المَبحَثُ الخامسُ: مذهَبُ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ في مُرتكِبِ الكبيرةِ
لمعرفةِ مذهَبِ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ في مُرتكِبِ الكبيرةِ نسوقُ شيئًا مِن أقوالِ العُلَماءِ في ذلك.
1- قال
النَّوويُّ وهو يروي مذهَبَ أهلِ السُّنَّةِ في المُوحِّدينَ: (اعلَمْ أنَّ مذهَبَ أهلِ السُّنَّةِ وما عليه أهلُ الحقِّ مِن السَّلفِ والخَلفِ أنَّ مَن مات مُوحِّدًا دخَل الجنَّةَ قَطعًا على كُلِّ حالٍ)
[1101] ((شرح مسلم)) (1/217). .
2- قال
ابنُ تيميَّةَ: (مذهَبُ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ أنَّ فُسَّاقَ أهلِ المِلَّةِ ليسوا مُخلَّدينَ في النَّارِ كما قالت
الخوارِجُ و
المُعتَزِلةُ، وليسوا كامِلينَ في الدِّينِ والإيمانِ والطَّاعةِ، بل لهم حَسناتٌ وسيِّئاتٌ، ويستحِقُّونَ بهذا العِقابَ، وبهذا الثَّوابَ)
[1102] ((مجموع الفتاوى)) (7/679). .
3- قال ابنُ أبي العِزِّ: (إنَّ أهلَ السُّنَّةِ مُتَّفِقونَ كُلُّهم على أنَّ مُرتكِبَ الكبيرةِ لا يكفُرُ كُفرًا ينقُلُ عن الملَّةِ بالكُلِّيَّةِ كما قالت
الخوارِجُ؛ إذ لو كفَر كُفرًا ينقُلُ عن الملَّةِ لكان مُرتَدًّا يُقتَلُ على كُلِّ حالٍ، ولا يُقبَلُ عَفوُ وليِّ القِصاصِ، ولا تجري الحُدودُ في الزِّنا والسَّرقةِ وشُربِ الخَمرِ! وهذا القولُ معلومٌ بُطلانُه وفسادُه بالضَّرورةِ مِن دينِ الإسلامِ، ومُتَّفِقونَ على أنَّه لا يَخرُجُ مِن الإيمانِ والإسلامِ، ولا يَدخُلُ في الكُفرِ، ولا يَستحِقُّ الخُلودَ معَ الكافِرينَ كما قالت
المُعتَزِلةُ؛ فإنَّ قولَهم باطِلٌ أيضًا؛ إذ قد جعَل اللهُ مُرتكِبَ الكبيرةِ مِن المُؤمِنينَ؛ قال تعالى:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى [البقرة: 178] إلى أن قال:
فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ [البقرة: 178] ؛ فلم يُخرِجِ القاتِلَ مِن الذين آمَنوا، وجعَله أخًا لوليِّ القِصاصِ، والمُرادُ أُخوَّةُ الدِّينِ بلا رَيبٍ، وقال تعالى:
وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا [الحجرات: 9] إلى أن قال:
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ [الحجرات: 10] .
ونُصوصُ الكتابِ والسُّنَّةِ والإجماعِ تدُلُّ على أنَّ الزَّانيَ والسَّارِقَ والقاذِفَ لا يُقتَلُ، بل يُقامُ عليه الحدُّ؛ فدلَّ على أنَّه ليس بمُرتَدٍّ، وقد ثبَت في الصَّحيحِ عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه قال:
((مَن كانت عندَه لأخيه اليومَ مَظلَمةٌ مِن عِرضٍ أو شيءٍ فلْيَتحلَّلْه منه اليومَ قَبلَ ألَّا يكونَ درهَمٌ ولا دينارٌ؛ إن كان له عَملٌ صالِحٌ أُخِذ منه بقَدرِ مَظلَمتِه، وإن لم يكنْ له حَسناتٌ أُخِذ مِن سيِّئاتِ صاحِبِه، فطُرِحَت عليه، ثُمَّ أُلقِيَ في النَّارِ )) [1103] أخرجه البُخاريُّ (2449) باختلافٍ يسيرٍ. ، فثبَت أنَّ الظَّالِمَ يكونُ له حَسناتٌ يستوفي المظلومُ منها حقَّه)
[1104] ((شرح الطحاوية)) (ص: 360- 361). ؛ ممَّا يدُلُّ على أنَّ الكبيرةَ لا تُخرِجُ مِن الإيمانِ.
مِن هذه الأقوالِ يَتبيَّنُ أنَّ مُرتكِبَ الكبيرةِ عندَ أهلِ السُّنَّةِ ليس بكافِرٍ كما تقولُ
الخوارِجُ، وليس بكامِلِ الإيمانِ كما تقولُ
المُرجِئةُ، وليس في منزِلةٍ بَينَ المنزِلتَينِ كما تزعُمُه
المُعتَزِلةُ، بل إنَّه مُؤمِنٌ ناقِصُ الإيمانِ، قد نقَص إيمانُه بقَدرِ ما ارتكَب مِن معصيةٍ، وفي الآخِرةِ لا يُخَلَّدُ في النَّارِ، بل هو تحتَ مشيئةِ اللهِ؛ إن شاء غفَر له، وإن شاء عذَّبه على قَدرِ ذَنبِه، ثُمَّ أخرَجه مِن النَّارِ، قال تعالى:
إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا [النساء: 48] .
وعلى ذلك: فقولُ
المُعتَزِلةِ بالمنزِلةِ بَينَ المنزِلتَينِ باطِلٌ لا يُقرُّه أهلُ السُّنَّةِ والجماعةِ.