصرةِ
أبو عليٍّ الجُبَّائيُّ الحنَفيُّ (ت 303هـ) إمامُ
المُعتَزِلةِ، وشَيخُ
أبي الحسَنِ الأشعَريِّ، وحينَ تبيَّنَ ل
أبي الحسَنِ الأشعَريِّ (ت 324هـ) بُطلانُ عقيدةِ
المُعتَزِلةِ تاب منها، وردَّ على
المُعتَزِلةِ، وقال بمقالةِ ابنِ كُلَّابٍ في الكلامِ النَّفسيِّ، وانتَسَب إلى السُّنَّةِ، ووافق مذهَبَ السَّلَفِ في غالِبِ مسائِلِ الاعتقادِ، واشتَهَر أمرُه أوَّلًا في البصرةِ وبغدادَ، ثمَّ أشهَرَ مذهَبَه تلاميذُه وتلاميذُهم، وانتَسَب إليه
الأشاعِرةُ من الشَّافعيَّةِ والمالكيَّةِ، وظهَرَ في سَمَرقَنْدَ
أبو منصورٍ الماتُريديُّ الحَنفيُّ (ت 333هـ)، وانتَسَب إليه
الماتُريديَّةُ من الحَنَفيَّةِ، وكَثُرَ الكَلامُ في مَسائِلِ العَقيدةِ بالحَقِّ والباطِلِ، وكَثُرَ الجِدالُ والخِصامُ في مَسائِلِ الاعْتِقادِ، وتَكلَّفَ المُتَكلِّمونَ الخَوْضَ فيما لم يَتكلَّمْ فيه السَّلَفُ الصَّالِحُ، بل صَرَّحَ كَثيرٌ مِن المُتَكلِّمينَ بأنَّ طَريقتَهم أَعلَمُ وأَحكَمُ مِن طَريقةِ السَّلَفِ، وأدخل بَعضُ المُصنِّفينَ بِدَعَ أهلِ الكلامِ فيما صنَّفوه في التَّفسيرِ وعُلومِ القُرآنِ وعُلومِ الحديثِ وشُروحِه. واللهُ المُسْتعانُ
[267] يُنظر: ((الفرق بين الفرق)) للبغدادي (ص: 14 - 17)، ((الكامل في التاريخ)) لابن الأثير (4/ 283) و (5/ 21) و (6/ 149)، ((درء تعارض العَقْل والنقل)) (5/ 244، 378)، ((مجموع الفتاوى)) (5/ 20 - 23) كلاهما لابن تَيْمِيَّةَ، ((تاريخ الإسلام)) للذهبي (5/ 981)، ((شفاء العليل في مَسائِل القضاء والقدر والحكمة والتعليل)) لابن القيم (ص: 49 – 51، 113، 137)، ((البداية والنهاية)) لابن كَثير (13/147، 199)، ((الجواهر المضية في طبقات الحنفية)) للقرشي (2/ 130، 562)، ((شرح الطحاوية)) لابن أبي العز (2/ 794). .
قال
أبو المُظفَّرِ السَّمعانيُّ: (كما يُرجَعُ في معرفةِ مذاهبِ الفُقَهاءِ الذين صاروا قُدوةً في هذه الأُمَّةِ إلى أهلِ الفِقهِ، ويُرجَعُ في معرفةِ اللُّغةِ إلى أهلِ اللُّغةِ، ويُرجَعُ في معرفةِ النَّحوِ إلى أهلِ النَّحوِ؛ فكذلك يجِبُ أن يُرجَعَ في معرفةِ ما كان عليه رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأصحابُه إلى أهلِ النَّقلِ والرِّوايةِ؛ لأنَّهم عُنُوا بهذا الشَّأنِ، واشتَغَلوا بحِفظِه، والتفَحُّصِ عنه، ونَقْلِه، ولولاهم لاندرَسَ عِلمُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ولم يقِفْ أحدٌ على سُنَّتِه وطريقَتِه،... كلُّ فريقٍ من المُبتَدِعةِ إنَّما يدَّعي أنَّ الذي يعتَقِدُه هو ما كان عليه رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ لأنَّهم كُلَّهم يدَّعون شَريعةَ الإسلامِ، مُلتزِمون في شعائِرِها، يَرَونَ أنَّ ما جاء به محمَّدٌ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم هو الحَقُّ، غيرَ أنَّ الطُّرُقَ تفرَّقت بهم بعد ذلك، وأحدَثوا في الدِّينِ ما لم يأذَنْ به اللهُ ورسولُه، فزعَمَ كُلُّ فريقٍ أنَّه هو المتمَسِّكُ بشريعةِ الإسلامِ، وأنَّ الحقَّ الذي قام به رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم هو الذي يعتَقِدُه وينتَحِلُه، غيرَ أنَّ اللهَ تعالى أبى أن يكونَ الحَقُّ والعقيدةُ الصَّحيحةُ إلَّا مع أهلِ الحديثِ والآثارِ؛ لأنَّهم أخذوا دينَهم وعقائِدَهم خَلَفًا عن سَلَفٍ، وقَرنًا عن قَرنٍ، إلى أن انتهوا إلى التابعينَ، وأخذه التابعونَ عن أصحابِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وأخذه أصحابُ رسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ولا طريقَ إلى معرفةِ ما دعا إليه رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم النَّاسَ من الدِّينِ المستقيمِ والصِّراطِ القويمِ إلَّا هذا الطَّريقُ الذي سلكَه أصحابُ الحديثِ، وأمَّا سائِرُ الفِرَقِ فطلَبوا الدِّينَ لا بطريقِه؛ لأنَّهم رجعوا إلى معقولِهم وخواطِرِهم وآرائِهم، فطلَبوا الدِّينَ من قِبَلِه، فإذا سمعوا شيئًا من الكتابِ والسُّنَّةِ عرَضوه على معيارِ عُقولهم، فإن استقام قَبِلوه، وإن لم يستقِمْ في ميزانِ عُقولهم ردُّوه، فإن اضطُرُّوا إلى قَبولِه حرَّفوه بالتأويلاتِ البعيدةِ، والمعاني المستنكَرةِ؛ فحادوا عن الحقِّ، وزاغوا عنه، ونبذوا الدِّينَ وراءَ ظُهورِهم، وجعَلوا السُّنَّةَ تحتَ أقدامِهم، تعالى اللهُ عمَّا يَصِفون، وأمَّا أهلُ الحَقِّ فجَعلوا الكتابَ والسُّنَّةَ إمامَهم، وطلبوا الدِّينَ مِن قِبَلِهما، وما وقع لهم من مَعقولهم وخواطِرِهم عرَضوه على الكِتابِ والسُّنَّةِ، فإن وجدوه موافِقًا لهما قَبِلوه، وشكَروا اللهَ عزَّ وجَلَّ حيثُ أراهم ذلك، ووقَفَهم عليه، وإن وجدوه مخالِفًا لهما تركوا ما وقع لهم، وأقبلوا على الكِتابِ والسُّنَّةِ)
[268] ((الانتصار لأصحاب الحديث)) (ص: 43). .
وفي الجُملةِ فقد خاض
الأشاعِرةُ وغيرُهم من أهلِ الكلامِ في علمِ الكلامِ المحدَثِ بدعوى إثباتِ العقائِدِ الإسلاميَّةِ بالأدِلَّةِ العقليَّةِ، وظنُّوا أنَّ جِدالَ الكافرينَ يكونُ بالعقولِ لا بالقرآنِ الكريمِ، وهذا خطأٌ عظيمٌ؛ فقد أرسل اللهُ رسولَه محمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالقُرآنِ ليدعوَ به جميعَ النَّاسِ، وليُخرِجَهم به من الظُّلُماتِ إلى النُّورِ بإذنِ اللهِ، فهو تَذكِرةٌ وموعِظةٌ من اللهِ للعالَمينَ، كما قال تعالى:
تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا [الفرقان: 1] ، وقال اللهُ سُبحانَه:
كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ [إبراهيم: 1] ، وقال اللهُ تعالى مخاطِبًا جميعَ النَّاسِ:
يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ [يونس: 57] ، فمَن آمَن بالقرآنِ اهتدى ، ومَن أعرَض عن القرآنِ ضَلَّ، وهو أظلَمُ النَّاسِ، كما قال سُبحانَه:
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ [السجدة: 22] .
وقد كان منهَجُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأصحابِه رَضِيَ اللهُ عنهم في دعوةِ الكافِرينَ أن يُبَيِّنوا لهم كلامَ اللهِ، سواءٌ كانوا مُشرِكين أو أهلَ كتابٍ، كما قال تعالى عن المُشرِكين:
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا [الحج: 72] ، وقد أمر اللهُ رسولَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وهو في مكَّةَ أن يجاهِدَ الكافِرينَ بالقرآنِ الكريمِ، فكان يجادِلُهم به مع تكذيبِهم به، كما قال تعالى:
وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا [الفرقان: 52] ، فمَن لم يهتَدِ بالقُرآنِ فلن يهتدِيَ بغَيرِه، كما قال سُبحانَه:
تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ [الجاثية: 6] .
وفي القُرآنِ آياتٌ كثيرةٌ فيها دعوةُ اليهودِ والنَّصارى إلى الهُدى، وترغيبُهم في الإسلامِ، وتحذيرُهم من الإصرارِ على الباطِلِ الذي هم فيه.
وإنَّ من الخطأِ في الدَّعوةِ إلى اللهِ أن يجادِلَ المُسلِمُ الكافرينَ أو المُلحِدينَ من غيرِ أن يدعوَهم إلى القرآنِ، ويبقى معهم في أخذٍ وردٍّ في بيانِ كلامِهم الباطِلِ الذي يَلْغَونَ به حتَّى لا يَسمَعوا القُرآنَ، كما قال تعالى:
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ [فصلت: 26] ، فمِن الحِكمةِ أن يعتمِدَ الدَّاعيةُ على القُرآنِ في دعوةِ النَّاسِ للحَقِّ وبيانِ ضلالاتِهم، ويقرأَ عليهم بعضَ الآياتِ المناسِبةِ لحالِهم وضلالِهم، ويفسِّرَها لهم؛ فتأثيرُ القُرآنِ عظيمٌ جِدًّا، كما قال تعالى:
لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [الحشر: 21] .
وقد أخبر اللهُ عن الكافِرينَ أنَّهم يَستكبرونَ عن اتِّباعِ القُرآنِ، ويجادِلون بغيرِ علمٍ ولا هُدًى ولا كتابٍ مُنيٍ؛، قال اللهُ تعالى:
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ * وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [لقمان: 6-7] ، وقال سُبحانَه:
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ * ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ [الحج: 8-9] .
فعلى الدَّاعيةِ إلى اللهِ أن يدعوَ إلى اللهِ بالحِكمةِ والموعِظةِ الحَسَنةِ، ويجادِلَ بالتي هي أحسَنُ، والتي هي أحسَنُ تشمَلُ الأسلوبَ الأحسَنَ في المجادَلةِ، وتشمَلُ الاعتمادَ على القُرآنِ؛ فهو أحسَنُ الحديثِ، كما قال تعالى:
اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ [الزمر: 23] .
وعلى الدَّاعيةِ إلى اللهِ إن وجَد المُبطِلينَ بعد أن أبلغَهم آياتِ اللهِ مُصِرِّينَ على باطِلِهم أن يُعرِضَ عنهم، كما قال سُبحانَه:
فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ [النجم: 29-30] ، وينبغي أن يقولَ لهم حينَئذٍ ما علَّم اللهُ رسولَه في قَولِه:
وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ * اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ [الحج: 68-69] ، وقال سُبحانَه:
فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ [الشورى: 15] .
ومن الحِكمةِ الإعراضُ عن سماعِ اللَّغوِ الذي يَهذي به الكُفَّارُ والمرتدُّونَ والمُلحِدونَ، وعدَمُ مجاراتِهم؛ قال الله تعالى:
وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا * وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا [الكهف: 56-57] ، وقد أثنى اللهُ على المُعرِضينَ عن سماعِ الباطِلِ وجِدالِ المُبطِلينَ الظَّالمينَ، فقال سُبحانَه:
وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ * إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ [القصص: 55-56] .