المبحَثُ الرَّابعُ: العِصمةُ
ثَمَّةَ تَشابُهٌ في شَأنِ العِصمةِ لدى الصُّوفيَّةِ، مَعَ المُعتَقَدِ الشِّيعيِّ.
فالشِّيعةُ الذينَ جَعَلوا أئِمَّتَهم كالأنبياءِ قالوا: (إنَّ الإمامَ يَجِبُ أن يَكونَ مَعصومًا)
[142] يُنظر: ((منهاج الكرامة)) للحلي (ص: 71) المنشور مع ((منهاج السنة النبوية)) لابن تيمية، ((تلخيص الشافي)) للطوسي (1/ 181). .
وقال ابنُ بابَوَيهِ القُمِّيُّ المُلقَّبُ بالصَّدوقِ عِندَ الشِّيعةِ: (اعتِقادُنا في الأنبياءِ والرُّسُلِ والأئِمَّةِ والمَلائِكةِ عليهمُ السَّلامُ أنَّهم مَعصومونَ مُطَهَّرونَ من كُلِّ دَنَسٍ، وأنَّهم لا يُذنِبونَ ذَنَبًا صَغيرًا ولا كَبيرًا، ولا يَعصونَ ما أمَرَهم، ويَفعَلونَ ما يُؤمَرونَ، ومَن نَفى عنهمُ العِصمةَ في شَيءٍ من أحوالِهم فقد جَهِلَهم، ومَن جَهِلَهم فهو كافِرٌ، واعتِقادُنا فيهم أنَّهم مَعصومونَ مَوصوفونَ بالكَمالِ والتَّمامِ والعِلمِ مِن أوائِلِ أمورِهم وأواخِرِها، لا يوصَفونَ في شَيءٍ من أحوالِهم بنَقصٍ ولا عِصيانٍ ولا جَهلٍ)
[143] ((اعتقادات الصدوق)) (ص: 108). .
وقال باقِرٌ المَجلِسيُّ: (الشَّرطُ الثَّاني في الإمامِ أن يَكونَ مَعصومًا، وإجماعُ الإماميَّةِ مُنعَقِدٌ على أنَّ الإمامَ مِثلُ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وآلِه، مَعصومٌ من أوَّلِ عُمُرِه إلى آخِرِ عُمُرِه من جَميعِ الذُّنوبِ الصَّغائِرِ والكَبائِرِ، والأحاديثُ المُتَواتِرةُ على هذا المَضمونِ وارِدةٌ)
[144] ((حق اليقين)) (ص: 39). .
ورَوَوا في هذا الشَّأنِ رِواياتٍ مَكذوبةً على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وعلى عليٍّ رَضِيَ اللهُ عنه وذُرِّيَّتِه.
وأمَّا الصُّوفيَّةُ فقد قال ابنُ عَرَبيٍّ: (إنَّ من شَرطِ الإمامِ الباطِنِ «يَعني الوليَّ» أن يَكونَ مَعصومًا)
[145] ((الفتوحات المكية)) (3/ 183). .
وقالوا: (ومِن شَرطِ الوليِّ أن يَكونَ مَحفوظًا، كما أنَّ من شَرطِ النَّبيِّ أن يَكونَ مَعصومًا)
[146] يُنظر: ((الرسالة)) للقشيري (2/ 521)، ((روضة التعريف)) لابن الخطيب (ص: 521)، ((مواقع النجوم)) لابن عربي (ص: 80). .
وقال بَعضُهم: (لطائِفُ اللَّهِ في عِصمةِ أنبيائِه وحِفظِ أوليائِه أكثَرُ من أن تَقَعَ تَحتَ الإحصاءِ والعَدِّ)
[147] ((التعرف)) للكلاباذي (ص: 155). .
وقال القُشَيريُّ: (الوليُّ له مَعنَيانِ: أحَدُهما: فَعيلٌ بمَعنى مَفعولٍ، وهو مَن يَتَولَّى اللهُ سُبحانَه وتعالى أمرَه، قال تعالى:
وَهُوَ يَتَولَّى الصَّالِحِينَ [الأعراف: 196] ، فلا يَكِلُه إلى نَفسِه لحظةً، بل يَتَولَّى الحَقُّ سُبحانَه رِعايَتَه. والثَّاني: فَعيلٌ مُبالغةً منَ الفاعِلِ، وهو الذي يَتَولَّى عِبادةَ اللهِ وطاعَتَه، فعِبادَتُه تَجري على التَّوالي، من غَيرِ أن يَتَخَلَّلَها عِصيانٌ. وكِلَا الوصفينِ واجِبٌ حتَّى يَكونَ الوليُّ وليًّا: يَجِبُ قيامُه بحُقوقِ اللهِ تعالى على الاستِقصاءِ والاستيفاءِ، ودَوامُ حِفظِ اللَّهِ تعالى إيَّاه في السَّرَّاءِ والضَّرَّاءِ)
[148] ((الرسالة القشيرية)) (2/520). .
وقال أيضًا: (فإن قيلَ: ما مَعنى الوليِّ؟ قيل: يَحتَمِلُ أمرَينِ: أحَدُهما أن يَكونَ فعيلًا مُبالغةً منَ الفاعِلِ، كالعليمِ والقديرِ وغَيرِه، فيَكونُ مَعناه: مَن تَوالت طاعاتُه من غَيرِ تَخَلُّلِ مَعصيةٍ.
ويَجوزُ أن يَكونَ فعيلًا بمَعنى مَفعولٍ، كَقَتيلٍ بمَعنى مَقتولٍ، وجَريحٍ بمَعنى مَجروحٍ، وهو الذي يَتَولَّى الحَقُّ سُبحانَه حِفظَه وحِراسَتَه على الإدامةِ والتَّوالي، فلا يَخلُقُ له الخِذلانَ الذي هو قُدرةُ العِصيانِ، وإنَّما يُديمُ تَوفيقَه الذي هو قُدرةُ الطَّاعةِ؛ قال اللهُ تعالى:
وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ [الأعراف: 196] )
[149] ((الرسالة القشيرية)) (2/ 664، 665). .
قال ابنُ تيميَّةَ في هذا البابِ عنِ الشِّيعةِ ومَن تَبعَهم في ذلك منَ المُتَصَوِّفةِ: (وكذلك الرَّافِضةُ مَوصوفونَ بالغُلوِّ عِندَ الأمَّةِ؛ فإنَّ فيهم مَنِ ادَّعى الإلهيَّةَ في عليٍّ، وهؤلاء شَرٌّ منَ النَّصارى، وفيهم مَنِ ادَّعى النُّبوَّةَ فيه، ومَن أثبَتَ نَبيًّا بَعدَ مُحَمَّدٍ فهو شَبيهٌ بأتباعِ مُسَيلِمةَ الكَذَّابِ وأمثالِه منَ المُتَنَبِّئينَ، إلَّا أنَّ عليًّا رَضِيَ اللهُ عنه بَريءٌ من هذه الدَّعوةِ، بخِلافِ مَنِ ادَّعى النُّبوَّةَ لنَفسِه كمُسَيلِمةَ وأمثالِه. وهؤلاء الإماميَّةُ يَدَّعونَ ثُبوتَ إمامَتِه بالنَّصِّ وأنَّه كان مَعصومًا هو وكَثيرٌ من ذُرِّيَّتِه، وأنَّ القَومَ ظَلموه وغَصَبوه، ودَعوى العِصمةِ تُضاهي المُشارَكةَ في النُّبوَّةِ؛ فإنَّ المَعصومَ يَجِبُ اتِّباعُه في كُلِّ ما يَقولُ، لا يَجوزُ أن يُخالَفَ في شَيءٍ، وهذه خاصَّةُ الأنبياءِ؛ ولهذا أُمِرنا أن نُؤمنَ بما أُنزِلَ إليهم، فقال تعالى:
قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [البقرة: 136] ، فأُمرنا أن نقولَ: آمَنَّا بما أوتيَ النَّبيُّون، وقال تعالى:
آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ [البقرة: 285] ، وقال تعالى:
وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ [البقرة: 177] ، فالإيمانُ بما جاءَ به النَّبيُّونَ ممَّا أُمِرنا أن نَقولَه ونُؤمِنَ به، وهذا ممَّا اتَّفقَ عليه المُسلِمونَ؛ أنَّه يَجِبُ الإيمانُ بكُلِّ نَبيٍّ، ومَن كَفرَ بنَبيٍّ واحِدٍ فهو كافِرٌ، ومَن سَبَّه وجَبَ قَتلُه باتِّفاقِ العُلماءِ، وليس كذلك مَن سِوى الأنبياءِ سَواءٌ سُمُّوا أولياءَ أو أئِمَّةً أو حُكَماءَ أو عُلَماءَ أو غَيرَ ذلك، فمن جَعَل بَعدَ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مَعصومًا يَجِبُ الإيمانُ بكُلِّ ما يَقولُ فقد أعطاه مَعنى النُّبوَّةِ، وإن لم يُعطِه لفظَها، ويُقالُ لهذا: ما الفرقُ بَينَ هذا وبَينَ أنبياءِ بَني إسرائيلَ الذينَ كانوا مَأمورينَ باتِّباعِ شَريعةِ التَّوراةِ؟ وكَثيرٌ منَ الغُلاةِ في المَشايِخِ يَعتَقِدُ أحَدُهم في شَيخِه نَحوَ ذلك، ويَقولونَ: الشَّيخُ مَحفوظٌ، ويَأمُرونَ باتِّباعِ الشَّيخِ في كُلِّ ما يَفعَلُ لا يُخالَفُ في شَيءٍ أصلًا، وهذا من جِنسِ غُلوِّ الرَّافِضةِ والنَّصارى والإسماعيليَّةِ: تَدَّعي في أئِمَّتِها أنَّهم كانوا مَعصومينَ. وأصحابُ ابنِ تُومَرتَ الذي ادَّعى أنَّه المَهديُّ يَقولونَ: إنَّه مَعصومٌ، ويَقولونَ في خُطبةِ الجُمعةِ: الإمامُ المَعصومُ والمَهديُّ المَعلومُ، ويُقالُ: إنَّهم قَتَلوا بَعضَ مَن أنكَر أن يَكونَ مَعصومًا، ومَعلومٌ أنَّ كُلَّ هذه الأقوالِ مُخالِفةٌ لدينِ الإسلامِ؛ للكِتابِ والسُّنَّةِ وإجماعِ سَلَفِ الأمَّةِ وأئِمَّتِها؛ فإنَّ اللهَ تعالى يقولُ:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا [النساء: 59] الآية. فلم يَأمُرْنا بالرَّدِّ عِندَ التَّنازُعِ إلَّا إلى اللهِ والرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فمَن أثبَتَ شَخصًا مَعصومًا غَيرَ الرَّسولِ أوجَبَ رَدَّ ما تَنازَعوا فيه إليه؛ لأنَّه لا يَقولُ عِندَه إلَّا الحَقَّ كالرَّسولِ، وهذا خِلافُ القُرآنِ، وأيضًا فإنَّ المَعصومَ تَجِبُ طاعَتُه مُطلَقًا بلا قَيدٍ، ومُخالِفُه يَستَحِقُّ الوعيدَ، والقُرآنُ إنَّما أثبَتَ هذا في حَقِّ الرَّسولِ خاصَّةً؛ قال تعالى:
وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا [النساء: 69] ، وقال:
وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا [الجن: 23] ؛ فدَلَّ القُرآنُ في غَيرِ مَوضِعٍ على أنَّ مَن أطاعَ الرَّسولَ كان مِن أهلِ السَّعادةِ، ولم يَشتَرِطْ في ذلك طاعةَ مَعصومٍ آخَرَ، ومَن عَصى الرَّسولَ كان مِن أهلِ الوعيدِ، وإن قُدِّرَ أنَّه أطاعَ من ظَنَّ أنَّه مَعصومٌ؛ فالرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم هو الذي فرَّقَ اللهُ به بَينَ أهلِ الجَنَّةِ وأهلِ النَّارِ، وبَينَ الأبرارِ والفُجَّارِ، وبَينَ الحَقِّ والباطِلِ، وبَينَ الغَيِّ والرَّشادِ، والهدى والضَّلالِ، وجَعله القَسيمَ الذي قَسَّمَ به عِبادَه إلى شَقِيٍّ وسَعيدٍ، فمَنِ اتَّبَعَه فهو السَّعيدُ، ومَن خالفه فهو الشَّقيُّ، وليست هذه المَرتَبةُ لغَيرِه؛ ولهذا اتَّفقَ أهلُ العِلمِ أهلُ الكِتابِ والسُّنَّةِ على أنَّ كُلَّ شَخصٍ سِوى الرَّسولِ فإنَّه يُؤخَذُ من قَولِه ويُترَكُ إلَّا رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ فإنَّه يَجِبُ تَصديقُه في كُلِّ ما أخبَرَ وطاعَتُه في كُلِّ ما أمَرَ؛ فإنَّه المَعصومُ الذي لا يَنطِقُ عنِ الهَوى، إنْ هو إلَّا وَحيٌ يُوحى)
[150] ((منهاج السنة النبوية)) (6/ 174، 175). .