المطلَبُ الأوَّلُ: مَذهَبُ الماتُريديَّةِ في القُدرةِ والاستطاعةِ
الاستطاعةُ والطَّاقةُ والقُدرةُ والوُسعُ: ألفاظٌ متقاربةُ المعنى، وضِدُّها العَجزُ، عرَّفها المُتكلِّمون بأنَّها: (صفةٌ وجوديَّةٌ يتأتَّى معها الفِعلُ بدَلًا عن التَّركِ، والتَّركُ بَدَلًا عن الفِعلِ)
[623] يُنظر: ((المواقف)) للإيجي (2/229). ويُنظر: ((المبين في شرح ألفاظ الحكماء والمتكلمين)) للآمدي (ص: 127)، ((التعريفات)) للجرجاني (ص: 35). .
ومسألةُ الاستطاعةِ أو القُدرةِ من المسائِلِ التي وقع فيها الخلافُ بَينَ الفِرَقِ الإسلاميَّةِ تبعًا للخلافِ الواقِعِ في القَدَرِ؛ فالذين قالوا بالجَبرِ -وهم
الجَهْميَّةُ ومن وافقهم- قالوا بنفيِ الاستطاعةِ، لا مع الفِعلِ ولا قَبْلَه؛ وذلك لأنَّ العبدَ عِندَهم لا اختيارَ له
[624] يُنظر: ((مقالات الإسلاميين)) للأشعري (1/312)، ((البدء والتاريخ)) للمقدسي (5/146)، ((الفرق بين الفرق)) للبغدادي (ص: 128) ((أصول الدين)) للبغدادي (ص: 333)، ((الملل والنحل)) للشهرستاني (ص: 36)، ((الغنية)) للجيلاني (1/94)، ((التبصير في الدين)) للإسفراييني (ص: 96). .
والذين قالوا بنَفيِ القُدرةِ، وأنَّ العبدَ خالِقٌ لفِعلِه -وهم
المُعتزِلةُ ومن وافقهم- أثبتوا الاستطاعةَ قبل الفِعلِ، ونَفَوا أن تكونَ معه
[625] يُنظر: ((مقالات الإسلاميين)) للأشعري (1/300)، ((التوحيد)) للنيسابوري (ص: 366- 370)، ((شرح الأصول الخمسة)) لعبد الجبار (ص: 390)، ((الشافي)) لابن حمزة (2/219، 3/5-8). .
والذين قالوا بالكَسْبِ -وهم
الأشاعرةُ ومَن وافقهم- قالوا بأنَّ الاستطاعةَ تكونُ مع الفِعلِ لا قبلَه
[626] يُنظر: ((الإنصاف)) (ص: 46)، ((التمهيد)) (ص: 323 – 325) كلاهما للباقلاني، ((محصل أفكار المتقدمين والمتأخرين)) للرازي (ص: 152)، ((شرح السنوسية الكبرى)) للسنوسي (ص: 278)، ((موقف ابن تيمية من الأشاعرة)) للمحمود (ص: 1406). .
وأمَّا جمهورُ
الماتُريديَّةِ فقد توسَّطوا في المسألةِ، فقالوا بإثباتِ الاستطاعةِ قبل الفِعلِ، ومعه، فقالوا بأنَّ الاستطاعةَ تقع على نوعينِ:
النَّوعُ الأوَّلُ: سلامةُ الأسبابِ والآلاتِ، وهي تتقدَّمُ الفِعلَ.
النَّوعُ الثَّاني: الاستطاعةُ التي يتهيَّأُ بها الفِعلُ، وهي تتقدَّمُ الفِعلَ.
قال الماتُريديُّ: (الأصلُ عِندَنا في المسمَّى باسمِ القُدرةِ أنَّها على قِسمَينِ:
أحَدُهما: سلامةُ الأسبابِ وصحَّةُ الآلاتِ، وهي تتقدَّمُ الأفعالَ.
والثَّاني: معنًى لا يُقدَرُ على تبيُّنِ حَدِّه بشيءٍ يصارُ إليه سوى أنَّه ليس إلَّا للفعلِ، لا يجوزُ وُجودُه بحالٍ إلَّا ويقعُ به الفِعلُ عندما يقَعُ معه)
[627] ((التوحيد)) (ص 256 ،257). .
قال أبو المُعينِ النَّسَفيُّ: (الاستطاعةُ والطَّاقةُ والقُدرةُ والقوَّةُ إذا أضيفَت إلى العبدِ يرادُ بها كُلِّها معنًى واحدٌ في مصطلَحِ أهلِ الأصولِ. ثمَّ الاستطاعةُ عندنا قِسمانِ:
أحدُهما: سلامةُ الأسبابِ والآلاتِ، وصِحَّةُ الجوارحِ والأعضاءِ، وهي المعنيَّةُ بقَولِه تعالى:
وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا [آل عمران: 97] ، وبقولِه تعالى:
فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا [المجادلة: 4] ، وبقولِه تعالى خبرًا عن أهلِ النِّفاقِ:
لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ [التوبة: 42] ، أي: لو كانت لنا الآلاتُ والأسبابُ، وصحَّةُ التَّكليفِ تعتَمِدُ هذه الاستطاعةَ ...
والثَّانيةُ: الاستطاعةُ التي هي حقيقةُ القُدرةِ التي يتهيَّأُ بها الفِعلُ، وهي المعنيَّةُ بقَولِه تعالى:
وَمَا كَانَ لَهُم مِّن دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِيَاء يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ [هود: 20] ، ألا ترى أنَّ الله تعالى قد ذمَّهم بذلك، والذَّمُّ إنما يلحَقُهم بانعدامِ حقيقةِ القُدرةِ عِندَ وجودِ سلامةِ الأسبابِ، وصحَّةِ الآلاتِ، لا بانعدامِ سلامةِ الأسبابِ، وصحَّةِ الآلاتِ؛ لأنَّ انتفاءَ تلك الاستطاعةِ لا يكونُ بتضييعِه، بل هو في ذلك مجبورٌ، فلم يلحقْهم الذَّمُّ بالامتناعِ عن الفِعلِ عِندَ انتفائِها، وكذا هي المعنيَّةُ بقولِ صاحِبِ موسى عليهما السَّلامُ:
قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا [الكهف: 67] ، وقولِه:
قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا [الكهف: 75] ؛ إذ لو كان المرادُ بها سلامةَ الأسبابِ والآلاتِ لَمَّا عاتبه على تركِ الصَّبرِ. والاستطاعةُ الثَّانيةُ عَرَضٌ تحدُثُ عندنا مُقارِنةً للفِعلِ)
[628] ((التمهيد لقواعد التوحيد)) (ص: 53، 54). .
وقولُ جمهورِ
الماتُريديَّةِ في الاستطاعةِ هو القَولُ الحقُّ الذي دلَّت عليه الأدِلَّةُ، وهو قولُ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ.
قال
الطَّحاويُّ: (الاستطاعةُ التي يجِبُ بها الفِعلُ مِن نحوِ التَّوفيقِ الذي لا يجوزُ أن يوصَفَ به المخلوقُ به، فهي مع الفِعلِ، وأمَّا الاستطاعةُ من جهةِ الصِّحَّةِ والوُسعِ والتَّمكُّنِ وسلامةِ الآلاتِ فهي قبل الفِعلِ، وبها يتعلَّقُ الخِطابُ)
[629] ((الطحاوية)) (ص: 74). .
قال ابنُ أبي العزِّ: (الذي قاله عامَّةُ أهلِ السُّنَّةِ أنَّ للعَبدِ قُدرةً هي مناطُ الأمرِ والنَّهيِ، وهذه قد تكونُ قَبلَه لا يجِبُ أن تكونَ معه، والقُدرةُ التي بها الفِعلُ لا بدَّ أن تكونَ مع الفِعلِ، لا يجوزُ أن يوجَدَ الفِعلُ بقُدرةٍ معدومةٍ، وأمَّا القُدرةُ التي من جهةِ الصِّحَّةِ والوُسعِ والتَّمكُّنِ وسلامةِ الآلاتِ فقد تتقدَّمُ الأفعالَ، وهذه القُدرةُ المذكورةُ في قَولِه تعالى:
وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ [آل عمران: 97] ، وكذلك قولُه تعالى:
فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن: 16] ، وكذا قولُه تعالى:
فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا [المجادلة: 4] ، والمرادُ منه استطاعةُ الأسبابِ والآلاتِ...
وأمَّا دليلُ ثُبوتِ الاستطاعةِ التي هي حقيقةُ القُدرةِ، فقد ذكروا فيها قولَه تعالى:
مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ [هود: 20] المرادُ نفيُ حقيقةِ القُدرةِ، لا نفيُ الأسبابِ والآلاتِ)
[630] ((شرح الطحاوية)) (499- 501). .
وبهذا التَّفصيلِ ينحَلُّ الإشكالُ الذي وقعت فيه
الجَهْميَّةُ و
المُعتزِلةُ و
الأشاعرةُ ومن وافقَهم.