الفَصْلُ الثَّاني: نَشْأةُ المَذهَبِ الأشْعَريِّ وأسْبابُ انْتِشارِه
ظَهَرَ في أوَّلِ القَرْنِ الثَّالِثِ الهِجْريِّ عَبْدُ اللهِ بنُ سَعيدٍ القَطَّانُ البَصْريُّ (ت 243 هـ)، ويقالُ له: ابنُ كُلَّابٍ؛ لأنَّه كانَ يَجُرُّ الخُصومَ إلى نفْسِه بفَضْلِ بَيانِه كأنَّه كُلَّابٌ، ويُقالُ لأصْحابِه: الكُلَّابيَّةُ، وكانَ رَحِمَه اللهُ له فَضْلٌ وعِلمٌ ودينٌ، وصَنَّفَ مُصَنَّفاتٍ كَثيرةً في الرَّدِّ على
الجَهْميَّةِ و
المُعْتَزِلةِ، ورُبَّما وافَقَ
المُعْتَزِلةَ، وكانَ يَميلُ إلى مَذهَبِ أهْلِ السُّنَّةِ، لكنْ فيه نَوْعٌ مِن
البِدْعةِ، وهو الَّذي ابْتَدَعَ القَوْلَ بأنَّ كَلامَ اللهِ قائِمٌ بذاتِ اللهِ بلا مَشيئةٍ، وكانَ ممَّن أخَذَ عنه الحارِثُ بنُ أسَدٍ المُحاسِبيُّ رَحِمَه اللهُ (ت 243 هـ)، و
داودُ بنُ علِيٍّ الأصْبَهانيُّ الظَّاهِريُّ رَحِمَه اللهُ (ت 270 هـ)، ثُمَّ جاءَ بَعْدَهم
أبو الحَسَنِ الأشْعَريُّ رَحِمَه اللهُ (ت 324 هـ)
[269] يُنظر: ((مجموع الفَتاوى)) لابن تَيْمِيَّةَ (12/ 366)، ((تاريخ الإسلام)) للذهبي (5/ 981)، ((طبقات الشافعية الكبرى)) للسبكي (2/ 299). .
وقدْ شَرَحَ
أبو الحَسَنِ الأشْعَريُّ في كُتُبِه قَوْلَ عَبْدِ اللهِ بنِ كُلَّابٍ في بابِ الأسْماءِ والصِّفاتِ، وذَكَرَ اخْتِلافَ أصْحابِ عَبْدِ اللهِ بنِ كُلَّابٍ في بعضِ مَسائِلِ الكَلامِ، ولم يكُنْ
أبو الحَسَنِ الأشْعَريُّ مُوافِقًا لابنِ كُلَّابٍ في جَميعِ أقوالِه، لكنَّه تَأثَّرَ به كَثيرًا، فأصْلُ مَذهَبِ
الأشاعِرةِ هو مَذهَبُ ابنِ كُلَّابٍ
[270] يُنظر: ((مقالات الإسلاميين)) لأبي الحَسَنِ الأشْعَريِّ (1/ 138، 141) و (2/ 398)، ((نهاية الإقدام في علم الكلام)) للشهرستاني (ص: 172)، ((بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية)) (1/ 71، 72، 74، 75)، ((الاستقامة)) (1/ 105) كلاهما لابن تَيْمِيَّةَ، ((لسان الميزان)) لابن حجر (4/ 486)، ((المدارس الأشعرية)) للشهري (ص: 39 - 41). .
وقدْ كَتَبَ
أبو الحَسَنِ الأشْعَريُّ أَكثَرَ مِن ثَلاثِمِئةِ كِتابٍ ورِسالةٍ في العَقائِدِ وفي الرَّدِّ على
المُعْتَزِلةِ وغَيْرِهم مِن أهْلِ البِدَع، حتَّى كانَ في أوائِلِ القَرْنِ الرَّابِعِ الهِجْريِّ أَشهَرَ مِن ابنِ كُلَّابٍ، فكانَتْ تَأتيه الأسْئِلةُ مِن الآفاقِ، كرِسالتِه المَشْهورةِ إلى أهْلِ الثَّغْرِ ببابِ الأبْوابِ، وكَثُرَ طُلَّابُه وأتْباعُه لا سِيَّما في العِراقِ وخُراسانَ، وأَثْنى عليه غَيْرُ واحِدٍ مِن أهْلِ العِلمِ المَشْهورينَ، وصاروا بحُجَجِه يَحْتَجُّونَ، وعلى مِنْهاجِه يَذْهبَونَ، ثُمَّ صارَ يَنْتَسِبُ إليه كَثيرٌ مِن أهْلِ المَشرِقِ والمَغرِبِ مِن الفُقَهاءِ والمُحَدِّثينَ والأُصولِيِّينَ والصُّوفيَّةِ
[271] يُنظر: ((تبيين كذب المفتري فيما نسب إلى الأشْعَري)) لابن عَساكِر (ص: 102، 117، 410)، ((موقف ابن تَيْمِيَّةَ من الأشاعِرة)) للمحمود (2/ 493 - 497). .
وكانَ المُنْتِسبونَ الأوائِلُ إلى المَذهَبِ الأشْعَريِّ مِن أهْلِ العِلمِ والفَضْلِ والدِّينِ، ولم يكُنْ في عَهْدِهم قد امْتَزَجَ المَذهَبُ الأشْعَريُّ بعِلمِ الكَلامِ والفَلْسَفةِ والتَّصوُّفِ، فكانوا يَرَوْنَ الانْتِسابَ إلى
أبي الحَسَنِ الأشْعَريِّ انْتِسابًا إلى السُّنَّةِ؛ لِما رأَوا في كُتُبِ
أبي الحَسَنِ وكُتُبِ تَلاميذِه وتَلاميذِ تَلاميذِه مِن تَعْظيمِ السَّلَفِ الصَّالِحِ، ومِن القُدْرةِ على إفْحامِ
المُعْتَزِلةِ، والدِّفاعِ عن عَقائِدِ أهْلِ السُّنَّةِ، فرَأَوا أنَّ المَذهَبَ الأشْعَريَّ مُتَوَسِّطٌ بَيْنَ
المُعْتَزِلةِ و
الجَهْمِيَّةِ الَّذين عَطَّلوا الصِّفاتِ، وبَيْنَ المُشَبِّهةِ الَّذين غَلَوا في إثْباتِ الصِّفاتِ كالكَرَّاميَّةِ، وبعضِ فُضَلاءِ الحَنابِلةِ الَّذين غَلَوا في إثْباتِ بعضِ الصِّفاتِ كعُثْمانَ بنِ سَعيدٍ الدَّارِميِّ (ت 280 هـ)، و
أبي يَعْلى الفَرَّاءِ (ت 458 هـ)
[272] قال الذَّهبيُّ مُخبِرًا عن كِتابِ الدَّارميِّ في النَّقْضِ على بِشْرٍ المِرِّيسِيِّ: (في كِتابِه بحوثٌ عَجيبةٌ مع المِرِّيسيِّ، يُبالِغُ فيها في الإثْباتِ، والسُّكوتُ عنها أشبَهُ بمَنهَجِ السَّلَفِ في القَديمِ والحَديثِ) ((العلو للعلي الغفار)) (ص: 195). وقال الألبانيُّ: (لا شَكَّ في حِفْظِ الدَّارميِّ وإمامتِه في السُّنَّةِ، ولكِنْ يَبْدو من كِتابِه (الرَّدُّ على المِرِّيسيِّ) أنَّه مُغالٍ في الإثْباتِ، فقد ذكَرَ فيه القُعودَ والحَرَكةَ والثِّقَلَ ونَحْوَه، وذلك ممَّا لم يَرِدْ به حديثٌ صَحيحٌ، وصِفاتُه تعالى تَوقيفيَّةٌ) ((التنكيل بما في تأنيب الكوثري من الأباطيل)) للمُعَلِّمي بتحقيق الألباني (2/ 572). ولا يعني هذا التَّهوينَ من شَأنِ كِتابِ الدَّارميِّ رحمه الله، فكِتابه (النَّقْضُ على المِرِّيسيِّ) من أحسَنِ الكُتُبِ في الرَّدِّ على شُبَهِ الجَهْميَّةِ والمُعْتَزِلةِ والأشاعِرةِ، وكُلٌّ يُؤخَذُ مِن قَوْلِه ويُرَدُّ إلَّا النَّبِيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم. وممَّن وقع له غُلُوٌّ في إثْباتِ بَعْضِ الصِّفاتِ: القاضي أبو يَعْلى ابنُ الفَرَّاءِ -رحمه اللهُ- في كِتابِه (إبطال التَّأويلات)، وله مع سَعةِ عِلْمِه وفَضْلِه بَعْضُ العجائِبِ والزَّلَّاتِ الشَّنيعةِ، غَفَر اللهُ لنا وله، وقد وقَعَت له تلك الأخطاءُ بسَبَبِ أخْذِه بظاهِرِ بَعْضِ النُّصوصِ الَّتي لا تَصِحُّ أو لا يَصِحُّ الاستِدلالُ بها على الصِّفاتِ؛ لعَدَمِ صِحَّةِ دَلالتِها، ومن ذلك: أنَّه أثبت للهِ سُبحانَه الأضراسَ واللَّهاةَ ((إبطال التَّأويلات)) (ص: 218)، والفَخِذَ ((إبطال التَّأويلات)) (ص: 206)، وأشنَعُ من هذا قَوْلُه بَعْدَ أن ذكرَ حَديثًا موضوعًا لا يَصِحُّ: (هذا الخَبَرُ يفيدُ أشياءَ؛ منها: جوازُ إطلاقِ الاستِلْقاءِ عليه، لا على وَجْهِ الاستراحةِ، بل على صِفةٍ لا تُعقَلُ معناها، وأنَّ له رِجْلَينِ يَضَعُ إحداهما على الأُخْرى على صِفةٍ لا نَعقِلُها؛ إذ ليس في حَمْلِه على ظاهِرِه ما يُحيلُ صِفاتِه!) ((إبطال التَّأويلات)) (ص: 190)، ولا شَكَّ أنَّ مِثْلَ هذه الأخطاءِ الشَّنيعةِ نفَّرَت كَثيرا مِن النَّاسِ عن اتِّباعِ الحَقِّ في بابِ الأسماءِ والصِّفاتِ، وحسَّنت لهم في ذلك الزَّمانِ المَذهَبَ الأشْعَريَّ الَّذي كان في بدايةِ نَشأتِه مُتوَسِّطًا إلى حدٍّ ما بين المُعْتَزِلةِ والجَهْميَّةِ، وبَيْنَ المشبِّهةِ وغُلاةِ مُثبِتةِ الصِّفاتِ مِنَ الحَنابلةِ. .
قالَ ابنُ عَساكِرَ: (لسْنا نُسَلِّمُ أنَّ
أبا الحَسَنِ اخْتَرَعَ مَذهَبًا خامِسًا، وإنَّما أقامَ مِن مَذاهِبِ أهْلِ السُّنَّةِ ما صارَ عِنْدَ المُبْتَدِعةِ دارِسًا، وأَوضَحَ مِن أقْوالِ مَن تَقَدَّمَه مِن الأرْبَعةِ وغَيْرِهم ما غَدا مُلتَبِسًا، وجَدَّدَ مِن مَعالِمِ الشَّريعةِ ما أَصْبَحَ بتَكْذيبِ مَن اعْتَدى مُنْطَمِسًا، ولسْنا نَنْتَسِبُ بمَذهَبِنا في التَّوْحيدِ إليه على مَعْنى أنَّا نُقلِّدُه فيه، ونَعْتمِدُ عليه، ولكنَّا نُوافِقُه على ما صارَ إليه مِن التَّوْحيدِ؛ لقِيامِ الأدِلَّةِ على صِحَّتِه، لا لِمُجَرَّدِ التَّقْليدِ، وإنَّما يَنْتَسِبُ مِنَّا مَن انْتَسَبَ إلى مَذهَبِه ليَتَمَيَّزَ عن المُبْتَدِعةِ الَّذين لا يَقولونَ به مِن أصْنافِ
المُعْتَزِلةِ و
الجَهْميَّةِ المُعَطِّلةِ، والمُجَسِّمةِ والكَرَّاميَّةِ والمُشَبِّهةِ السَّالِميَّةِ، وغَيْرِهم مِن سائِرِ طَوائِفِ المُبْتَدِعةِ، وأصْحابِ المَقالاتِ الفاسِدةِ المُخْتَرَعةِ؛ لأنَّ الأشْعَريَّ هو الَّذي انْتُدِبَ للرَّدِّ عليهم حتَّى قَمَعَهم، وأَظهَرَ لمَن لم يَعرِفِ البِدَعَ بِدَعَهم، ولسْنا نَرى الأئِمَّةَ الأرْبَعةَ الَّذين عَنَيْتُم في أُصولِ الدِّينِ مُخْتلِفينَ، بلْ نَراهم في القَوْلِ بتَوْحيدِ اللهِ وتَنْزيهِه في ذاتِه مُؤْتَلِفينَ، وعلى نَفْيِ التَّشْبيهِ عن القَديمِ سُبْحانَه وتَعالى مُجْتَمِعينَ، والأشْعَريُّ رَحِمَه اللهُ في الأُصولِ على مِنْهاجِهم أجْمَعينَ، فما على مَن انْتَسَبَ إليه على هذا الوَجْهِ جُناحٌ، ولا يُرْجى لمَن تَبَرَّأَ مِن عَقيدتِه الصَّحيحةِ فَلاحٌ)
[273] ((تبيين كذب المفتري فيما نسب إلى الأشْعَري)) (ص: 360 - 362). .
وممَّا رَغَّبَ فُقَهاءَ المالِكيَّةِ والشَّافِعيَّةِ في الانْتِسابِ إلى المَذهَبِ الأشْعَريِّ انتشارُ المَذهَبِ الماتُريديِّ الَّذي يُشابِهُ كَثيرًا المَذهَبَ الأشْعَريَّ في تَأويلِ الصِّفاتِ، وفي كَثيرٍ مِن مَسائِلِ الاعْتِقادِ، وصارَ يَنْتَسِبُ فُقَهاءُ الحَنَفيَّةِ إلى المَذهَبِ الماتُريديِّ، فانْتَسَبَ كَثيرٌ مِن فُقَهاءِ المالِكيَّةِ والشَّافِعيَّةِ إلى المَذهَبِ الأشْعَريِّ، لا سِيَّما وقدِ اشْتَهَرَ عنْدَ كَثيرٍ مِن النَّاسِ حتَّى عنْدَ بعضِ الحَنابِلةِ أنَّ أهْلَ السُّنَّةِ هُمُ
الأشاعِرةُ والماتُريديَّةُ وأهْلُ الحَديثِ
[274] يُنظر: ((لوائح الأنوار السنية ولواقح الأفكار السنية)) للسفاريني الحنبلي (1/ 141) و (2/ 138)، ((إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين)) للزبيدي (2/ 6)، ((تبسيط العَقائِد الإسلامية)) لحسن أيوب (ص: 299). .
وكانَ هناك عُلَماءُ يُحَذِّرونَ مِن عِلمِ الكَلامِ وأهْلِ الأهْواءِ، ويُبَيِّنونَ بُطْلانَ تَأويلِ الصِّفاتِ، وألَّفوا مُؤَلَّفاتٍ كَثيرةً في بَيانِ مَذهَبِ السَّلَفِ
[275] من ذلك: ((الرد على الجهمية والزنادقة)) لأَحْمَد بن حَنْبَل (ت 241هـ)، ((الاخْتِلاف في اللفظ والرد على الجهمية والمشبهة)) لابن قتيبة (ت 276هـ)، ((الرد على الجهمية)) لعثمان بن سعيد الدارمي (ت 280هـ)، ((السنة)) لابن أبي عاصم (ت 287هـ)، ((السنة)) للخلال (ت 311هـ)، ((التوحيد)) لابن خزيمة (ت 311هـ)، ((العَقيدة الطحاوية)) للطحاوي (ت 321هـ)، ((الإبانة عن أصول الدِّيانة)) لأبي الحَسَنِ الأشْعَريِّ (ت 324هـ)، ((اعتقاد أئِمَّة الحَديث)) للإسماعيلي (ت 371هـ)، ((الصِّفات)) للدارقطني (ت 385هـ)، ((التوحيد ومَعْرِفة أسماء الله عز وجل وصفاته)) لابن منده (ت 395هـ)، ((أصول السنة)) لابن أبي زمنين (ت 399هـ)، ((شرح أصول اعتقاد أهْل السُّنَّة والجَماعة)) للالكائي (ت 418هـ)، ((رسالة السجزي إلى أهْل زبيد في الرد على من أنكر الحرف والصوت)) للسجزي (ت 444هـ)، ((الرسالة الوافية لمَذهَب أهْل السُّنَّة في الاعتقادات وأصول الديانات)) للداني (ت 444هـ)، ((عَقيدة السَّلَف وأصْحاب الحَديث)) لأبي عثمان الصابوني (ت 449هـ)، ((ذم الكَلام وأهله)) للهروي (ت 481هـ)، ((الاعتقاد)) لابن أبي يعلى (ت 526هـ)، ((الحجة في بيان المحجة)) لقوام السنة الأصبهاني (ت 535هـ)، ((فتيا وجوابها في ذكر الاعتقاد وذم الاخْتِلاف)) للحسن العطار الهمذاني (ت 596هـ)، ((الاقتصاد في الاعتقاد)) لعبد الغني المقدسي (ت 600هـ)، ((ذم التَّأويل)) للموفق ابن قدامة المقدسي (ت 620هـ)، وهذه الكُتُبُ كُلُّها كان مُؤَلِّفوها قَبْلَ ابن تَيْمِيَّةَ (ت 728هـ) وتلميذِه ابنِ القَيِّم (ت 751هـ) اللَّذين أشهرا مَذهَبَ السَّلَفِ في عَصْرِهما، وصَبَرا على ما نالهما من أذًى بسبَبِ ذلك، ومِن أحسَنِ كُتُبِهما في العَقيدة: ((العَقيدة الواسطية)) و ((العَقيدة التدمرية)) و ((الفتوى الحموية الكبرى)) كلُّها لابنِ تَيْمِيَّةَ، و ((الصواعق المرسلة في الرد على الجهمية والمعطلة)) و ((اجتماع الجيوش الإسلامية على حرب المعطلة والجهمية)) كلاهما لابنِ القَيِّمِ. ، لكنَّها لم تَشتَهِرْ في ذلك الزَّمانِ عنْدَ جُمْهورِ الأُمَّةِ كما اشْتَهَرَتْ كُتُبُ
الأشاعِرةِ والماتُريديَّةِ، ورُبَّما كانَ بعضُ أهْلِ العِلمِ إذا اطَّلَعوا عليها ظَنُّوا أنَّها تُقَرِّرُ مَذهَبَ السَّلَفِ الَّذي هو التَّفْويضُ في زَعْمِهم، فقد أَشهَرَ
الأشاعِرةُ القَوْلَ بأنَّ هناك طَريقتَينِ في آياتِ وأحاديثِ الصِّفاتِ؛ طَريقةَ السَّلَفِ وهي التَّفويضِ، وطَريقةَ الخَلَفِ وهي التَّأويلُ
[276] يُنظر: ((مجموعة رسائل الإمام الغزالي)) (ص: 301)، ((الملل والنحل)) للشهرستاني (1/ 92، 103). ويحسُنُ هنا ذِكرُ ردِّ ابنِ تيميَّةَ على الرَّازيِّ حينَ قرَّر أنَّ مذهَبَ السَّلَفِ هو التفويضُ؛ فقد قال الرازيُّ مبيِّنًا مذهَبَ السَّلَفِ بحسَبِ ظَنِّه: (حاصِلُ هذا المذهَبِ: أنَّ هذه المتشابهاتِ يجبُ القطعُ فيها بأنَّ مرادَ اللهِ تعالى منها شيءٌ غيرُ ظاهِرِها، ثم يجِبُ تفويضُ معناها إلى اللهِ تعالى، ولا يجوزُ الخوضُ في تفسيرِها، وقال المتكَلِّمونَ: بل يجِبُ الخوضُ في تأويلِ تلك المُتشابهاتِ)، ثم ردَّ عليه ابنُ تيميَّةَ بقَولِه: (مَذهَبُ السَّلَفِ يُعرَفُ بنقلِ أقوالِهم أو نَقلِ من هو خبيرٌ بأقوالِهم، ومَا ذكَره من العبارةِ لم يُنقَلْ عن أحَدٍ من السَّلَفِ، ولا نقَلَه من يحكي إجماعَ السَّلَفِ، ونحن ذكَرْنا قطعةً من أقوالِ السَّلَفِ في هذا البابِ، وأقوالِ من يحكي مذاهِبَهم من جميعِ الطَّوائفِ في جوابِ الفُتيا الحَمَويَّةِ في الرَّدِّ على الجَهْميَّةِ، وغيرِ ذلك، ولكِنْ ما ذكرَه هذا من مذهَبِ السَّلَفِ والتفويضِ إنَّما يَعرِضُ في كلامِ أبي حامدٍ ونحوِه ممَّن ليس لهم خِبرةٌ بكلامِ السَّلَفِ رحمهم اللهُ، بل ولا بكلامِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فلا يُميِّزونَ بين صحيحِ هذا وبَينَ ضعيفِه، ولكنْ يَنقِلونَ مَذهَبَ السَّلَفِ بحسَبِ اعتقادِهم، لا بأقوالِ السَّلَفِ وما بيَّنوه وقالوه في هذا البابِ، وأقوالُ السَّلَفِ كثيرةٌ مشهورةٌ في كتُبِ أهلِ الحديثِ والآثارِ الذين يَروونَها عنهم بالأسانيدِ المعروفةِ) ((بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية)) (8/ 536 - 538) باختصارٍ. ، وصارَ هذا القَوْلُ مُسَلَّمًا به عنْدَ كَثيرٍ مِن العُلَماءِ، معَ أنَّه في الحَقيقةِ يُخالِفُ ما كانَ عليه السَّلَفُ الصَّالِحُ مِن الإيمانِ بمَعاني الصِّفاتِ كما يَليقُ بعَظَمةِ اللهِ سُبْحانَه، وإنَّما هم يُفَوِّضونَ كَيْفيَّاتِ الصِّفاتِ لا مَعانيَها.
قالَ
النَّوَويُّ: (اعْلَمْ أنَّ لأهْلِ العِلمِ في أحاديثِ الصِّفاتِ وآياتِ الصِّفاتِ قَوْلَينِ:
أحَدُهما: وهو مَذهَبُ مُعظَمِ السَّلَفِ أو كلِّهم، أنَّه لا يُتَكلَّمُ في مَعْناها، بل يَقولونَ: يَجِبُ علينا أن نُؤمِنَ بِها، ونَعْتقِدَ لها مَعنًى يَليقُ بجَلالِ اللهِ تَعالى وعَظَمتِه، معَ اعْتِقادِنا الجازِمِ أنَّ اللهَ تَعالى ليس كمِثلِه شيءٌ، وأنَّه مُنَزَّهٌ عن التَّجَسُّمِ والانْتِقالِ والتَّحَيُّزِ في جِهةٍ، وعن سائِرِ صِفاتِ المَخْلوقِ، وهذا القَوْلُ هو مَذهَبُ جَماعةٍ مِن المُتَكلِّمينَ، واخْتارَه جَماعةٌ مِن مُحَقِّقيهم، وهو أَسلَمُ.
والقَوْلُ الثَّاني: وهو مَذهَبُ مُعظَمِ المُتَكلِّمينَ؛ أنَّها تُتَأوَّلُ على ما يَليقُ بِها على حَسَبِ مَواقِعِها، وإنَّما يَسوغُ تَأويلُها لمَن كانَ مِن أهْلِه، بأن يكونَ عارِفًا بلِسانِ العَربِ، وقَواعِدِ الأُصولِ والفُروعِ، ذا رِياضةٍ في العِلمِ)
[277] ((شرح مُسلِم)) (3/ 19). .
وقَوْلُ
النَّوَويِّ وغَيْرِه بأنَّ مَذهَبَ السَّلَفِ هو عَدَمُ التَّكَلُّمِ عن مَعاني الصِّفاتِ، وتَفْويضُ مَعاني الصِّفاتِ للجَهْلِ بِها- قَوْلٌ خاطِئٌ، بلِ السَّلَفُ كانوا يَتَكلَّمونَ عن مَعاني الصِّفاتِ، ويُفَوِّضونَ كَيْفيَّةَ الصِّفاتِ لا مَعانيَها، والأمْثِلةُ على ذلك كَثيرةٌ جِدًّا
[278] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (1/ 190، 454)، و (13/ 411)، ((الحجة في بيان المحجة)) لقوام السنة الأصبهاني (1/ 313) و (2/ 116)، ((الفتوى الحموية الكبرى)) لابن تَيْمِيَّةَ (ص: 307، 361 - 368)، ((درء تعارض العَقْل والنقل)) (1/ 201 - 205)، ((العلو للعلي الغفار)) للذهبي (ص: 139)، ((القواعد المثلى في صفات الله وأسمائه الحُسْنى)) لابن عُثَيْمينَ (ص: 34 - 48)، ((تبرئة السَّلَف من تفويض الخلف)) للحيدان (ص: 14 - 51). ؛ فمَثَلًا صِفةُ الاسْتِواءِ تَكلَّمَ السَّلَفُ عن مَعْناها، قالَ
البُخاريُّ في صَحيحِه: (قالَ أبو العالِيةِ:
اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ [البقرة: 29] : (ارْتَفَعَ)،
فَسَوَّاهُنَّ [البقرة: 29] : (خَلَقَهنَّ)، وقالَ مُجاهِد:
اسْتَوَى: (عَلا على العَرْشِ)
[279] ((صَحيح البخاري)) (9/ 124). .
ومَشْهورٌ قَوْلُ
مالِكٍ حينَ سُئِلَ عن الاسْتِواءِ: (الاسْتِواءُ مَعْلومٌ، والكَيْفُ مَجْهولٌ، والإيمانُ به واجِبٌ، والسَّؤالُ عنه
بِدْعةٌ)
[280] ((الأثر المشهور عن الإمام مالك رحمه الله في صفة الاستواء)) لعبد الرزاق البدر (ص: 38 - 93). .
قالَ
ابنُ عَبْدِ البَرِّ: (هذه الآياتُ كلُّها واضِحاتٌ في إبْطالِ قَوْلِ
المُعْتَزِلةِ، وأمَّا ادِّعاؤُهم المَجازَ في الاسْتِواءِ، وقَوْلُهم في تَأويلِ
اسْتَوَى اسْتَوْلى، فلا مَعْنى له؛ لأنَّه غَيْرُ ظاهِرٍ في اللُّغةِ، ومَعْنى الاسْتيلاءِ في اللُّغةِ المُغالَبةُ، واللهُ لا يُغالِبُه ولا يَعْلوه أحَدٌ، وهو الواحِدُ الصَّمَدُ، ومِن حَقِّ الكَلامِ أن يُحمَلَ على حَقيقتِه حتَّى تَتَّفِقَ الأُمَّةُ أنَّه أُريدَ به المَجازُ؛ إذ لا سَبيلَ إلى اتِّباعِ ما أُنزِلَ إلينا مِن رَبِّنا إلَّا على ذلك، وإنَّما يُوَجَّهُ كَلامُ اللهِ عزَّ وجَلَّ إلى الأَشهَرِ والأَظهَرِ مِن وُجوهِه، ما لم يَمنَعْ مِن ذلك ما يَجِبُ له التَّسْليمُ، ولو ساغَ ادِّعاءُ المَجازِ لكلِّ مُدَّعٍ ما ثَبَتَ شيءٌ مِن العِباراتِ، وجَلَّ اللهُ عَزَّ وجَلَّ عن أن يُخاطِبَ إلَّا بما تَفهَمُه العَربُ في مَعْهودِ مُخاطَباتِها ممَّا يَصِحُّ مَعْناه عنْدَ السَّامِعينَ، والاسْتِواءُ مَعْلومٌ في اللُّغةِ ومَفْهومٌ، وهو العُلُوُّ والارْتِفاعُ على الشَّيءِ والاسْتِقرارُ والتَّمَكُّنُ فيه، قالَ أبو عُبَيْدةَ في قَوْلِه تَعالى:
اسْتَوَى قالَ: عَلا، قالَ: وتَقولُ العَربُ: اسْتَوَيْتُ فَوْقَ الدَّابَّةِ، واسْتَوَيْتُ فَوْقَ البَيْتِ...، قالَ أبو عُمَرَ: الاسْتِواءُ: الاسْتِقرارُ في العُلْوِ، وبِهذا خاطَبَنا اللهُ عَزَّ وجَلَّ)
[281] ((التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد)) (7/ 131). .
وقالَ
ابنُ القَيِّمِ: (حِفْظُ حُرْمةِ نُصوصِ الأسْماءِ والصِّفاتِ بإجْراءِ أخْبارِها على ظَواهِرِها، وهو اعْتِقادُ مَفْهومِها المُتبادِرِ إلى أذْهانِ عامَّةِ الأُمَّةِ، كما قالَ
مالِكٌ رَحِمَه اللهُ وقدْ سُئِلَ عن قَوْلِه تَعالى:
الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه: 5] كيف اسْتَوى؟ فأَطرَقَ
مالِكٌ حتَّى عَلاه الرُّحَضاءُ، ثُمَّ قالَ: الاسْتِواءُ مَعْلومٌ، والكَيْفُ غَيْرُ مَعْقولٍ، والإيمانُ به واجِبٌ، والسُّؤالُ عنه
بِدْعةٌ. ففَرَّقَ بَيْنَ المَعْنى المَعْلومِ مِن هذه اللَّفْظةِ، وبَيْنَ الكَيْفِ الَّذي لا يَعقِلُه البَشَرُ
[282] قال ابنُ العَرَبيِّ المالكيُّ مُبَيِّنًا مذهبَ مالكٍ في نصوصِ الصِّفاتِ: (مَذهَبُ مالكٍ رحمه اللهُ أنَّ كُلَّ حديثٍ منها معلومُ المعنى؛ ولذلك قال للذي سأله: الاستواءُ معلومٌ، والكيفيَّةُ مجهولةٌ) ((عارضة الأحوذي بشرح صحيح الترمذي)) (3/ 166). ، وهذا الجَوابُ مِن
مالِكٍ رَضِيَ اللهُ عنه شافٍ عامٌّ في جَميعِ مَسائِلِ الصِّفاتِ، فمَن سَألَ عن قَوْلِه:
إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى [طه: 46] كيف يَسمَعُ ويَرى؟ أُجيبَ بِهذا الجَوابِ بعَيْنِه، فقيلَ له: السَّمْعُ والبَصَرُ مَعْلومٌ، والكَيْفُ غَيْرُ مَعْقولٍ. وكذلك مَن سَألَ عن العِلمِ، والحَياةِ، والقُدْرةِ، والإرادةِ، والنُّزولِ، والغَضَبِ، والرِّضا، والرَّحْمةِ، والضَّحِكِ، وغَيْرِ ذلك، فمَعانيها كلُّها مَفْهومةٌ، وأمَّا كَيْفيَّتُها فغَيْرُ مَعْقولةٍ؛ إذ تَعَقُّلُ الكَيْفيَّةِ فَرْعُ العِلمِ بكَيْفيَّةِ الذَّاتِ وكُنْهِها. فإذا كانَ ذلك غَيْرَ مَعْقولٍ للبَشَرِ، فكيف يُعقَلُ لهم كَيْفيَّةُ الصِّفاتِ؟ والعِصْمةُ النَّافِعةُ في هذا البابِ: أن يوصَفَ اللهُ بما وَصَفَ به نَفْسَه، وبما وَصَفَه به رَسولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، مِن غَيْرِ تَحْريفٍ ولا تَعْطيلٍ، ومِن غَيْرِ تَكْييفٍ ولا تَمْثيلٍ، بل تُثبَتُ له الأسْماءُ والصِّفاتُ، وتُنْفى عنه مُشابَهةُ المَخْلوقاتِ، فيكونُ إثْباتُك مَنَزَّهًا عن التَّشْبيهِ، ونَفْيُك مُنَزَّهًا عن
التَّعْطيلِ، فمَن نَفى حَقيقةَ الاسْتِواءِ فهو مُعَطِّلٌ، ومَن شَبَّهَه باسْتِواءِ المَخْلوقِ على المَخْلوقِ فهو مُمَثِّلٌ، ومَن قالَ: اسْتِواءٌ ليس كمِثلِه شيءٌ، فهو المُوَحِّدُ المُنَزِّهُ)
[283] ((مدارج السالكين)) (2/ 84). .
وممَّا يُبَيِّنُ أنَّ السَّلَفَ يُؤمِنونَ بمَعاني الصِّفاتِ، ويَعرِفونَ مَعانيَها أنَّهم فَسَّروا مَعانيَ أسْماءِ اللهِ الحُسْنى، وهي تَتَضَمَّنُ صِفاتٍ للهِ سُبْحانَه
[284] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (1/ 127)، ((تفسير أسماء الله الحُسْنى)) للزجاج (ص: 33، 37)، ((اشتقاق أسماء الله)) للزجاجي (ص: 108، 152)، ((شأن الدعاء)) للخطابي (1/ 47 - 49، 57 - 66، 88، 111). .
قالَ الأزْهَريُّ الهَرَويُّ: (السَّميعُ مِن صِفاتِ اللهِ وأسْمائِه، وهو الَّذي وَسِعَ سَمْعُه كلَّ شيءٍ...، والعَجَبُ مِن قَوْمٍ فَسَّروا السَّميعَ بمَعْنى المُسمِعِ، فِرارًا مِن وَصْفِ اللهِ بأنَّ له سَمْعًا! وقدْ ذَكَرَ اللهُ الفِعلَ في غَيْرِ مَوضِعٍ مِن كِتابِه، فهو سَميعٌ ذو سَمْعٍ بلا تَكْييفٍ ولا تَشْبيهٍ بالسَّميعِ مِن خَلْقِه، ولا سَمْعُه كسَمْعِ خَلْقِه، ونحن نَصِفُه بما وَصَفَ به نَفْسَه، بلا تَحْديدٍ ولا تَكْييفٍ)
[285] ((تهذيب اللغة)) (2/ 74). .
قالَ
ابنُ تَيْمِيَّةَ مُبَيِّنًا خُطورةَ مَذهَبِ التَّفْويضِ: (فيَبْقى هذا الكَلامُ سَدًّا لبابِ الهُدى والبَيانِ مِن جِهةِ الأنْبِياءِ، وفَتَحًا لبابِ مَن يُعارِضُهم ويَقولُ: إنَّ الهُدى والبَيانَ في طَريقِنا لا في طَريقِ الأنْبِياءِ؛ لأنَّا نحن نَعلَمُ ما نَقولُ ونُبَيِّنُه بالأدِلَّةِ العَقْلِيَّةِ، والأنْبِياءُ لم يَعلَموا ما يَقولونَ فَضْلًا عن أن يُبَيِّنوا مُرادَهم! فتَبَيَّنَ أنَّ قَوْلَ أهْلِ التَّفْويضِ الَّذين يَزعُمونَ أنَّهم مُتَّبِعونَ للسُّنَّةِ والسَّلَفِ مِن شَرِّ أقْوالِ أهْلِ البِدَعِ والإلْحادِ)
[286] ((درء تعارض العَقْل والنقل)) (1/ 205). .
وقالَ
ابنُ تَيْمِيَّةَ أيضًا: (أهْلُ التَّجْهيلِ يَقولونَ: إنَّ الرَّسولَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لم يَعرِفْ مَعانيَ ما أَنزَلَ اللهُ إليه مِن آياتِ الصِّفاتِ، ولا
جِبْريلُ يَعرِفُ مَعانيَ الآياتِ، ولا السَّابِقونَ الأوَّلونَ عَرَفوا ذلك! وكذلك قَوْلُهم في أحاديثِ الصِّفاتِ: إنَّ مَعْناها لا يَعلَمُه إلَّا اللهُ، معَ أنَّ الرَّسولَ تَكلَّمَ بها ابْتِداءً! فعلى قَوْلِهم تَكلَّمَ بكَلامٍ لا يَعرِفُ مَعْناه!)
[287] ((مجموع الفَتاوى)) (5/ 34) باختِصارٍ وتَصَرُّفٍ يسيرٍ. .
وللقاضي عِياضٍ كَلامٌ يُفرِّقُ فيه بَيْنَ مَذهَبِ السَّلَفِ، ومَذهَبِ أهْلِ التَّفْويضِ، ومَذهَبِ المُتَأوِّلينَ، وإن كانَ في نِسْبتِه
أبا الحَسَنِ إلى التَّفْويضِ نَظَرٌ، لكنَّه يُبَيِّنُ بُطْلانَ القَوْلِ بأنَّ مَذهَبَ السَّلَفِ هو التَّفْويضُ، قالَ عِياضٌ: (اخْتَلَفَ أئِمَّتُنا فيما وَرَدَ مِن ذِكْرِ اليَدِ وشِبْهِ ذلك ممَّا لا يَليقُ ظاهِرُه باللهِ تَعالى؛ فكَثيرٌ مِن السَّلَفِ يَرى إمْرارَها بتَنْزيهِ اللهِ تَعالى عن ظاهِرِها، وتَرْكِ تَأويلِها، وذَهَبَ
أبو الحَسَنِ الأشْعَريُّ في طائِفةٍ مِن أصْحابِه إلى أنَّها صِفاتٌ سَمْعيَّةٌ لم نَعلَمْها إلَّا مِن جِهةِ الشَّرْعِ، نُثبِتُها صِفاتٍ، ولا نَعلَمُ حَقيقتَها وشَرْحَها، وذَهَبَ غَيْرُ واحِدٍ إلى تَأويلِها على مُقْتَضى اللُّغةِ، فيَحمِلُ اليَدَ بمَعْنى القُدْرةِ أو النِّعْمةِ)
[288] ((إكمال المعلم بفوائد مُسلِم)) (8/ 138). .
والمَقْصودُ هنا بَيانُ خَطَأِ نِسْبةِ مَذهَبِ التَّفْويضِ إلى السَّلَفِ الصَّالِحِ، وأنَّ القَوْلَ بأنَّ مَذهَبَ السَّلَفِ هو التَّفْويضُ كانَ سَبَبًا في تَفْضيلِ بعضِ العُلَماءِ لمَذهَبِ
الأشاعِرةِ أو على الأقَلِّ رِضاهم عنهم في خَوْضِهم في صِفاتِ اللهِ بالتَّأويلِ؛ لأنَّ في التَّأويلِ لنُصوصِ الصِّفاتِ زِيادةَ عِلمٍ وفَضْلٍ على المُفَوِّضةِ السَّاكِتينَ عنها، المُعْتَرِفينَ بجَهْلِهم بمَعانيها، الَّذين حالُهم كحالِ الأُمِّيِّينَ الَّذين لا يَعلَمونَ الكِتابَ إلَّا أمانيَّ، ومَعاذَ اللهِ أن يكونَ هذا حالَ السَّلَفِ، وبِهذا يَتَبيَّنُ بُطْلانُ قَوْلِ مَن قالَ: مَذهَبُ السَّلَفِ أَسلَمُ، ومَذهَبُ الخَلَفِ أَحكَمُ وأَعلَمُ
[289] قال ابن تَيْمِيَّةَ: (قد ينصُرُ المتكَلِّمون أقوالَ السَّلَفِ تارةً، وأقوالَ المتكَلِّمينَ تارةً، كما يفعَلُه غيرُ واحِدٍ؛ مِثلُ أبي المَعالي الجُوَيْنيِّ، وأبي حامِدٍ الغَزاليِّ، والرَّازيِّ، وغيرِهم،... وتارةً يجعَلونَ إخوانَهم المُتَأخِّريَن أحذَقَ وأعلَمَ مِنَ السَّلَفِ، ويقولون: طَريقةُ السَّلَفِ أسلَمُ، وطَريقةُ هؤلاءِ أعلَمُ وأحكَمُ، فيَصِفون إخوانَهم بالفَضيلةِ في العِلمِ والبيانِ والتَّحْقيقِ والعِرْفانِ، والسَّلَفَ بالنَّقْصِ في ذلك والتَّقْصيرِ فيه أو الخَطَأِ والجَهْلِ! وغايتُهم عندهم: أن يُقيموا أعذارَهم في التَّقصيرِ والتَّفْريطِ! ولا رَيبَ أنَّ هذا شُعْبةٌ مِنَ الرَّفْضِ؛ فإنَّه وإنْ لم يكُنْ تكفيرًا للسَّلَفِ ولا تَفْسيقًا لهم كان تجهيلًا لهم وتَخطِئةً وتضليلًا) ((مجموع الفَتاوى)) (4/ 157) باختِصارٍ. ! بل مَذهَبُ السَّلَفِ أَحكَمُ وأَعلَمُ وأَسلَمُ.