المَطلَبُ الأوَّلُ: تـحذيرُ الرِّفاعيِّ أتباعَه منَ الكَذِبِ عليه
قال الرِّفاعيُّ: (لا تَسُبُّوني مِن بَعدي. فيَقولونَ: كَيف نَسُبُّك وأنتَ إمامُنا وقُدوتُنا؟! قال: تَقولونَ عَليَّ قَولًا لم أقُلْه، وتَفعَلونَ أمرًا لم أفعَلْه، فيَراكُمُ النَّاسُ ويَسمَعونَكُم، فيَقولونَ: لولا أنَّهم رَأوا شَيخَهم، ولولا أنَّهم سَمِعوا شَيخَهم ما قالوا ولا فعَلوا)
[846] يُنظر:((الفجر المنير)) لأبي الهدى الصيادي (ص: 70). .
والذينَ غَلَوا في الرِّفاعيِّ هم أنفُسهمُ الذينَ رَوَوا عنه أنَّه كان يَنهى عنِ الغُلوِّ والشَّطحِ، ويَقولُ بأنَّ ذلك زَندَقةٌ بشَكلِ تَصَوُّفٍ!
قال الرِّفاعيُّ: (إنَّنا ما رَأينا من عَواقِبِ أهلِ الغُلوِّ إلَّا أنَّهم ضَلُّوا وأضَلُّوا، وما رَأينا من عَواقِبِ التَّشَرُّعِ -يَعني الاستِقامةَ على الشَّريعةِ ومُلازَمةَ السُّنَّةِ- إلَّا السَّلامةَ)
[847] يُنظر: ((المعارف المحمدية)) لأبي الهدى الصيادي (ص: 42). .
وثَمَّةَ جانِبٌ مُهمٌّ، وهو أنَّ الرِّفاعيَّ لم يَكُنْ خافيًا عليه ما يَنسُبُه المُتَصَوِّفةُ إلى مَشايِخِهم وأسيادِهم، وقد حَذَّرَ أتباعَه ممَّا عَهِدَه عنِ المُتَصَوِّفةِ منَ الكَذِبِ على مَشايِخِهم، حتَّى قال: (احذَرِ الفِرقةَ التي دَأبُها تَأويلُ كَلماتِ الأكابرِ والتَّفكُّهُ بحِكاياتٍ وما نُسِبَ إليهم؛ فإنَّ أكثَرَ ذلك مَكذوبٌ عليهم. وما كان ذلك إلَّا من عِقابِ اللهِ للخَلقِ لَمَّا جَهِلوا الحَقَّ، فابتَلاهمُ اللهُ بأناسٍ من ذَوي الجُرأةِ السُّفَهاءِ... وسَلَّطَ أيضًا أناسًا من أهلِ البدعةِ والضَّلالةِ، فكَذَبوا على القَومِ وأكابرِ الرِّجالِ وأدخَلوا في كَلامِهم ما ليس منه؛ فتَبعَهمُ البَعضُ فأُلحِقوا بالأخسَرينَ أعمالًا)
[848] يُنظر: ((قلادة الجواهر)) لأبي الهدى الصيادي (ص: 147). .
هذه شَهادةٌ منَ الرِّفاعيِّ نَفسِه تَناقَلتْها كُتُبُ الرِّفاعيَّةِ من بَعدِه!
ولكِن هل يوافِقُ الرِّفاعيُّون شَيخَهم بأنَّ كُلَّ بدعةٍ ضَلالةٌ؟ وهل يُتابعونَ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في أقوالِهم وأفعالِهم وسُلوكِهم؟!
قال الذَّهَبيُّ: (أصحابُه فيهمُ الجَيِّدُوالرَّديءُ، وقد كَثُرَ الزَّغلُ فيهم وتَجَدَّدَت لهم أحوالٌ شَيطانيَّةٌ مُنذُ أخَذَتِ التَّتارُ العِراقَ من دُخول النِّيرانِ ورُكوبِ السِّباعِ واللَّعِبِ بالحَيَّاتِ، وهذا ما عَرَفه الشَّيخُ ولا صُلحاءُ أصحابِه)
[849] ((العبر في خبر من غبر)) (3/ 75). .
وقال لأحَدِ تَلاميذِه: (يا بُنيَّ، إذا نَظَرتَ في القَومِ الذينَ ادَّعَوا التَّصَوُّفَ اليَومَ وجَدتَ أنَّ أكثَرَهم منَ الزَّنادِقةِ الحَروريَّةِ والمُبتَدِعةِ، ورَأيتَهم أكثَرَ النَّاسِ جهلًا وحُمقًا، وأشَدَّهم مكرًا وخَديعةً، وأعظَمَهم عُجبًا وتَطاوُلًا، وأسوأَهم ظَنًّا بأهلِ الزُّهدِ والتَّقوى)
[850] ((حالة أهل الحقيقة مع الله)) (ص: 105). .
وكان يَعيبُ على الصُّوفيَّةِ مَوقِفَهم منَ العُلماءِ وتَذَمُّرَهم من إنكارِهمُ الدَّائِمِ عليهم قائِلًا: (قُلْ يا أخي للمَساكينِ المَحجوبينَ منَ الصُّوفيَّةِ: ما تُريدونَ أنَّ يوجَدَ في قُطرِكُم هذا الرَّجُلُ العالمُ يَدفعُ شُبَهَ المُلحِدينَ وأهلِ البدَعِ والزَّيغِ بالحُجَجِ الظَّاهرةِ؟!)
[851] يُنظر: ((المعارف المحمدية)) لأبي الهدى الصيادي (ص: 79). .
ويُستَفادُ من هذا النَّهيِ عنِ انتِهاجِ منهجِ الصُّوفيَّةِ المُتَّسِمِ بالغُلوِّ ما يَلي:
1- اعتِرافُه بمادَّةِ الغُلوِّ التي عُرِفَت عِندَ الصُّوفيَّةِ.
2- اعتِرافُه بكَثرةِ كَذِبِهم على مَشايِخِهم وأئِمَّتِهم.
3- اعتِرافُه بأنَّ أكثَرَهم منَ الزَّنادِقةِ المُبتَدِعةِ الذينَ يَتَسَتَّرونَ بالزُّهدِ والتَّذَلُّلِ والانكِسارِ ويُبطِنونَ العُجبَ والتَّطاوُلَ على حَدِّ قَولِه.
4- اعتِرافُه بكَثرةِ إنكارِ العُلماءِ عليهم، وليس ذلك إلَّا لسُهولةِ انتِشارِ البدَعِ والمُخالَفاتِ الشَّرعيَّةِ بَينَهم.
ومَوقِفُ الرِّفاعيِّ منَ البدعةِ لا يَتَّفِقُ ومَوقِفَ أتباعِه منها، ويَتَجَلَّى ذلك في قَولِه: (لو عَبَدَ العابدُ رَبَّه خَمسَمِائةِ عامٍ بطَريقةٍ غَيرِ شَرعيَّةٍ، فعِبادَتُه راجِعةٌ إليه، ووِزرُه عليه، ولا يُقيمُ اللهُ له يَومَ القيامةِ وزنًا، ورَكعَتانِ من فقيهٍ في دينِه أفضَلُ عِندَ اللهِ من ألفَيْ رَكعةٍ من فقيرٍ جاهلٍ في دينِه!)
[852] ((البرهان المؤيد)) (ص: 4)، ((حالة أهل الحقيقة مع الله)) (ص: 4). .
وقَولُه: (اطلُبوا اللهَ بمُتابَعةِ رَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وإيَّاكُم وسُلوكَ طَريقِ الهدى بالنَّفسِ والهَوى)
[853] ((البرهان المؤيد)) (ص: 21). .
وقال الرِّفاعيُّ: (ما تَهاونَ قَومٌ بالسُّنَّةِ وأهمَلوا قَمعَ البِدعةِ إلَّا سَلَّطَ اللهُ عليهمُ العَدوَّ... وما انتَصَرَ قَومٌ للسُّنَّةِ وقَمَعوا البِدعةَ وأهلَها إلَّا ورَزَقَهم هَيبةً مِن عِندِه ونَصَرَهم وأصلحَ شَأنَهم)
[854] ((البرهان المؤيد)) (ص: 3، 10- 11، 20، 57، 65). .
وأنكَر أحمَدُ الرِّفاعيُّ ما قاله الحَلَّاجُ، ونَفى أن يَكونَ وليًّا أو واصلًا؛ حَيثُ قال: (أي سادةُ، تَفرَّقَتِ الطَّوائِفُ شيعًا، وأحمَدُ «يَعني نَفسَه» بَقيَ مَعَ أهلِ الذُّلِّ والانكِسارِ والمَسكَنةِ والاضطِرارِ، إيَّاكُم والكَذِبَ على اللهِ
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا [الأنعام: 21] . يَنقُلونَ عنِ الحَلَّاجِ أنَّه قال: أنا الحَقُّ. أخطَأ بوهمِه، لو كان على الحَقِّ ما قال: أنا الحَقُّ، يَذكُرونَ له شِعرًا يوهمُ الوَحدةَ، كُلُّ ذلك ومِثلُه باطِلٌ، ما أراه رجُلًا واصِلًا أبدًا، ما أراه شَرِب، ما أراه حَضَر، ما أراه سَمِع إلَّا رَنَّةً وطنينًا، فأخَذَهمُ الوَهمُ من حالٍ إلى حالٍ، وما زادَ قربًا ولم يَزدَدْ خوفًا فهو مَمكورٌ. إيَّاكُم والقَولَ بهذه الأقاويلِ، إنْ هي إلَّا أباطيلُ)
[855] ((البرهان المؤيد)) (ص: 26). .
واستَطرَدَ الرِّفاعيُّ أيضًا مبيِّنًا أنَّ حالَ الأولياءِ الصَّادِقينَ لا تَكونُ كَحالِ فِرعَون الذي قال:
أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى [النازعات: 24] . وليست كذلك كحالِ نُمرودَ الذي قال:
أَنَا أُحْيِـي وَأُمِيتُ [البقرة: 258] ، فقال: (دَرَجَ السَّلَفُ على الحُدودِ بلا تَجاوُزٍ. باللهِ عَليكُم هل يَتَجاوزُ الحَدَّ إلَّا الجاهِلُ؟ وهل يَدوسُ عَنوةً في الجُبِّ إلَّا الأعمى! ما هذا التَّطاوُلُ! وذلك التَّطاوُلُ ساقِطٌ بالجوعِ، ساقِطٌ بالعَطَشِ، ساقِطٌ بالنَّومِ، ساقِطٌ بالوجَعِ، ساقِطٌ بالفاقةِ، ساقِطٌ بالهَرَمِ، ساقِطٌ بالعناءِ. أينَ هذا التَّطاوُلُ من صَدمةِ صَوتِ
لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ [غافِر: 16] . العَبدُ مَتى تَجاوزَ حَدَّه مَعَ إخوانِه يُعَدُّ في الحَضرةِ ناقصًا. التَّجاوُزُ عِلمٌ ناقِصٌ يُنشَرُ على رَأسِ صاحِبِه يَشهَدُ عليه بالغَفلةِ، يَشهَدُ عليه بالزَّهوِ، يَشهَدُ عليه بالحِجابِ. يَتَحَدَّثُ القَومُ بالنِّعَمِ، لكِنْ مَعَ مُلاحَظةِ الحُدودِ الشَّرعيَّةِ. الحُقوقُ الإلهيَّةُ تَطلُبُهم في كُلِّ قَولٍ وفِعلٍ. الوِلايةُ ليست بفِرعَونيَّةٍ ولا بنُمروديَّةٍ، قال فِرعَونُ:
أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى [النازعات: 24] . وقال قائِدُ الأولياءِ وسَيِّدُ الأنبياءِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((لستُ بمَلِكٍ)) [856] أخرجه ابن ماجه (3312)، والدارقطني في ((العلل)) (6/195)، والخطيب في ((تاريخ بغداد)) (6/277) من حديثِ أبي مسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه. قال ابنُ ماجه: إسماعيل وحدَه وَصَله، وقال الدارقطني كما في ((تاريخ بغداد)) للخطيب البغدادي (6/275): رُوي موصولًا وهو وَهمٌ، والصَّوابُ أنَّه مُرسَلٌ. وقال الوادعي في ((أحاديث معلة)) (305): وصلُه شاذٌّ. نَزَعَ ثَوبَ التَّعالي والإمرةِ والفوقيَّةِ. كَيف يَتَجَرَّأُ على ذلك العارِفونَ، واللهُ يَقولُ:
وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ [يس: 59] ؟ وَصفُ الافتقارِ إلى اللهِ وصفُ المؤمِنين، قال تعالى:
يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ [فاطر:15] ، هذا الذي أقولُه عِلمُ القَومِ. تَعلَّموا هذا العِلمَ؛ فإنَّ جَذَباتِ الرَّحمَنِ في هذا الزَّمانِ قَلَّت. اصرِفوا الشَّكوى إلى اللهِ في كُلِّ أمرٍ. العاقِلُ لا يَشكو لا إلى مَلِكٍ ولا إلى سُلطانٍ. العاقِلُ كُلُّ أعمالِه للَّهِ)
[857] ((البرهان المؤيد)) (ص: 26). .