المطلبُ الثَّاني: أقوالُ العُلَماءِ في كلامِ اللهِ سُبحانَه
1- عن أبي النَّضْرِ هاشمِ بنِ القاسِمِ قال: دَعانا إبْراهيمُ بنُ شكلةَ، وأَحضَرَ
بِشْرًا المَرِّيسيَّ؛ أرادَ ضَرْبَ عُنُقِه، فقال لنا: ما تَقولونَ في القُرْآنِ؟ قال: فقُلْتُ: (القُرْآنُ كَلامُ اللهِ، غَيرُ مَخْلوقٍ)، فقال: لِمَ لمْ نَقُلْ: كَلامُ اللهِ ونَسكُتْ؟ قال: (قُلْتُ: لأنَّ هذا العَدُوَّ للهِ قال: مَخْلوقٌ، فلم نَجِدْ بُدًّا مِن أن نَقولَ: غَيرُ مَخْلوقٍ)
[644] رواه الخلال في ((كتاب السنة)) (1798). .
2- قال
أَحْمَدُ بنُ حَنْبَلٍ: (قُلْنا للجَهْميَّةِ: مَن القائِلُ يَوْمَ القِيامةِ:
يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ [المائدة: 116] ؟ أليس اللهُ هو القائِلَ؟ قالوا: فيُكوِّنُ اللهُ شَيئًا فيُعبِّرُ عن اللهِ، كما كَوَّنَ شَيئًا فعَبَّرَ لموسى! قُلْنا: فمَنِ القائِلُ:
فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ * فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ [الأعراف: 6-7] ؟ أليس اللهُ هو الَّذي يَسْألُ؟ قالوا: هذا كلُّه إنَّما يُكوِّنُ شَيئًا، فيُعبِّرُ عن اللهِ. قُلْنا: قد أَعظَمْتُم على اللهِ الفِرْيةَ حينَ زَعَمْتُم أنَّه لا يَتَكلَّمُ! فشَبَّهْتُموه بالأصْنامِ الَّتي تُعبَدُ مِن دونِ اللهِ؛ لأنَّ الأصْنامَ لا تَتَكلَّمُ، ولا تَتَحرَّكُ ولا تَزولُ مِن مَكانٍ إلى مَكانٍ. فلمَّا ظَهَرَتْ عليه الحُجَّةُ قال: إنَّ اللهَ قد يَتَكلَّمُ، ولكنَّ كَلامَه مَخْلوقٌ. قُلْنا: وكذلك بَنو آدَمَ كَلامُهم مَخْلوقٌ، فقدْ شَبَّهْتُم اللهَ بخَلْقِه حينَ زَعَمْتُم أنَّ كَلامَه مَخْلوقٌ، ففي مَذهَبِكم قد كانَ في وَقْتٍ مِن الأوْقاتِ لا يَتَكلَّمُ حتَّى خَلَقَ الكَلامَ، وكذلك بَنو آدَمَ كانوا لا يَتَكلَّمونَ حتَّى خَلَقَ اللهُ لهم كَلامًا، وقدْ جَمَعْتُم بَيْنَ كُفْرٍ وتَشْبيهٍ! وتَعالى اللهُ عن هذه الصِّفةِ، بلْ نَقولُ: إنَّ اللهَ لم يَزَلْ مُتَكلِّمًا إذا شاءَ، ولا نَقولُ: إنَّه كانَ ولا يَتَكلَّمُ حتَّى خَلَقَ الكَلامَ، ولا نَقولُ: إنَّه قد كانَ لا يَعلَمُ حتَّى خَلَقَ عِلمًا فعَلِمَ، ولا نَقولُ: إنَّه قد كانَ ولا قُدْرةَ له حتَّى خَلَقَ لنَفْسِه القُدْرةَ، ولا نَقولُ: إنَّه كانَ قد كانَ ولا نورَ له حتَّى خَلَقَ لنَفْسِه نورًا، ولا نَقولُ: إنَّه قد كانَ ولا عَظَمةَ له حتَّى خَلَقَ لنَفْسِه عَظَمةً!)
[645] ((الرد على الجهمية والزنادقة)) (ص: 138، 139). .
وعن
أبي بَكرٍ الأَثْرَمِ قال: قال العَبَّاسُ بنُ عَبْدِ العَظيمِ العَنْبَريُّ ل
أَحْمَدَ بنِ حَنْبَلٍ: يا
أبا عَبْدِ اللهِ، قَوْمٌ هاهنا حَدَّثوا، يَقولونَ: لا نَقولُ: مَخْلوقٌ ولا غَيرُ مَخْلوقٍ! قال: (هؤلاء أَضَرُّ مِن
الجَهْميَّةِ على النَّاسِ، وَيْلَكم! فإن لم تَقولوا: ليس بمَخْلوقٍ، فقَولوا: مَخْلوقٌ!)، فقال العَبَّاسُ: ما تَقولُ يا
أبا عَبْدِ اللهِ؟ فقال: (الَّذي أَعْتَقِدُه وأَذهَبُ إليه، ولا أَشُكُّ فيه، أنَّ القُرْآنَ غَيرُ مَخْلوقٍ. سُبْحانَ اللهِ! ومَن يَشُكُّ في هذا؟! سُبْحانَ اللهِ! في هذا شَكٌّ؟! قال اللهُ عَزَّ وجَلَّ:
أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ [الأعراف: 54] ، ففَرَّقَ بَيْنَ الخَلْقِ والأمْرِ. القُرْآنُ مِن عِلمِ اللهِ، أَلَا تَراه يَقولُ:
عَلَّمَ الْقُرْآنَ [الرحمن: 2]، والقُرْآنُ فيه أسْماءُ اللهِ عَزَّ وجَلَّ، أيَّ شيءٍ تَقولونَ؟! أَلَا تَقولونَ: إنَّ أسْماءَ اللهِ عَزَّ وجَلَّ غَيرُ مَخْلوقةٍ؟ مَن زَعَمَ أنَّ أسْماءَ اللهِ عَزَّ وجَلَّ مَخْلوقةٌ فقدْ كَفَرَ، لم يَزَلِ اللهُ عَزَّ وجَلَّ قَديرًا، عَليمًا، عَزيزًا، حَكيمًا، سَميعًا، بَصيرًا، لسْنا نَشُكُّ أنَّ أسْماءَ اللهِ ليست بمَخْلوقةٍ، ولسْنا نَشُكُّ أنَّ عِلمَ اللهِ تَبارَكَ وتَعالى ليس بمَخْلوقٍ، وهو كَلامُ اللهِ عَزَّ وجَلَّ، ولم يَزَلِ اللهُ عَزَّ وجَلَّ حَكيمًا. وأيُّ كُفْرٍ أَبيَنُ مِن هذا؟! وأيُّ كُفْرٍ أَكفَرُ مِن هذا؟! إذا زَعَموا أنَّ القُرْآنَ مَخْلوقٌ فقدْ زَعَموا أنَّ أسْماءَ اللهِ مَخْلوقةٌ، وأنَّ عِلمَ اللهِ مَخْلوقٌ! ولكنَّ النَّاسَ يَتَهاوَنونَ بِهذا، ويَقولونَ: إنَّما يَقولونَ: القُرْآنُ مَخْلوقٌ، فيَتَهاوَنونَ، ويَظُنُّونَ أنَّه هَيِّنٌ، ولا يَدْرونَ ما فيه مِن الكُفْرِ)
[646] رواه الخلال في ((كتاب السنة)) (1804) باختصار. .
3- قال
مُحَمَّدُ بنُ إسْماعيلَ البُخاريُّ: (سَمِعْتُ عُبَيْدَ اللهِ بنَ سَعيدٍ يَقولُ: سَمِعْتُ يَحْيى بنَ سَعيدٍ يَقولُ: ما زِلْتُ أَسمَعُ أصْحابَنا يَقولونَ: إنَّ أفْعالَ العِبادِ مَخْلوقةٌ. قال أبو عَبْدِ اللهِ: حَرَكاتُهم وأصْواتُهم واكْتِسابُهم وكِتابتُهم مَخْلوقةٌ، فأمَّا القُرْآنُ المَتْلُوُّ المُبينُ المُثبَتُ في المُصْحَفِ المَسْطورُ المَكْتوبُ الموعَى في القُلوبِ؛ فهو كَلامُ اللهِ ليس بخَلْقٍ، قال اللهُ تَعالى:
بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ [العنكبوت: 49] ، وقال إسْحاقُ بنُ إبْراهيمَ: فأمَّا الأوْعيةُ فمَن يَشُكُّ في خَلْقِها؟!)
[647] ((خلق أفعال العباد)) (2/ 70). .
4- قال
ابنُ جَريرٍ الطَّبَرِيُّ: (القُرْآنُ كَلامُ اللهِ وتَنْزيلُه؛ إذ كانَ مِن مَعاني تَوْحيدِه، فالصَّوابُ مِن القَولِ في ذلك عِندَنا أنَّه كَلامُ اللهِ غَيرُ مَخْلوقٍ كيف كُتِبَ وحيثُ تُلِيَ وفي أيِّ مَوضِعٍ قُرِئ؛ في السَّماءِ وُجِدَ، وفي الأرْضِ حيثُ حُفِظَ، في اللَّوْحِ المَحْفوظِ كانَ مَكْتوبًا، وفي ألْواحِ صِبْيانِ الكَتاتيبِ مَرْسومًا، في حَجَرٍ نُقِشَ، أو في وَرَقٍ خُطَّ، أو في القَلْبِ حُفِظَ، وبلِسانٍ لُفِظَ، فمَن قال غَيرَ ذلك أو ادَّعى أنَّ قُرْآنًا في الأرْضِ أو في السَّماءِ سِوى القُرْآنِ الَّذي نَتْلوه بألْسِنتِنا ونَكتُبُه في مَصاحِفِنا، أو اعْتَقَدَ غَيرَ ذلك بقَلْبِه، أو أَضمَرَه في نَفْسِه، أو قاله بلِسانِه دائِنًا به؛ فهو باللهِ كافِرٌ، حَلالُ الدَّمِ، بَريءٌ مِن اللهِ، واللهُ مِنه بَريءٌ، بقَولِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ:
بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ [البروج: 21-22] ، وقال -وقَولُه الحَقُّ- عَزَّ وجَلَّ:
وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ [التوبة: 6] فأَخبَرَ جَلَّ ثَناؤُه أنَّه في اللَّوْحِ المَحْفوظِ مَكْتوبٌ، وأنَّه مِن لِسانِ مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مَسْموعٌ، وهو قُرْآنٌ واحِدٌ مِن مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مَسْموعٌ، في اللَّوْحِ المَحْفوظِ مَكْتوبٌ، وكذلك هو في الصُّدورِ مَحْفوظٌ، وبألْسُنِ الشُّيوخِ والشَّبابِ مَتْلُوٌّ)
[648] ((صريح السنة)) (ص: 18). .
5- عَدَّد
اللَّالكائيُّ أسْماءَ أَكثَرَ مِن خَمْسِمِئةِ عالِمٍ مِن عُلَماءِ المُسلِمينَ في مُخْتلِفِ الأعْصارِ ومِن عِدَّةِ أمْصارٍ ممَّن يَقولُ: إنَّ القُرْآنَ كَلامُ اللهِ غَيرُ مَخْلوقٍ، وقال في آخِرِ كَلامِه: (فهؤلاء خَمْسُمِئةٍ وخَمْسونَ نَفْسًا أو أَكثَرُ مِن التَّابِعينَ وأتباعِ التَّابِعينَ، والأئِمَّةِ المَرْضيِّينَ، سِوى الصَّحابةِ الخَيِّرينَ، على اخْتِلافِ الأعْصارِ، ومُضِيِّ السِّنينَ والأعْوامِ، وفيهم نَحْوٌ مِن مِئةِ إمامٍ ممَّن أخَذَ النَّاسُ بقَولِهم، وتَدَيَّنوا بمَذاهِبِهم، ولو اشْتَغَلْتُ بنَقْلِ قَولِ المُحدَثينَ لَبَلَغَتْ أسْماؤُهم أُلوفًا كَثيرةً، لكنِّي اخْتَصَرْتُ وحَذَفْتُ الأسانيدَ للاخْتِصارِ، ونَقَلْتُ عن هؤلاء عَصْرًا بَعْدَ عَصْرٍ، لا يُنكِرُ عليهم مُنكِرٌ، ومَن أَنكَرَ قَولَهم اسْتَتابوه أو أمَروا بقَتْلِه أو نَفْيِه أو صَلْبِه، ولا خِلافَ بَيْنَ الأمَّةِ أنَّ أوَّلَ مَن قال: القُرْآنُ مَخْلوقٌ، جَعْدُ بنُ دِرْهَمٍ في سِنِي نَيِّفٍ وعِشْرينَ ومِئةٍ، ثُمَّ
جَهْمُ بنُ صَفْوانَ)
[649] ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة)) (2/ 253 - 344). .
6- قال
ابنُ تيميَّةَ: (السَّلَفُ وأئِمَّةُ السُّنَّةِ والحَديثِ يَقولونَ: إنَّ اللهَ يَتَكلَّمُ بمَشيئتِه وقُدْرتِه، وكَلامُه ليس بمَخْلوقٍ، بلْ كَلامُه صِفةٌ له قائِمةٌ بذاتِه...، مُتَّفِقونَ على أنَّه لم يَزَلْ مُتَكلِّمًا إذا شاءَ، وكيف شاءَ...، يَقولونَ: إنَّه صِفةُ ذاتٍ وفِعْلٍ، هو يَتَكلَّمُ بمَشيئتِه وقُدْرتِه كَلامًا قائِمًا بذاتِه، وهذا هو المَعْقولُ مِن صِفةِ الكَلامِ لكلِّ مُتَكلِّمٍ، فكلُّ حَيٍّ وُصِفَ بالكَلامِ؛ كالمَلائِكةِ، والبَشَرِ، والجِنِّ، وغَيرِهم، فكَلامُهم لا بُدَّ أن يَقومَ بأنْفُسِهم، وهُمْ يَتَكلَّمونَ بمَشيئتِهم وقُدْرتِهم. والكَلامُ صِفةُ كَمالٍ لا صِفةُ نَقْصٍ، ومَن تَكلَّمَ بمَشيئتِه أَكمَلُ ممَّن لا يَتَكلَّمُ بمَشيئتِه، فكيف يَتَّصِفُ المَخْلوقُ بصِفاتِ الكَمالِ دونَ الخالِقِ؟! ولكنَّ
الجَهْميَّةَ والمُعْتَزِلةَ بَنَوا على أصْلِهم أنَّ الرَّبَّ لا يَقومُ به صِفةٌ؛ لأنَّ ذلك بزَعْمِهم يَسْتَلْزِمُ التَّجْسيمَ والتَّشْبيهَ المُمْتَنِعَ؛ إذِ الصِّفةُ عَرَضٌ، والعَرَضُ لا يَقومُ إلَّا بجِسْمٍ. والكُلَّابيَّةُ يَقولونَ: هو مُتَّصِفٌ بالصِّفاتِ الَّتي ليس له عليها قُدْرةٌ، ولا تكونُ بمَشيئتِه، فأمَّا ما يكونُ بمَشيئتِه فإنَّه حادِثٌ، والرَّبُّ تَعالى لا تَقومُ به الحَوادِثُ، ويُتَرْجِمونَ الصِّفاتِ الاخْتِياريَّةَ بمَسْألةِ حُلولِ الحَوادِثِ؛ فإنَّه إذا كَلَّمَ موسى بنَ عِمْرانَ بمَشيئتِه وقُدْرتِه، وناداه حينَ أتاه بقُدْرتِه ومَشيئتِه كانَ ذلك النِّداءُ والكَلامُ حادِثًا، قالوا: فلو اتَّصَفَ الرَّبُّ به لَقامَتْ به الحَوادِثُ، قالوا: ولو قامَتْ به الحَوادِثُ لم يَخْلُ مِنها، وما لم يَخْلُ مِن الحَوادِثِ فهو حادِثٌ، قالوا: ولأنَّ كَوْنَه قابِلًا لتلك الصِّفةِ إن كانَ مِن لَوازِمِ ذاتِه كانَ قابِلًا لها في الأزَلِ، فيَلزَمُ جَوازُ وُجودِها في الأزَلِ، والحَوادِثُ لا تكونُ في الأزَلِ؛ فإنَّ ذلك يَقْتَضي وُجودَ حَوادِثَ لا أوَّلَ لها)
[650] ((جامع الرسائل)) (2/ 4، 6، 7) بتصَرُّف. .
وقال
ابنُ تيميَّةَ أيضًا: (السَّلَفُ والأئِمَّةُ قالوا: إنَّ اللهَ تَكلَّمَ بالقُرْآنِ وغَيرِه مِن الكُتُبِ المُنزَّلةِ، وإنَّ اللهَ نادى موسى بصَوْتٍ سَمِعَه موسى بأُذُنِه، كما دَلَّتْ على ذلك النُّصوصُ، ولم يَقُلْ أحَدٌ مِنهم: إنَّ ذلك النِّداءَ الَّذي سَمِعَه موسى قَديمٌ أزَليٌّ، ولكن قالوا: إنَّ اللهَ لم يَزَلْ مُتَكلِّمًا إذا شاءَ وكيف شاءَ؛ لأنَّ الكَلامَ صِفةُ كَمالٍ لا صِفةُ نَقْصٍ، وإنَّما يكونُ صِفةَ كَمالٍ إذا قامَ به، لا إذا كانَ مَخْلوقًا بائِنًا عنه؛ فإنَّ المَوْصوفَ -إلَّا بما قامَ به- لا يَتَّصِفُ بما هو بائِنٌ عنه، فلا يكونُ المَوْصوفُ حَيًّا عالِمًا قادِرًا، مُتَكلِّمًا رَحيمًا مُريدًا، بحَياةٍ قامَتْ بغَيرِه، ولا بعِلمٍ وقُدْرةٍ قامَت بغَيرِه، ولا بكَلامٍ ورَحْمةٍ وإرادةٍ قامَت بغَيرِه، والكُلامُ بمَشيئةِ المُتَكلِّمِ وقُدْرتِه أَكمَلُ ممَّن لا يكونُ بمَشيئتِه وقُدْرتِه، وأمَّا كَلامٌ يَقومُ بذاتِ المُتَكلِّمِ بلا مَشيئتِه وقُدْرتِه؛ فإمَّا أنَّه مُمْتنِعٌ، أو هو صِفةُ نَقْصٍ، كما يُدَّعى مِثلُ ذلك في المَصْروعِ. وإذا كانَ كَمالًا فدَوامُ الكَمالِ له، وأنَّه لم يَزَلْ مَوْصوفًا بصِفاتِ الكَمالِ أَكمَلُ مِن كَوْنِه صارَ مُتَكلِّمًا بَعْدَ أن لم يكنْ، لو قُدِّرَ أنَّ هذا مُمْكِنٌ فكيف إذا كانَ مُمْتنِعًا؟! وكانَ أئِمَّةُ السُّنَّةِ والجَماعةِ كلَّما ابتُدِعَ في الدِّينِ بِدْعةٌ أَنكَروها، ولم يُقِرُّوها؛ ولِهذا حَفِظَ اللهُ دينَ الإسلامِ، فلا يَزالُ في أمَّةِ مُحمَّدٍ طائِفةٌ هادِيةٌ مَهْديَّةٌ، ظاهِرةٌ مَنْصورةٌ)
[651] ((الجواب الصحيح)) (4/ 341، 342). .
وقال
ابنُ تيميَّةَ: (لم يَقُلْ أحَدٌ مِن السَّلَفِ: إنَّ هذا القُرْآنَ عِبارةٌ عن كَلامِ اللهِ، ولا حِكايةٌ له، ولا قال أحَدٌ مِنهم: إنَّ لَفْظي بالقُرْآنِ قَديمٌ أو غَيرُ مَخْلوقٍ، فَضْلًا عن أن يَقولَ: إنَّ صَوْتي به قَديمٌ أو غَيرُ مَخْلوقٍ، بلْ كانوا يَقولونَ بما دَلَّ عليه الكِتابُ والسُّنَّةُ مِن أنَّ هذا القُرْآنَ كَلامُ اللهِ، والنَّاسُ يَقْرَؤونَه بأصْواتِهم، ويَكتُبونَه بمِدادِهم، وما بَيْنَ اللَّوْحَينِ كَلامُ اللهِ، وكَلامُ اللهِ غَيرُ مَخْلوقٍ ...، وقال تَعالى:
بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ [البروج: 21-22] ، والمِدادُ الَّذي يُكتَبُ به القُرْآنُ مَخْلوقٌ، والصَّوْتُ الَّذي يُقرَأُ به هو صَوْتُ العَبْدِ، والعَبْدُ وصَوْتُه وحَرَكاتُه وسائِرُ صِفاتِه مَخْلوقةٌ، فالقُرْآنُ الَّذي يَقْرَؤُه المُسلِمونَ كَلامُ الباري، والصَّوْتُ الَّذي يَقرَأُ به العَبْدُ صَوْتُ القارِئِ ...، وقال تَعالى:
قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا [الكهف: 109] ، ففَرَّقَ سُبْحانَه بَيْنَ المِدادِ الَّذي يُكتَبُ به كَلِماتُه وبَيْنَ كَلِماتِه، فالبَحْرُ وغَيرُه مِن المِدادِ الَّذي يُكتَبُ به الكَلِماتُ مَخْلوقٌ، وكَلِماتُ اللهِ غَيرُ مَخْلوقةٍ... ولم يُنقَلْ عن أحَدٍ مِن السَّلَفِ أنَّه قال: إنَّ اللهَ يَتَكلَّمُ بلا صَوْتٍ أو بلا حَرْفٍ، ولا أنَّه أَنكَرَ أن يَتَكلَّمَ اللهُ بصَوْتٍ أو بحَرْفٍ، كما لم يَقُلْ أحَدٌ مِنهم: إنَّ الصَّوْتَ الَّذي سَمِعَه موسى قَديمٌ، ولا إنَّ ذلك النِّداءَ قُديمٌ، ولا قال أحَدٌ مِنهم: إنَّ هذه الأصْواتَ المَسْموعةَ مِن القُرَّاءِ هي الصَّوْتُ الَّذي تَكلَّمَ اللهُ به، بلِ الآثارُ مُسْتَفيضةٌ عنهم بالفَرْقِ بَيْنَ الصَّوْتِ الَّذي يَتَكلَّمُ اللهُ به، وبَيْنَ أصْواتِ العِبادِ، وكانَ أئِمَّةُ السُّنَّةِ يَعُدُّونَ مَن أَنكَرَ تَكَلُّمَه بصَوْتٍ: مِن
الجَهْميَّةِ، كما قال
الإمامُ أَحْمَدُ لمَّا سُئِلَ عمَّن قال: إنَّ اللهَ لا يَتَكلَّمُ بصَوْتٍ، فقال: هؤلاء جَهْميَّةٌ، إنَّما يَدورونَ على
التَّعْطيلِ)
[652] ((مجموع الفتاوى)) (12/ 301 - 305) باختصار وتصَرُّف. .
وقال
ابنُ تيميَّةَ: (قولُ أهلِ البِدَعِ: إنَّ القرآنَ قديمٌ، هو أيضًا بدعةٌ لم يقُلْها أحدٌ من السَّلَفِ، وإنَّما السَّلَفُ كانوا يقولون: القرآنُ كلامُ اللهِ غيرُ مخلوقٍ، منه بدأ، وإليه يعودُ، وكان قولُهم أوَّلًا: إنَّه كلامُ اللهِ، كافيًا عندهم؛ فإنَّ ما كان كلامًا لمُتكلِّمٍ لا يجوزُ أن يكونَ منفَصِلًا عنه، فإَّن هذا مخالِفٌ للمعقولِ والمنقولِ في الكلامِ، وفي جميعِ الصِّفاتِ يمتنعُ أن يوصَفَ الموصوفُ بصفةٍ لا تكونُ قَطُّ قائمةً به، بل لا تكونُ إلَّا بائنةً عنه. وما يزعمُه
الجَهْميَّةُ و
المُعتزِلةُ من أنَّ كلامَه وإرادتَه، ومحبَّتَه وكراهتَه، ورضاه وغَضَبَه، وغيرَ ذلك، كُلُّ ذلك مخلوقاتٌ له منفَصِلةٌ عنه- هو ممَّا أنكره السَّلَفُ عليهم وجمهورُ الخَلَفِ، بل قالوا: إنَّ هذا من الكُفرِ الذي يتضمَّنُ تكذيبَ الرَّسولِ، وجُحودَ ما يستحقُّه اللهُ من صفاتِه. وكلامُ السَّلَفِ في ردِّ هذا القولِ، بل وإطلاقُ الكُفرِ عليه، كثيرٌ مُنتشِرٌ، وكذلك لم يقُلِ السَّلَفُ: إنَّ غَضَبه على فِرعَونَ وقَومِه قديمٌ، ولا إنَّ فرحَه بتوبةِ التَّائِبِ قديمٌ، وكذلك سائرُ ما وصف به نفسَه من الجزاءِ لعبادِه على الطَّاعةِ والمعصيةِ، من رضاه وغَضَبِه، لم يقُلْ أحدٌ منهم: إنَّه قديمٌ؛ فإنَّ الجزاءَ لا يكونُ قبل العَمَلِ... فمن قال: إنَّه لم يزَلْ مناديًا من الأزَلِ إلى الأبَدِ، فقد خالَف القرآنَ والعَقلَ، ومن قال: إنَّه بنفسِه لم ينادِ، ولكِنْ خَلَق نداءً في شَجَرةٍ أو غيرِها، لزم أن تكونَ الشَّجرةُ هي القائلةَ: إني أنا اللهُ!)
[653] ((منهاج السنة النبوية)) (5/ 420، 421، 424) بتصَرُّف. .
وقال
ابنُ تيميَّةَ: (السَّلَفُ قالوا: كَلامُ اللهِ مُنزَّلٌ غَيرُ مَخْلوقٍ، وقالوا: لم يَزَلْ مُتَكلِّمًا إذا شاءَ، فبَيَّنوا أنَّ كَلامَ اللهِ قَديمٌ، أي: جِنْسُه قَديمٌ لم يَزَلْ، ولم يَقُلْ أحَدٌ مِنهم: إنَّ نَفْسَ الكَلامِ المُعيَّنِ قَديمٌ، ولا قال أحَدٌ مِنهم: القُرْآنُ قَديمٌ، بلْ قالوا: إنَّه كَلامُ اللهِ مُنزَّلٌ غَيرُ مَخْلوقٍ، وإذا كانَ اللهُ قد تَكلَّمَ بالقُرْآنِ بمَشيئتِه كانَ القُرْآنُ كَلامَه، وكانَ مُنزَّلًا مِنه غَيرَ مَخْلوقٍ، ولم يكنْ معَ ذلك أزَلِيًّا قَديمًا بقِدَمِ اللهِ، وإن كانَ اللهُ لم يَزَلْ مُتَكلِّمًا إذا شاءَ، فجِنْسُ كَلامِه قَديمٌ، فمَن فَهِمَ قَولَ السَّلَفِ وفَرَّقَ بَيْنَ هذه الأقْوالِ زالَتْ عنه الشُّبُهاتُ في هذه المَسائِلِ المُعضِلةِ الَّتي اضْطَرَبَ فيها أهْلُ الأرْضِ)
[654] ((مجموعة الرسائل والمسائل)) (3/ 46). .