المَبحَثُ الأوَّلُ: صِفتا السَّمْعِ والبَصَرِ
الأشاعِرةُ المُتَقَدِّمونَ يُثبِتونَ للهِ سُبْحانَه صِفةَ السَّمْعِ والبَصَرِ، ورَدُّوا على
المُعْتَزِلةِ نَفْيَهم لتلك الصِّفتَينِ.
قالَ
أبو الحَسَنِ الأشْعَريُّ مُبَيِّنًا ما أَجمَعَ عليه السَّلَفُ الصَّالِحُ: (اعْلَموا أَرشَدَكم اللهُ أنَّ ممَّا أَجْمَعوا عليه -رَحْمةُ اللهِ عليهم- على اعْتِقادِه ممَّا دَعاهم النَّبِيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إليه، ونَبَّهَهم بما ذَكَرْناه على صِحَّتِه...، وأنَّه عَزَّ وجَلَّ لم يَزَلْ قَبْلَ أن يَخلُقَه واحِدًا عالِمًا قادِرًا مُريدًا مُتَكلِّمًا سَميعًا بَصيرًا، له الأسْماءُ الحُسْنى والصِّفاتُ العُلا، وأَجْمَعوا على أنَّه عَزَّ وجَلَّ يَسمَعُ ويَرى)
[447] ((رسالة إلى أهْل الثغر بباب الأبواب)) (ص: 118، 121). .
وقالَ
أبو الحَسَنِ الأشْعَريُّ أيضًا: (زَعَمَتِ
المُعْتَزِلةُ أنَّ قَوْلَ اللهِ تَعالى:
سَمِيعٌ بَصِيرٌ [الحج: 61] أنَّ مَعْناه عَليمٌ! قيلَ لهم: فإذا قالَ اللهُ تَعالى:
إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى [طه: 46] ، وقالَ:
قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا [المجادلة: 1] فمَعْنى ذلك عنْدَكم عِلمٌ؟! فإنْ قالوا: نَعمْ. قيلَ لهم: فقدْ وَجَبَ عليكم أن تَقولوا: مَعْنى قَوْلِه:
إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى [طه: 46] أَعلَمُ وأَعلَمُ! إذا كانَ مَعْنى ذلك العِلمَ...، وزَعَمَتِ
الجَهْميَّةُ أنَّ اللهَ تَعالى لا عِلمَ له، ولا قُدْرةَ، ولا حَياةَ، ولا سَمْعَ، ولا بَصَرَ له...، ونَفَتِ
المُعْتَزِلةُ صِفاتِ رَبِّ العالَمينَ، وزَعَمَتْ أنَّ مَعْنى (سَميع بَصير) راءٍ بمَعْنى عَليمٍ...، فيقالُ للمُعْتَزِلةِ: إذا زَعَمْتُم أنَّ مَعْنى سَميعٍ وبَصيرٍ مَعْنى عالِمٍ، فهَلَّا زَعَمْتُم أنَّ مَعْنى قادِرٍ مَعْنى عالِمٍ! وإذا زَعَمْتُم أنَّ مَعْنى سَميعٍ وبَصيرٍ مَعْنى قادِرٍ، فهَلَّا زَعَمْتُم أنَّ مَعْنى قادِرٍ مَعْنى عالِمٍ!)
[448] ((الإبانة عن أصول الدِّيانة)) (ص: 157 - 160). .
وقالَ الباقِلَّانيُّ: (يَجِبُ أن يُعلَمَ: أنَّه سَميعٌ لجَميعِ المَسْموعاتِ، بَصيرٌ لجَميعِ المُبْصَراتِ... لو لم يوصَفْ بالسَّمْعِ والبَصَرِ لوَجَبَ أن يوصُفَ بضِدِّ ذلك مِن الصَّمَمِ والعَمى، واللهُ يَتَعالى عن ذلك عُلُوًّا كَبيرًا)
[449] ((الإنصاف فيما يجب اعتقاده ولا يجوز الجهل به)) (ص: 35). .
وقالَ عَبْدُ القاهِرِ البَغْداديُّ: (
المُعْتَزِلةُ البَصْريُّونَ أَقَرُّوا بأنَّ اللهَ تَعالى يَرى خَلْقَه مِن الأجْسامِ والألْوانِ، وأَنْكَروا أن يَرى نَفْسَه، كما أَنْكَروا أن يَراه غَيْرُه، وزَعَمَ الكَعْبيُّ أنَّ اللهَ تَعالى لا يَرى نَفْسَه ولا غَيْرَه إلَّا على مَعْنى عِلمِه بنَفْسِه وبغَيْرِه، وتَبِعَ النِّظامَ في قَوْلِه: إنَّ اللهَ تَعالى لا يَرى شَيئًا في الحَقيقةِ، و
المُعْتَزِلةُ البَصْريُّونَ معَ أصْحابِنا يَقولونَ: إنَّ اللهَ عَزَّ وجَلَّ سامِعٌ للكَلامِ والأصْواتِ على الحَقيقةِ، لا على مَعْنى أنَّه عالِمٌ بِهما، وزَعَمَ الكَعْبيُّ والبَغْداديُّونَ مِن
المُعْتَزِلةِ أنَّ اللهَ تَعالى لا يَسمَعُ شَيئًا على مَعْنى الإدْراكِ المُسَمَّى بالسَّمْعِ، وتَأوَّلوا وَصْفَه بالسَّميعِ البَصيرِ على مَعْنى أنَّه عَليمٌ بالمَسْموعاتِ الَّتي يَسمَعُها غَيْرُه، والمَرْئِيَّاتِ الَّتي يَراها غَيْرُه)
[450] ((الفرق بين الفرق)) (ص: 166) بتَصَرُّفٍ يسيرٍ. .
وقالَ
أبو بَكْرِ بنُ العَربيِّ: (المَسْألةُ الأُولى: في تَحْقيقِ السَّمْعِ والبَصَرِ: اخْتَلَفَ أصْحابُنا في سَمْعِه وبَصَرِه؛ فمِنهم مَن قالَ: إنَّهما نَوْعانِ مِن العِلمِ بالوُجودِ، أحَدُهما يُقالُ له: سَمْعٌ، والآخَرُ يُقالُ له: بَصَرٌ، ولم يُنكِرْ إطْلاقَ القَوْلِ بأنَّ للهِ عُلومًا غَيْرَ مُتَماثِلةٍ، ولا يَسُدُّ واحِدٌ مِنهم مَسَدَّ صاحِبِه؛ ومِنهم مَن قالَ: إنَّ السَّمْعَ إدْراكُ المَسْموعِ، وقدِ اخْتَلَفَ في ذلك جَوابُ شَيْخِنا
أبي الحَسَنِ في كُتُبِه؛ فتارةً قالَ: السَّمْعُ إدْراكُ المَسْموعِ، ورَدَّ قَوْلَ مَن قالَ: إنَّه العِلمُ بالمَسْموعِ، وقالَ في بعضِ كُتُبِه: إنَّه ضَرْبٌ مِن العِلمِ. قالَ الأسْتاذُ أبو بَكْرِ بنُ فورَكٍ: الصَّحيحُ أنَّه إدْراكُ المَسْموعِ، وأنَّه صِفةٌ تَزيدُ على العِلمِ، وكذلك القَوْلُ في البَصَرِ، إنَّه صِفةٌ تَزيدُ على العِلمِ، والنُّكْتةُ فيه أنَّه لو كانَ مَعْنى يَسمَعُ ويُبصِرُ يَعلَمُ -وهو عالِمٌ بما كانَ ويكونُ- لكانَ سامِعًا ومُبصِرًا لِما كانَ ويكونُ، وذلك مُحالٌ. وفي شُمولِ العِلمِ للمَوْجودِ والمَعْدومِ، واخْتِصاصِ السَّمْعِ والبَصَرِ بالمَوْجودِ أَعظَمُ دَليلٍ على الفَرْقِ بَيْنَهما، وتَمَيُّزِ كلِّ واحِدٍ مِنهما بحَقيقتِه ومُتَعلِّقِه.
المَسْألةُ الثَّانيةُ: الباري تَعالى عنْدَنا سَميعٌ بسَمْعٍ، بَصيرٌ ببَصَرٍ، وخالَفَتْ في ذلك المُبْتَدِعةُ فقالوا: إنَّ الباريَ تَعالى سَميعٌ وبَصيرٌ بمَعْنى أنَّه عالِمٌ، وقدْ بَيَّنَّا أنَّ السَّمْعَ والبَصَرَ مَعنًى يَزيدُ على العِلمِ المُطلَقِ، وأنَّه لا بُدَّ له مِن فائِدةٍ مُجَدَّدةٍ.
المَسْألةُ الثَّالِثةُ: نَقولُ: إنَّ الباريَ تَعالى سَميعٌ حَقيقةً بكلِّ مَعنًى لُغويٍّ؛ لأنَّ اللُّغةَ في ذلك لا تَأباه الحَقيقةُ، وكلُّ جائِزٍ في الحَقيقةِ وَرَدَتْ به اللُّغةُ لا مَرَدَّ له. فإذا قُلْنا: إنَّه سَميعٌ بمَعْنى أنَّه عالِمٌ بالمَسْموعاتِ فإنَّ ذلك يَرجِعُ إلى صِفاتِ الذَّاتِ والإثْباتِ، وإن قُلْنا: إنَّه سَميعٌ بمَعْنى أنَّه قابِلٌ فلِذلك وَجْهانِ: أحَدُهما: أنَّه يَرجِعُ إلى مَدْحِه له، فيَعودُ إلى الكَلامِ، وهو مِن صِفاتِ الذَّاتِ أيضًا. والثَّاني: رُجوعُه إلى الثَّوابِ، فإنَّ الكَريمَ إذا قَبِلَ ورَضِيَ أثابَ، وإذا كانَ سَميعًا بمَعْنى أنَّه مُسمِعٌ فقدْ قالَ عُلَماؤُنا: إنَّه مِن صِفاتِ الأفْعالِ، وذلك يَعودُ إلى إسْماعِه لخَلْقِه كَلامَه وكَلامَ غَيْرِه، وإذا قُلْنا في كَوْنِه بَصيرًا: إنَّه بمَعْنى إدْراكِ المُبْصَراتِ رَجَعَ إلى الذَّاتِ؛ لأنَّ الإدْراكَ مَعنًى قائِمٌ بالمُدرِكِ، وإن قُلْنا: إنَّه بمَعْنى العِلمِ بخَفِيَّاتِ الأمورِ كما يُقالُ: فُلانٌ بَصيرٌ بكَذا، فلا نَجعَلُه مَعْناه الأَخَصَّ به؛ لأنَّ ذلك قَوْلٌ بمَذهَبِ المُبْتَدِعةِ في أنَّه بَصيرٌ بمَعْنى أنَّه عالِمٌ، ولكنَّه عنْدَنا أحَدُ مَعانيه، والأصْلُ هو الإدْراكُ فيه، وإن قُلْنا: إنَّه بمَعْنى مُبصِرٍ احْتَمَلَ مَعْنيَينِ: أحَدُهما: أنَّه بمَعْنى فاعِلٍ، أي: باصِرٍ؛ لأنَّ العَربَ تَقولُ: بَصُرْتُ به وأَبصَرْتُه بمَعْنى رَأيْتُه، فتَجعَلُ فَعْلَ مِن هذا البابِ وأَفعَلَ بمَعنًى واحِدٍ، فإذا أرَدْتُ تَعْديةَ الفِعلِ فيه عَدَّيْتَه بالتَّضْعيفِ، فتَقولُ: بَصَّرْتُه بتَشْديدِ الصَّادِ. والثَّاني: أن يكونَ بمَعْنى أنَّه جَعَلَ غَيْرَه يُبصِرُ، فيكونُ مِن صِفاتِ الأفْعالِ)
[451] ((الأمد الأقصى في شرح أسماء الله الحُسْنى وصفاته العلى)) (ص: 567 - 570). .
ولكنَّ
الأشاعِرةَ المُتَأخِّرينَ لا يُثبِتونَ صِفةَ السَّمْعِ والبَصَرِ كما يُثبِتُها السَّلَفُ الصَّالِحُ، ولا كما يُثبِتُها أئِمَّةُ
الأشاعِرةِ المُتَقدِّمونَ، بلْ يَزعُمونَ أنَّهما صِفتانِ ذاتيَّتانِ أزَلِيَّتانِ، وهذا حَقٌّ، ولكنَّهم يُنكِرونَ أنَّهما أيضًا صِفتانِ فِعْلِيَّتانِ للهِ سُبْحانَه، ويُنكِرونَ أنَّه يَسمَعُ الأصْواتَ عنْدَ حُدوثِها، وأنَّه يَرى الأشْياءَ عنْدَ وُجودِها، وبعضُهم يَقولُ: هما مِن الصِّفاتِ الفِعْلِيَّةِ بمَعْنى أنَّ اللهَ سَميعٌ أي: جَعَلَ خَلْقَه يَسمَعونَ، بَصيرٌ أي: جَعَلَ خَلْقَه يُبصِرونَ، وبعضُهم يَجعَلُ السَّمْعَ والبَصَرَ بمَعْنى العِلمِ، فاقْتَرَبوا بِهذا مِن مَذهَبِ
المُعْتَزِلةِ، وبعضُهم لا يُفرِّقُ في المَعْنى بَيْنَ السَّمْعِ والبَصَرِ، فيَجعَلُهما بمَعْنى الإدْراكِ! ولهم كَلامٌ فَلْسَفيٌّ في إثْباتِ صِفةِ السَّمْعِ والبَصَرِ، وبعضُهم يُفَوِّضُ مَعْنى صِفةِ السَّمْعِ والبَصَرِ.
أقْوالُ بعضِ الأشاعِرةِ المُتَأخِّرينَ في صِفتَيِ السَّمْعِ والبَصَرِ:1- قالَ الدُّسوقيُّ: (يَسمَعُ بسَمْعِه سَمْعَه وبَصَرَه، ويُبصِرُ ببَصَرِه سَمْعَه وبَصَرَه، فكلٌّ مِنهما كالعِلمِ يَتَعلَّقُ بنَفْسِه وبغَيْرِه. واعْلَمْ أنَّهما وإن تَعَلَّقا بالمَوْجوداتِ لكن على كَيْفيَّةٍ مُغايِرةٍ لكَيْفيَّةِ تَعَلُّقِ الآخَرِ بها لا يَعلَمُ تلك الحالةَ إلَّا اللهُ تَعالى، وحينَئذٍ فلا يُغْني أحَدُهما عن الآخَرِ، وتَعَلُّقُهما بالقَديمِ تَنْجيزيٌّ قَديمٌ، وبالحادِثِ صلوحيٌّ قَديمٌ، وتَنْجيزيٌّ حادِثٌ)
[452] ((حاشية الدسوقي على أم البراهين)) (ص: 85). .
2- قالَ الباجوريُّ: (السَّمْعُ: صِفةٌ أزَليَّةٌ قائِمةٌ بذاتِه تَعالى تَتَعلَّقُ بالمَوْجوداتِ: الأصْواتِ، وغَيْرِها كالذَّواتِ، وهذه طَريقةُ السَّنوسيِّ ومَن تَبِعَه. وقالَ السَّعْدُ: تَتَعلَّقُ بالمَسْموعاتِ، فيُحتَمَلُ أنَّ مُرادَه بالمَسْموعاتِ في حَقِّنا وهي الأصْواتُ، فيكونُ مُخالِفًا لطَريقةِ السَّنوسيِّ ومَن تَبِعَه، ويُحتَمَلُ أنَّ مُرادَه المَسْموعاتُ في حِقِّه تَعالى، وهي المَوْجوداتُ الأصْواتُ وغَيْرُها، فيكونُ مُوافِقًا لطَريقةِ السَّنوسيِّ، فيَسمَعُ سُبْحانَه وتَعالى كُلًّا مِن الأصْواتِ والذَّواتِ، بمَعْنى أنَّ كُلًّا مِنهما مُنكَشِفٌ للهِ بسَمْعِه، ويَجِبُ اعْتِقادُ أنَّ الانْكِشافَ بالسَّمْعِ غَيْرُ الانْكِشافِ بالبَصَرِ، وأنَّ كُلًّا مِنهما غَيْرُ الانْكشافِ بالعِلمِ، ولكلٍّ حَقيقةٌ يُفَوَّضُ عِلمُها للهِ تَعالى، وليس الأمْرُ على ما نَعهَدُه مِن أنَّ البَصَرَ يُفيدُ بالمُشاهَدةِ وُضوحًا فوقَ العِلمِ، بل جَميعُ صِفاتِه تامَّةٌ كامِلةٌ، يَسْتَحيلُ عليه الخَفاءُ والزِّيادةُ والنَّقْصُ إلى غَيْرِ ذلك...
البَصَرُ: صِفةٌ أزَليَّةٌ قائِمةٌ بذاتِه تَعالى تَتَعلَّقُ بالمَوْجوداتِ الذَّواتِ وغَيْرِها، كما هو طَريقةُ السَّنوسيِّ ومَن تَبِعَه، وقالَ السَّعْدُ: تَتَعلَّقُ بالمُبصَراتِ، فيُحتَمَلُ أنَّ مُرادَه المُبصَراتِ في حَقِّنا؛ وهي الذَّواتُ والألْوانُ، فيكونُ مُخالِفًا لطَريقةِ السَّنوسيِّ ومَن تَبِعَه، ويُحتَمَلُ أنَّ مُرادَه المُبصَراتُ في حَقِّه تَعالى؛ وهي المَوْجوداتُ الذَّواتُ وغَيْرُها، فيكونُ مُوافِقًا لطَريقةِ السَّنوسيِّ فيه، فيُبصِرُ سُبْحانَه وتَعالى جَميعَ المَوْجوداتِ حتَّى الأصْواتَ ولو خَفِيَّةً جِدًّا كدَبيبِ النَّمْلةِ السَّوداءِ في اللَّيلِ المُظلِمِ، بمَعْنى أنَّ ذلك مُنكَشِفٌ للهِ ببَصَرِهنَّ)
[453] ((تحفة المريد على جوهرة التوحيد)) (ص: 131) بتَصَرُّفٍ يسيرٍ. .
وقالَ الباجوريُّ عن صِفةِ السَّمْعِ والبَصَرِ والإدْراكِ: (هذه الصِّفاتُ الثَّلاثةُ مُتَّحِدةُ المُتَعلَّقِ، ولا يَلزَمُ مِن اتِّحادِ المُتَعلَّقِ اتِّحادُ الصِّفةِ، بلِ الصِّفةُ مُتَعَدِّدةٌ، وكلٌّ مِنها له حَقيقةٌ مِن الانْكشافِ ليست عَيْنَ حَقيقةِ غَيْرِه، لا يَعلَمُ تلك الحَقيقةَ إلَّا اللهُ تَعالى)
[454] ((تحفة المريد على جوهرة التوحيد)) (ص: 148). .
وقالَ أيضًا: (مِن صِفاتِه تَعالى: السَّمْعُ والبَصَرُ، وهُما صِفتانِ قائِمتانِ بذاتِه تَعالى يَتَعلَّقانِ بكلِّ مَوْجودٍ، أي: يَنكَشِفُ بِهما كلُّ مَوْجودٍ واجِبًا كانَ أو جائِزًا، فالسَّمْعُ والبَصَرُ يَتَعلَّقانِ بذاتِه تَعالى وصِفاتِه، أي إنَّ ذاتَه تَعالى وصِفاتِه مُنكَشِفةٌ له تَعالى بسَمْعِه وبَصَرِه زِيادةً على الانْكشافِ بعِلمِه. وزَيدٌ وعَمْرٌو والحائِطُ يَسمَعُ اللهُ تَعالى ذواتَها ويُبصِرُها، ويَسمَعُ صَوْتَ صاحِبِ الصَّوْتِ ويُبصِرُه، أي: الصَّوتَ، فإن قُلْتَ: سَماعُ الصَّوْتِ ظاهِرٌ، وأمَّا سَماعُ ذاتِ زَيدٍ وذاتِ الحائِطِ غَيْرُ ظاهِرٍ! وكذلك تَعلُّقُ البَصَرِ بالأصْواتِ؛ لأنَّ الأصْواتَ تُسمَعُ فقط! قُلْنا: يَجِبُ علينا الإيمانُ بأنَّهما مُتَعلِّقانِ بكلِّ مَوْجودٍ، وأمَّا كَيْفيَّةُ التَّعلُّقِ فهي مَجْهولةٌ لنا، فاللهُ تَعالى يَسمَعُ ذاتَ زَيدٍ، ولا نَعرِفُ كَيْفيَّةَ تَعَلُّقِ السَّمْعِ بها، وليس المُرادُ أنَّه يَسمَعُ مَشْيَ ذاتِ زَيدٍ؛ لأنَّ سَماعَ مَشْيِه داخِلٌ في سَماعِ الأصْواتِ، واللهُ تَعالى يَسمَعُ الأصْواتَ كلَّها، بلِ المُرادُ أنَّه يَسمَعُ ذاتَ زَيدٍ وجُثَّتَه زِيادةً على سَماعِ مَشْيِه مَثَلًا، لكن لا نَعرِفُ كَيْفيَّةَ تَعلُّقِ سَماعِ اللهِ تَعالى بنَفْسِ الذَّواتِ، وهذا ما كُلِّفَ به الشَّخْصُ مِن ذَكَرٍ وأنْثى، وباللهِ التَّوْفيقُ)
[455] ((تحقيق المقام على كفاية العوام فيما يجب عليهم من علم الكَلام)) (ص: 121). .
3- قالَ الصَّاويُّ عن صِفةِ السَّمْعِ: (صِفةٌ أزَليَّةٌ قائِمةٌ بذاتِه تَعالى، تَتَعلَّقُ بجَميعِ المَوْجوداتِ تَعلُّقَ إحاطةٍ وانْكِشافٍ، وهذا هو التَّحْقيقُ عنْدَ السَّنوسيِّ و
الأشْعَريِّ، لا بالمَسْموعاتِ فقط خِلافًا للسَّعْدِ، وكذا البَصَرُ الحَقُّ أنَّ تَعلُّقَه بالمَوْجوداتِ لا بالمُبصَراتِ، فيَسمَعُ الأصْواتَ ولو خَفِيَّةً جِدًّا، ويُبصِرُ الأشْياءَ ولو دَقيقةً)
[456] ((شرح العلامة الصاوي على جوهرة التوحيد)) (ص: 186) باختِصارٍ. .
فتَبَيَّنَ بهذه النُّقولِ أنَّ
الأشاعِرةَ المُتَأخِّرينَ لا يُثبِتونَ مَعْنى السَّمْعِ والبَصَرِ كما يُثبِتُه السَّلَفُ، وكما هو المُتَبادِرُ إلى عامَّةِ النَّاسِ مِن أنَّ اللهَ يَسمَعُ كلَّ صَوْتٍ حادِثٍ، ويَرى كلَّ مَوْجودٍ، بل يَقولونَ: هما صِفةٌ ذاتِيَّةٌ أزَليَّةٌ، واللهُ سُبْحانَه يَسمَعُ الأصْواتَ والذَّواتِ، ويُبصِرُ الذَّواتَ والأصْواتَ، وأنَّ ذلك بمَعْنى الانْكِشافِ، ولعَدَمِ وُضوحِ مَعْنى هاتَينِ الصِّفتَينِ عنْدَ
الأشاعِرةِ المُتَأخِّرينَ الَّذين تَأثَّروا بشُبُهاتِ
الجَهْميَّةِ و
المُعْتَزِلةِ والفَلاسِفةِ، فقدْ فَوَّضَ بعضُهم مَعْنى صِفتَيِ السَّمْعِ والبَصَرِ اللَّتَينِ يَعلَمُهما العَجائِزُ والأطْفالُ، وهكذا يَفعَلُ عِلمُ الكَلامِ بأصْحابِه، فصاروا إلى خِلافِ ما أَخبَرَ اللهُ به في كِتابِه، واللهُ المُسْتعانُ!
ف
الأشاعِرةُ المُتَأخِّرونَ فَسَّروا صِفتَيِ السَّمْعِ والبَصَرِ بالإدْراكِ، ثُمَّ جَعَلوا صِفتَيِ السَّمْعِ والبَصَرِ ثابِتتَينِ في العَدَمِ، ثُمَّ قالوا: إنَّهما لا تَتَعلَّقانِ إلَّا بالمَوْجودِ، وجَعَلوا تَعَلُّقَهما بالمَوْجودِ عَدَمًا مَحْضًا، وقالوا: إنَّ اللهَ يَسمَعُ الذَّواتِ نَفْسَها، ويُبصِرُ الأصْواتَ نَفْسَها، وهذه أقْوالٌ فاسِدةٌ
[457] يُنظر: ((حاشية العدوي على كفاية الطالب الرباني)) (1/ 55)، ((حاشية العطار على شرح الجلال المحلي على جمع الجوامع)) (2/ 458)، ((تحقيق المقام على كفاية العوام فيما يجب عليهم من علم الكَلام)) للباجوري (ص: 121 - 126)، ((موقف ابن تَيْمِيَّةَ من الأشاعِرة)) للمحمود (3/ 1062 - 1066). !
قالَ
ابنُ تَيْمِيَّةَ: (السَّمْعُ والبَصَرُ يُطلَقُ بمَعْنى ما به يُسمَعُ ويُبصَرُ، وليس اللهُ عنْدَهم سَميعًا بَصيرًا بِهذا الاعْتِبارِ، وإن كانَ أهْلُ الإثْباتِ يَقولونَ بذلك، وإنَّما هو عنْدَهم مُجَرَّدُ الإدْراكِ فقط! فكيف يُقالُ: كانَ ثابِتًا في العَدَمِ غَيْرَ مُتَعلِّقٍ، وأنَّه لا يَتَعلَّقُ إلَّا بالمَوْجودِ، وأنَّ تَعلُّقَه بالمَوْجودِ عَدَمٌ مَحْضٌ؟! هذه أقْوالٌ مَعْلومةُ الفَسادِ بالضَّرورةِ)
[458] ((التسعينية)) (3/ 779). .
وقالَ أيضًا: (قد دَلَّ الكِتابُ والسُّنَّةُ واتِّفاقُ سَلَفِ الأُمَّةِ ودَلائِلُ العَقْلِ على أنَّه سَميعٌ بَصيرٌ، والسَّمْعُ والبَصَرُ لا يَتَعلَّقُ بالمَعْدومِ، فإذا خَلَقَ الأشْياءَ رآها سُبْحانَه، وإذا دَعاه عِبادُه سَمِعَ دُعاءَهم وسَمِعَ نَجْواهم، كما قالَ تَعالى:
قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا [المجادلة: 1] أي: تَشْتَكي إليه، وهو يَسمَعُ التَّحاوُرَ، والتَّحاوُرُ تَراجُعُ الكَلامِ بَيْنَها وبَيْنَ الرَّسولِ، قالَتْ
عائِشةُ: (سُبْحانَ الَّذي وَسِعَ سَمْعُه الأصْواتَ! لقد كانَتِ المُجادِلةُ تَشْتَكي إلى النَّبِيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في جانِبِ البَيْتِ، وإنه ليخْفى عليَّ بَعْضُ كَلامِها، فأَنزَلَ اللهُ:
قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا [المجادلة: 1] )، وكما قالَ تَعالى لموسى وهارونَ:
لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى [طه: 46] ، وقالَ:
أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ [الزخرف: 80] )
[459] ((الرد على المنطقيين)) (ص: 465). .
وقالَ
ابنُ تَيْمِيَّةَ: (العَقْلُ الصَّريحُ يَدُلُّ على ذلك؛ فإنَّ المَعْدومَ لا يَرى ولا يَسمَعُ بصَريحِ العَقْلِ واتِّفاقِ العُقَلاءِ...، فإذا خَلَقَ العِبادَ وعَمِلوا وقالوا؛ فإمَّا أن نَقولَ: إنَّه يَسمَعُ أقْوالَهم ويَرى أعْمالَهم، وإمَّا لا يَرى ولا يَسمَعُ، فإنَّ نَفْيَ ذلك تَعْطيلٌ لهاتَينِ الصِّفتَينِ، وتَكْذيبٌ للقُرْآنِ، وهُما صِفتا كَمالٍ لا نَقْصَ فيه، فمَن يَسمَعُ ويُبصِرُ أَكمَلُ ممَّن لا يَسمَعُ ولا يُبصِرُ، والمَخْلوقُ يَتَّصِفُ بأنَّه يَسمَعُ ويُبصِرُ، فيَمْتنِعُ اتِّصافُ المَخْلوقِ بصِفاتِ الكَمالِ دونَ الخالِقِ سُبْحانَه وتَعالى! وقد عابَ اللهُ تَعالى مَن يَعبُدُ مَن لا يَسمَعُ ولا يُبصِرُ في غَيْرِ مَوضِعٍ؛ ولأنَّه حَيٌّ، والحَيُّ إذا لم يَتَّصِفْ بالسَّمْعِ والبَصَرِ اتَّصَفَ بضِدِّ ذلك، وهو العَمى والصَّمَمُ، وذلك مُمْتنِعٌ...، إذا كانَ يَسمَعُ ويُبصِرُ الأقْوالَ والأعْمالَ بَعْدَ أن وُجِدَتْ فإمَّا أن يُقالَ: إنَّه تَجَدُّدُ شيءٍ، وإمَّا أن يُقالَ: لم يَتَجَدَّدْ شيءٌ، فإن كانَ لم يَتَجَدَّدْ، وكانَ لا يَسمَعُها ولا يُبصِرُها، فهو بَعْدَ أن خَلَقَها لا يَسمَعُها ولا يُبصِرُها! وإن تَجَدَّدَ شيءٌ؛ فإمَّا أن يكونَ وُجودًا أو عَدَمًا، فإن كانَ عَدَمًا فلم يَتَجَدَّدْ شيءٌ، وإن كانَ وُجودًا فإمَّا أن يكونَ قائِمًا بذاتِ اللهِ أو قائِمًا بذاتِ غَيْرِه، والثَّاني يَسْتَلْزِمُ أن يكونَ ذلك الغَيْرُ هو الَّذي يَسمَعُ ويَرى، فيَتَعيَّنُ أنَّ ذلك السَّمْعَ والرُّؤْيةَ المَوْجودَينِ قائِمٌ بذاتِ اللهِ، وهذا لا حيلةَ فيه. والكُلَّابيَّةُ يَقولونَ في جَميعِ هذا البابِ: المُتَجَدِّدُ هو تَعلُّقٌ بَيْنَ الأمْرِ والمَأمورِ، وبَيْنَ الإرادةِ والمُرادِ، وبَيْنَ السَّمْعِ والبَصَرِ، والمَسْموعِ والمَرْئِيِّ، فيُقالُ لهم: هذا التَّعلُّقُ إمَّا أن يكونَ وُجودًا، وإمَّا أن يكونَ عَدَمًا، فإن كانَ عَدَمًا فلم يَتَجَدَّدْ شيءٌ، فإنَّ العَدَمَ لا شيءَ، وإن كانَ وُجودًا بَطَلَ قَوْلُهم. وأيضًا فحُدوثُ تَعلُّقٍ هو نِسْبةٌ وإضافةٌ مِن غَيْرِ حُدوثِ ما يوجِبُ ذلك مُمْتَنِعٌ، فلا يَحدُثُ نِسْبةٌ وإضافةٌ إلَّا بحُدوثِ أمْرٍ وُجودِيٍّ يَقْتَضي ذلك، وطائِفةٌ -مِنهم
ابنُ عَقيلٍ- يُسَمُّونَ هذه النِّسَبَ أحْوالًا، والطَّوائِفُ مُتَّفِقونَ على حُدوثِ نِسَبٍ وإضافاتٍ وتَعَلُّقاتٍ، لكنَّ حُدوثَ النِّسَبِ بدونِ حُدوثِ ما يوجِبُها مُمْتَنِعٌ، فلا تكونُ نِسْبةٌ وإضافةٌ إلَّا تابِعةً لصِفةٍ ثُبوتيَّةٍ، كالأُبُوَّةِ والبُنُوَّةِ والفَوْقيَّةِ والتَّحْتيَّةِ والتَّيامُنِ والتَّياسُرِ؛ فإنَّها لا بُدَّ أن تَسْتَلْزِمَ أمورًا ثُبُوتيَّةً)
[460] ((جامع الرسائل لابن تَيْمِيَّةَ)) (2/ 17). .