ملك مدينة بخارى شهابُ الدولة هارون بن سليمان إيلك المعروفُ ببغراخان التركي، وكان له كاشغر وبلاساغون إلى حدِّ الصين، وكان سبَبُ ذلك أنَّ أبا الحسن بنَ سيمجور لَمَّا مات ووليَ ابنُه أبو عليٍّ خُراسانَ بعده، فسار نحو بخارى، وقصَدَ بلادَ السامانيَّة، فاستولى عليها شيئًا بعد شيءٍ، فسيَّرَ إليه نوح جيشًا كبيرًا، واستعمل عليهم قائدًا كبيرًا من قوَّادِه اسمه انج، فلَقِيَهم بغراخان، فهَزَمهم وأسرَ انج وجماعةً مِن القُوَّادِ، فلمَّا ظَفِرَ بهم قَوِيَ طَمَعُه في البلاد وسار بغراخان نحو بخارى، فلَقِيَه فائِقٌ، واختَصَّ به، وصار في جملته، ونازلوا بخارى، فاختفى الأميرُ نوح ومَلَكَها بغراخانُ، ولَمَّا نزل بغراخان بُخارى وأقام بها استوخَمَها، فلَحِقَه مَرَضٌ ثقيل، فانتقل عنها نحوَ بلاد الترك، فلما فارقها ثارَ أهلُها بعَسكَرِه ففَتَكوا بهم وغَنِموا أموالهم، ووافَقَهم الأتراكُ الغزية على النَّهبِ والقَتلِ لعَسكرِ بغراخان، فلما سار بغراخان عن بُخارى أدركه أجَلُه فمات، ولَمَّا سَمِعَ الأمير نوح بمسيرِه عن بخارى بادر إليها فيمن معه من أصحابه، فدخلها وعاد إلى دارِ مُلكِه ومُلكِ آبائه، وفَرِحَ أهلُها به وتباشَروا بقُدومِه.
عَظُمَ خَطبُ العيَّارينَ (وهم طائفة من أهل الدعارة والنهب واللصوصية)، وعاثُوا ببغداد فسادًا، وأخذوا الأموالَ والعُملاتِ الثِّقالَ ليلًا ونهارًا، وحَرَقوا مواضِعَ كثيرةً، وأخذوا من الأسواقِ الجباياتِ، وتطَلَّبَهم الشُّرَطُ، فلم يُفِدْ ذلك شيئًا ولا فَكَّروا في الدولة، بل استمَرُّوا على ما هم عليه من أخذِ الأموالِ، وقَتْلِ الرِّجالِ، وإرعابِ النِّساءِ والأطفال، في سائِرِ المحالِّ، فلمَّا تفاقم الحالُ بهم تطَلَّبَهم السلطانُ بهاء الدولة وألحَّ في طلبهم فهربوا بين يديه واستراح النَّاسُ مِن شَرِّهم.
رجع رَكْبُ العراقِ أثناءَ طَريقِهم للحَجِّ بعدما فاتَهم الحَجُّ، وذلك أنَّ الأصيفرَ الأعرابيَّ الذي كان قد تكفَّلَ بحِراستِهم اعتَرَض لهم في الطريقِ وذكَرَ لهم أنَّ الدنانيرَ التي أُقطِعَت له من دارِ الخلافةِ كانت دراهِمَ مَطليَّةً، وأنَّه يريدُ مِن الحَجيجِ بدَلَها، وإلَّا لا يدَعُهم يتجاوزونَ هذا المكان، فمانعوه وراجَعوه، فحبَسَهم عن السَّيرِ حتى ضاق الوقتُ ولم يبقَ فيه ما يُدركون فيه الحَجَّ، فرجعوا إلى بلادِهم، ولم يحُجَّ منهم أحدٌ، وكذلك رَكْبُ الشام وأهلُ اليمن لم يحُجَّ منهم أحد هذا العامَ، وإنما حَجَّ أهلُ مِصرَ والمغرب خاصَّةً.
هو أبو القاسِمِ إسماعيلُ بنُ عَبَّاد بن عباس بن عباد بن أحمد بن إدريس الطالقاني الوزيرُ المشهورُ بكافي الكُفاة، وزَرَ لمؤَيَّد الدولة بن رُكنِ الدولة بن بُوَيه. هو أوَّلُ مَن سُمِّيَ بالصَّاحِبِ؛ لأنَّه صَحِبَ مُؤَيَّد الدولة من الصِّبا، وسَمَّاه الصاحِبَ، فغَلَب عليه، ثمَّ سُمِّيَ به كلُّ مَن وَلِيَ الوَزارةَ بعده، وقيل: لأنَّه كان يصحَبُ أبا الفضل بن العَميدِ، فقيل له صاحِبُ ابن العميد، ثم خُفِّفَ فقيل: الصاحب. أصلُه من الطالقان، وكان نادرةَ دَهرِه وأعجوبةَ عَصرِه في الفضائِلِ والمكارم. أخذ الأدبَ عن الوزيرِ أبي الفضل بن العميدِ، وأبي الحُسَين أحمد بن فارس. وقد كان مِن العِلمِ والفضيلة والبراعةِ والكرمِ والإحسان إلى العُلَماءِ والفُقراء على جانبٍ عَظيمٍ، وكان صاحِبَ دُعابةٍ وطُرفةٍ في رُدودِه وتَعليقاتِه. لَمَّا توفِّيَ مُؤيدُ الدولة بُوَيه بجرجان في سنة 373، وَلِيَ بعده أخوه فَخرُ الدولة أبو الحسن، فأقَرَّه على الوزارة، وبالغ في تعظيمِه. قال الذهبي: "بقي في الوزارة ثمانيةَ عشَرَ عامًا، وفتح خمسينَ قلعة، وسَلَّمَها إلى فخر الدولة، لم يجتَمِعْ عشرةٌ منها لأبيه. وكان الصاحِبُ عالِمًا بفنون كثيرةٍ مِن العلم، لم يُدانِه في ذاك وزيرٌ، وكان أفضَلَ وُزَراءِ دَولةِ بني بُوَيه الديلمة، وأغزَرَهم عِلمًا، وأوسَعَهم أدبًا، وأوفَرَهم محاسِنَ". سمع الحديثَ مِن المشايخِ الجيادِ العوالي الإسنادِ، وعُقِدَ له في وقتٍ مَجلِسٌ للإملاءِ فاحتفَلَ النَّاسُ لحُضورِه، وحضره وجوهُ الأُمَراءِ، فلمَّا خرجَ إليهم لَبِسَ زِيَّ الفقهاء وأشهد على نَفسِه بالتَّوبةِ والإنابةِ ممَّا يعاينه مِن أمورِ السُّلطانِ، وذكَرَ للنَّاسِ أنَّه كان يأكُلُ مِن حين نشأ إلى يَومِه هذا من أموالِ أبيه وجَدِّه ممَّا وَرِثَه منهم، ولكِنْ كان يخالِطُ السُّلطانَ، وهو تائِبٌ ممَّا يُمارِسونَه، واتخذَ بناءً في داره سمَّاه بيت التوبة، ووضَعَ العُلَماءُ خطوطهم بصِحَّة تَوبتِه، وحين حدَّث استملى عليه جماعةٌ لكثرةِ مَجلسِه، توفي بالري وله نحوُ ستين سنة، ونُقِلَ إلى أصبهان، وله كتابُ المحيط في اللغة. قال عنه الذهبي: "كان شيعيًّا جَلدًا كآلِ بُوَيه، وما أظنُّه يَسُبُّ، لكِنَّه معتزليٌّ، قيل: إنَّه نال مِن البُخاريِّ، وقال: هو حَشْويٌّ لا يُعَوَّلُ عليه" .
هو الإمامُ الحافِظُ المَجَوِّد, شيخُ الإسلام, عَلَمُ الجهابِذةِ, أبو الحسَنِ عليُّ بنُ عُمَرَ بنِ أحمد بن مهدي بن مسعود بن دينار بن عبد الله الدَارَقُطنيُّ، الحافِظُ الكبير، المقرئُ المحَدِّث, كان عالِمًا حافِظًا فقيهًا على مذهَبِ الإمام الشافعي. أخذ الفِقهَ عن أبي سعيدٍ الاصطخريِّ الفقيهِ الشافعي. كانت ولادتُه في ذي القَعدة سنة 306. والدَّارَقُطنيُّ بفتحِ الدالِ المُهملة وبعدَ الألف راءٌ مفتوحة ثم قافٌ مَضمومة نسبةً إلى دار قُطْن محلَّة كبيرة ببغداد. كان من بحورِ العِلمِ, ومن أئمَّة الدنيا, انتهى إليه الحِفظُ ومَعرفةُ عِلَل الحديث ورجالِه, مع التقَدُّم في القراءاتِ وطُرُقِها, وقُوَّة المشاركة في الفِقهِ والاختلافِ والمغازي وأيَّام الناس, وغير ذلك. أستاذُ الصناعةِ في عِلمِ الحديثِ والعِلَل، سَمِعَ الكثير، وجمع وصَنَّف وألفَّ وأجاد وأفاد، وأحسنَ النَّظَرَ والتعليلَ والانتقادَ والاعتقاد، وكان فريدَ عَصرِه، ونسيجَ وحْدِه، وإمامَ دَهرِه في أسماءِ الرِّجالِ وصناعةِ التَّعليلِ، والجَرحِ والتعديلِ، وحُسْنِ التَّصنيفِ والتأليفِ، والاطلاعِ التَّامِّ في الدراية، له كتابُه المشهورُ: (السُّنَن) من أحسَنِ المصَنَّفات في بابِه، وله كتابُ العِلَل بيَّنَ فيه الصَّوابَ مِن الدَّخَلِ، والمتَّصِلَ مِن المُرسَل، والمُنقَطِعَ والمُعضَل، وكتابُ الأفراد، وله غير ذلك من المصَنَّفات، وكان مِن صِغَرِه موصوفًا بالحِفظِ الباهِرِ، والفَهمِ الثَّاقِبِ، والبَحرِ الزَّاخر، وقال الحاكِمُ أبو عبد الله النَّيسابوري: "لم يَرَ الدَّارَقُطنيُّ مِثلَ نَفسِه"، وقد اجتمع له مع معرفةِ الحديثِ العِلمُ بالقراءاتِ والنَّحوِ والفِقهِ والشِّعرِ، مع الإمامةِ والعَدالةِ، وصِحَّةِ اعتقاد. قال أبو بكر البرقاني: كان الدَّارَقُطني يُملي عليَّ العِلَلَ مِن حِفظِه. قلت- والكلام للذهبي-: إن كان كتابُ "العلل" الموجود قد أملاه الدَّارقُطنيُّ مِن حِفظِه كما دلَّت عليه هذه الحكاية, فهذا أمرٌ عظيمٌ يُقضَى به للدَّارَقُطني أنَّه أحفَظُ أهلِ الدُّنيا، وإن كان قد أملى بعضَه مِن حِفظِه, فهذا ممكِنٌ، وقد جمَعَ قبلَه كتابَ " العِلَل " عليُّ بنُ المَديني حافِظُ زَمانِه". وقد كانت وفاتُه في يوم الثلاثاء السابِعَ مِن ذي القَعدة، وله من العُمُرِ سبعٌ وسبعون سنة ويومان، ودُفِنَ مِن الغد بمقبرة باب الدير قريبًا من قبرِ معروفٍ الكَرخيِّ- رَحِمَهما الله.
قام زيري بنُ عطيَّةَ بالخُروجِ على المنصورِ بنِ أبي عامر الأندلسي، فجهَّزَ المنصورُ ابنُ أبي عامر جيشًا كبيرًا بقيادة غُلامِه واضح، وضَمَّ له قبائِلَ صِنهاجةَ المُعادية لزيري، فاقتتل في وادٍ بقُربِ طنجة وانتهى القتالُ باحتلال مدينة فاس وهزيمةِ زيري الذي هرب ولجأَ إلى بلاد صنهاجة بالمغرب الأقصى حتى توفِّيَ فيها.
مَلَكَ المقَلَّدُ بنُ المسيب مدينةَ الموصل، وكان سبَبُ ذلك أنَّ أخاه أبا الذواد توفِّيَ هذه السنة، فطَمِعَ المقلدُ في الإمارة، فلم تساعِدْه عقيل على ذلك، وقلَّدوا أخاه عليًّا؛ لأنه أكبَرُ منه، فأسرع المقلد واستمال الديلمَ الذين كانوا مع أبي جعفرٍ الحَجَّاج بالموصِل، فمال إليه بعضُهم، وكتب إلى بهاءِ الدَّولةِ أنْ قد ولَّاه المَوصِل، وسأله مساعدتَه على أبي جعفرٍ؛ لأنَّه قد منعه عنها، فساروا ونزلوا على الموصِلِ، فخرج إليهم كلُّ مَن استماله المقلد من الديلم، وضَعُف الحَجَّاج، وطلب منهم الأمانَ، فأمَّنوه، ودخل المقلدُ البلدَ، واستقَرَّ الأمرُ بينه وبين أخيه على أن يُخطَبَ لهما، ويُقَدَّم عليٌّ لكِبَرِه، ويكون له معه نائبٌ يَجبي المالَ، واشتركا في البلَدِ والولاية، وسار عليٌّ إلى البَرِّ، وأقام المقلد، وجرى الأمرُ على ذلك مُدَّةً، ثم تشاجرا واختَصَما.
هو المنصورُ بنُ يوسُفَ بلكين أميرُ إفريقيَّة، كان مَلِكًا شجاعًا، عادِلًا حازِمًا. توفِّيَ خارج صبرة، ودُفِنَ بقَصرِه. وَلِيَ بَعدَه ابنُه باديس، ويكَنَّى بأبي مناد، فلما استقَرَّ في الأمر سار إلى سردانية، وأتاه النَّاسُ مِن كُلِّ ناحية للتَّعزيةِ والتهنئة، وأراد بنو زيري أعمامُ أبيه أن يخالِفوا عليه، فمنَعَهم أصحابُ أبيه وأصحابُه, وأتته الخِلَعُ والعَهدُ بالولايةِ مِن العزيزِ حاكِمِ مِصرَ العُبَيديِّ، فقُرِئَ العَهدُ، وبايع للعزيزِ هو وجماعةُ بني عَمِّه والأعيانُ مِن القُوَّاد.
هو العزيزُ صاحِبُ مِصرَ أبو منصور نزار بن المعِزِّ معد بن إسماعيل العبيدي المهدي المغربي. ولِدَ سنة 344. قام بعد أبيه في ربيع الأول، سنة 365. وكان كريمًا شُجاعًا صفوحًا، أسمَرَ أصهَبَ الشَّعرِ أعيَنَ أشهَلَ، بعيدَ ما بين المَنكِبَينِ، حسنَ الأخلاقِ قَريبًا من الرَّعيَّة، مُغرَمًا بالصيدِ، ويُكثِرُ مِن صيد السِّباعِ، ولا يُؤثِرُ سَفكَ الدماء. فُتحِتَ له حلب وحماة وحِمص. وخطب أبو الذواد محمَّد بن المسيب بالموصِلِ له، ورقَمَ اسمَه على الأعلامِ والسِّكَّة سنة 383، وخُطِبَ له أيضًا باليمن والشام ومدائن المغرب. قال الذهبي: "كانت دولةُ هذا الرافضيِّ أعظَمَ بكثيرٍ مِن دولةِ أمير المؤمنين الطائعِ ابنِ المطيعِ العباسي". وقد اشتُهِرَ في مصر أنَّ نسَبَ العُبَيديين إلى آلِ البيتِ غيرُ صَحيحٍ, قال ابنُ خَلِّكانَ: "وأكثر أهل العلم بالنَّسَبِ لا يصحِّحونَه، وصار هذا الأمرُ كالمستفيضِ بين الناسِ". وفي مبادي ولاية العزيزِ صَعِدَ المنبرَ يوم الجمعة فوجد ورقةً مكتوبٌ فيها:
إنَّا سَمِعْنا نسبًا مُنكَرًا... يُتلى على المِنبَرِ في الجامِعِ
إنْ كنتَ فيما تدَّعي صادقًا... فاذكُرْ أبًا بعد الأبِ الرَّابعِ
وإن تُرِدْ تحقيقَ ما قُلتَه... فانسُبْ لنا نفسَك كالطَّائِعِ
أو لا دَعِ الأنسابَ مَستورةً... وادخُلْ بنا في النَّسَبِ الواسِعِ
فإنَّ أنسابَ بني هاشمٍ... يقصُرُ عنها طَمَعُ الطَّامِعِ
وصَعِدَ العزيز يومًا آخَرَ المنبرَ، فرأى ورقةً فيها مكتوبٌ:
بالظُّلمِ والجَورِ قد رَضِينا... وليس بالكُفرِ والحَماقهْ
إن كنتَ أُعطِيتَ عِلمَ غَيبٍ... فقُلْ لنا كاتِبَ البِطاقَهْ
وإنما كُتِبَ هذا لأنَّ العُبَيديِّينَ كانوا يدَّعونَ عِلمَ المُغَيَّبات، وأخبارُهم في ذلك مشهورة. توفِّيَ العزيزُ للَيلتَينِ بَقِيَتا من رَمضانَ، بمدينة بلبيس، وكان برَزَ إليها لغَزوِ الرُّومِ، فلَحِقَه عِدَّةُ أمراضٍ منها النقرس والحصا والقولنج، فاتصَلَت به الأمراضُ إلى أن مات، وكان حُكمُه إحدى وعشرين سنة وخمسة أشهر ونصفًا، ولَمَّا مات العزيز ولِيَ بعدَه ابنُه أبو عليٍّ المنصورُ، ولُقِّبَ الحاكِمَ بأمرِ الله، بعَهدٍ مِن أبيه، فوَلِيَ وعُمُره إحدى عشرة سنة وستة أشهر، وأوصى العزيزُ إلى أرجوان الخادم، وكان يتولَّى أمرَ دارِه، فجعله مُدَبِّرَ دولةِ ابنه الحاكمِ، فقام بأمْرِه، وبايعَ له، وأخذ له البيعةَ على النَّاسِ.
هو الإمامُ القُدوةُ العابدُ المحَدِّثُ, شيخُ العراق, أبو عبدِ الله عُبيد الله بنُ محمد بن حمدان، العكبريُّ المعروف بابن بطَّة، أحدُ عُلماءِ الحنابلة، وُلِدَ سنة 304 في عُكبَرا – تقع عُكبَرا على نهرِ دجلة بين سامرَّاء وبغداد- قال ابن بطة: "كان لأبي ببغداد شُرَكاءُ, فقال له أحدُهم: ابعَثْ بابنك إلى بغدادَ؛ لِيَسمَعَ الحديث, قال: هو صغيرٌ. قال: أنا أحمِلُه معي, فحمَلَني معه, فجئتُ فإذا ابنُ منيعٍ يُقرأ عليه الحديثُ. فقال لي بعضُهم: سل الشَّيخَ أن يُخرِجَ إليك مُعجَمَه, فسألتُ ابنَه فقال: نريدُ دراهِمَ كثيرةً, فقلتُ: لأمِّي طاق ملحم آخذه منها وأبيعه. قال: ثم قرأنا عليه المُعجَم في نفرٍ خاصٍّ في نحو عشرةِ أيام"، وله تصانيفُ كثيرةٌ حافلةٌ في فنونٍ مِن العلومِ، وأشهَرُها كتابُ: الإبانة عن أُصولِ الدِّيانة، وغيرها من المصَنَّفات التي تزيدُ على المائة، سَمِعَ الحديثَ مِن البَغَوي، وأبي بكر النَّيسابوريِّ، وابن صاعد، وخَلقٍ في أقاليمَ مُتعَدِّدة، وعنه جماعةٌ مِن الحُفَّاظ، منهم أبو الفتح بن أبي الفوارس، وأثنى عليه غيرُ واحد من الأئمَّة، وكان ممَّن يأمُرُ بالمعروف وينهى عن المنكر، كان صالحًا مُجابَ الدَّعوةِ، رحل إلى مكَّة والثغور والبصرة وغيرها في طلَبِ الحديثِ.
عندما تناهى المنصورُ بن أبي عامر في هذا الوقتِ على الاقتدار، والنَّصر على ملوك النصارى، سما إلى مدينة شنت ياقوب قاصية غلبسية، وأعظَمِ مَشاهِدِ النَّصارى الكائنةِ ببلاد الأندلُس وما يتَّصِلُ بها من الأرضِ الكبيرة. وكانت كَنيستُها عندهم بمنزلةِ الكَعبةِ عند المُسلِمينَ، فبِها يحلِفونَ وإليها يَحُجُّونَ مِن أقصى بلاد رومة وما وراءها، ويَزعُمونَ أنَّ القبر المزوَّرَ فيها قبر ياقوب أحد الحواريِّين الاثني عشر, ولم يطمَعْ أحدٌ من ملوك الإسلام في قَصْدِها قبل المنصور، ولا الوصول إليها؛ لصُعوبةِ مَدخَلِها وخشونةِ مكانِها، وبُعدِ شُقَّتِها, فخرج المنصورُ إليها من قرطبة غازيًا بالصائفة يومَ السبت لسِتٍّ بَقِينَ مِن جمادى الآخرة سنة 387، وهي غزوته الثامنة والأربعون- تجاوزت غزوات المنصورِ بنِ أبي عامر لنصارى الأندلُس أكثَرَ من خمسين غزوة مُدَّةَ حُكمِه نيِّفًا وعشرين سنة، انتصر فيها كلِّها- وكان المنصور قد أنشأ أُسطولًا كبيرًا في ساحل غرب الأندلس، وجهَّزه برِجالِه البَحريِّين وصنوف المترجِّلين، وحُمِلَت الأقواتُ والأطعِمةُ والعُدَد والأسلحة؛ استظهارًا على نفوذ العزيمة، إلى أن خرج بموضع برتقال على نهر دويره، فدخل في النهر إلى المكان الذي عَمِلَ المنصور على العبور منه، فعقد هناك من هذا الأسطول جسرًا بقرب الحصن الذي هناك، ووزع المنصور ما كان فيه من الميرة على الجُندِ، فتوسَّعوا في التزوُّدِ منه إلى أرض العدو, ثمَّ نهض يريد شنت ياقوب، فقطع أرضَينَ متباعدة الأقطار، وقطَعَ بالعبور عِدَّة أنهار كبار وخلجان يمدُّها البحر الأخضر, ثم أفضى إلى جبلٍ شامخ شديدِ الوعورة، لا مسلَكَ فيه ولا طريقَ، لم تهتَدِ الأدِلَّاء إلى سواه، فقَدَّمَ المنصورُ الفَعَلة بالحديد لِتَوسعةِ شِعابِه وتسهيلِ مَسالِكِه، فقطعه العسكَرُ وعبروا واديَ منية، وانبسط المسلمون بعد ذلك في بسائِطَ عريضة وأرضين أريضة، وانتهت مغيرتُهم إلى دير قسطان على البحر المحيط، وفتحوا حِصنَ شنت بلايه الذي استعصى على طارق بن زياد وموسى بن نُصير في حينِه؛ لحصانتِه، وغَنِموه، وعَبَروا سياخه إلى جزيرة من البحر المحيط لجأ إليها خلقٌ عظيم من أهل تلك النواحي، فسَبَوا مَن فيها ممَّن لجأ إليها، وانتهى العسكَرُ إلى جبل مراسية المتَّصِل من أكثَرِ جِهاتِه بالبحر المحيط، فتخَلَّلوا أقطارَه، واستخرجوا من كان فيه، وحازوا غنائِمَه, ثمَّ انتَهَوا إلى مدينة شنت ياقوب البائسة، وذلك يومَ الأربعاء للَيلتينِ خلتا من شعبان، فوجدها المسلمون خاليةً مِن أهلها، فحازوا غنائِمَها، وهَدَموا مصانِعَها وأسوارَها وكنيسَتَها، وعَفوا آثارَها, ووكل المنصورُ بقَبرِ ياقوب من يحفَظُه ويدفَعُ الأذى عنه، وكانت مصانِعُها بديعةً مُحكَمةً، فغودرت هشيمًا، كأنْ لم تغْنَ بالأمسِ، وانتشرت بعوثُه بعد ذلك سائر البسائط، وانتهت إلى جزيرةِ شنت مانكش مُنقطَعَ هذا الصِّقعِ على البحر المحيط، وهي غايةٌ لم يبلُغْها قبلهم مُسلِمٌ، ولا وَطِئَتها لغير أهلها قَدَمٌ، فلم يكُنْ بعدها للخَيلِ مجالٌ، ولا وراءها انتقال. وانكفأ المنصورُ عن باب شنت ياقوب، ولم يجِد المنصور بشنت ياقوب إلَّا شيخًا من الرَّهبان جالسًا على القبر، فسأله عن مقامِه، فقال: (أوانس يعقوب) فأمر المنصورُ بالكَفِّ عنه. قال الفتح من خاقان: "تمرس المنصور ببلاد الشِّركِ أعظَمَ تَمَرُّس، ومحا من طواغيتِها كُلَّ تَعَجرُف وتغَطرُس؛ وغادرهم صرعى البِقاع، وترَكَهم أذَلَّ مِن وَتدٍ بِقاع، ووالى على بلادهم الوقائع، وسَدَّد إلى أكبادهم سِهامَ الفجائع، وأغصَّ بالحِمام أرواحَهم، ونغَّصَ بتلك الآلامِ بُكورَهم ورَواحَهم ".
قام أهلُ صور بالثَّورةِ على الحاكِمِ الفاطميِّ لَمَّا لَحِقَهم مِن جُندِه المغاربة البَربرِ الظُّلمُ والجَورُ، وأخذ الحريم من الحَمَّامات والطُّرُق, فقام أهلُ صور عليهم, بعد أن استنجَدوا بالإمبراطورِ البيزنطيِّ باسيل الثاني، فأمَدَّهم بأسطول. فقتلوا المغاربةَ البَربرَ، فأرسل جيشُ ابنِ الصمصامة جيشًا مِن مصر بقيادةِ أبي عبد الله الحسن بن ناصر ومعه ياقوت الخادِمُ, كما أرسل الحاكِمُ أسطولًا إلى طرابلسَ، فحاصر الجيشُ مدينةَ صور واشتبَكَ أسطولُ الحاكِمُ بالأسطولِ البِيزنطيِّ في معركةٍ عنيفةٍ كانت نتيجتُها هزيمةَ البيزنطيِّينِ والقضاءَ على ثورةِ أهلِ صورٍ.
هو سُلطان بُخارى وسَمَرقند وابنُ سلاطينِها, أبو القاسِمِ نوحُ بنُ منصور بنِ نوحِ بنِ عبد الملك بن نصر بن أحمد بن إسماعيل بن أحمد بن أسد بن سامان. تمَلَّك نوحٌ خُراسانَ وغزنةَ وما وراء النهر, ولَمَّا توفِّيَ الأميرُ نوحُ بنُ منصور الساماني اختَلَّ بموته مُلكُ آل سامان، وضَعُف أمرُهم ضعفًا ظاهِرًا، وطَمِعَ فيهم أصحابُ الأطراف، فزال مُلكُهم بعد مدَّةٍ يسيرة. ولَمَّا توفِّيَ نوحٌ بعد أنْ حَكَم اثنتين وعشرينَ سنةً. قام بالمُلْك بعده ابنُه أبو الحارِثِ مَنصورٌ، وبايعه الأمراءُ والقُوَّادُ وسائِرُ النَّاسِ، وفَرَّقَ فيهم بقايا الأموال، فاتَّفقوا على طاعته، وقام بأمرِ دولتِه وتدبيرِها بكتوزون. بَقِيَ أبو الحارث في الحُكمِ سنة وتسعة أشهر, ثم قَبَض عليه الأمراءُ ومَلَّكوا أخاه عبدَ الملك, فقَصَدَهم السلطانُ محمود بن سبكتكين, فالتقاهم وهَزَمَهم إلى بخارى، ثمَّ انقَرَضت دولةُ السَّامانيَّة.
هو فَخرُ الدولة أبو الحَسَنِ عليُّ بن ركن الدولة الحسَن بن بُوَيه أميرُ الرَّيِّ وهمذان. وُلِدَ سنة 341, ولَمَّا توفِّيَ أخوه مؤيد الدولة في شعبان سنة 373ه بجرجان، استولى على مملكتِه، فأقَرَّ الصاحِبَ ابنَ عبَّاد على وزارته، وكان مُبَجَّلًا عند فخر الدولة, ومُعَظَّمًا نافِذَ الأمر، كان فخرُ الدولة شهمًا شُجاعًا، لَقَّبَه الخليفةُ الطائِعُ مَلِكَ الأمة, توفِّيَ بقلعة طبرق, عن سِتٍّ وأربعين سنة، وكان سببُ وفاتِه أنَّه أكل لحمًا مشويًّا، وأكل بعده عِنَبًا، فأخذه المَغصُ، ثم اشتَدَّ مَرَضُه فمات منه، كانت دولتُه أربع عشرة سنة، وترك ألفي ألفِ دينارٍ وثمانمائة ألف دينار، ومن الجواهر ما قيمتُه ثلاثةُ آلافِ ألفٍ، ومن آنية الذَّهَب ما وزنُه ألف ألف، ومن آنية الفِضَّة ما وزنه ثلاثة آلاف ألف، ومن فاخِرِ الثياب ثلاثة آلاف حِمل. وكانت خزائنُه على ثلاثة آلاف وخمسمائة جملٍ, ومع كُلِّ هذا المُلك لَمَّا مات طلبوا له كفَنًا فلم يجدوه، وتعَذَّر النزولُ إلى البلد؛ لشِدَّةِ شَغبِ الديلم، فاشتروا له مِن قَيِّمِ الجامِعِ ثوبًا كفَّنوه فيه، وزاد شغبُ الجند فلم يُمكِنْهم دفنُه فبَقِيَ حتى أنتَنَ ثمَّ دفنوه. وحين توفِّيَ قام بمُلكِه بعده ولدُه مَجدُ الدولة أبو طالِب رُستم، وعمره أربع سنين، أجلسه الأمراءُ في الملك، وجعلوا أخاه شمسَ الدولة بهمذان وقرميسين إلى حدود العراق. وكان المرجع إلى والدةِ أبي طالب في تدبير الملك، وعن رأيها يَصدُرون، وبين يديها في مباشرة الأعمالِ أبو طاهرٍ صاحِبُ فخر الدولة، وأبو العبَّاس الضبِّي الكافي.
هو حَمدُ بنُ محمد بن إبراهيم البُستي الخطَّابي، المحدِّثُ الفقيهُ الأديب اللُّغويُّ، ولد سنة بضع عشرة وثلاثمائة. تحوَّل إلى طلب العِلمِ ورحَلَ إلى العراق والحجاز وغيرها، تفَقَّه على القَفَّال الكبير. له تصانيفُ كثيرةٌ، أشهرُها: معالم السُّنَن، وهو شَرحٌ لسُنَن أبي داود، وشرح للبخاريِّ، وكتاب غريب القرآن، وإصلاح غلط المحدِّثين، وإعجاز القرآن، وغيرها، توفي ببست, وقيل: إنه توفي في سنة 386هـ.
هو صمصامُ الدَّولةِ بنُ عَضُدِ الدولة، وهو صاحِبُ بلاد فارس، وكان سبَبُ قَتلِه أنَّ جماعةً كثيرة من الديلم استوحشوا مِن صمصام الدولة؛ لأنَّه أمرَ بعَرضِهم، وإسقاطِ من ليس بصحيحِ النَّسَب، فأسقط منهم مقدارَ ألفِ رجُل، واتَّفَق أنَّ أبا القاسم وأبا نصر ابني عزِّ الدولة بختيار كانا مقبوضَينِ، فخدعا الموكَّلينِ بهما في القلعة، فأفرجوا عنهما، فجَمَعا لفيفًا من الأكراد، واتَّصَل خبرُهما بالذين أُسقِطوا من الديلم، فأتوهم وقَصَدوا إلى أرجان، فاجتَمَعَت عليها العساكِرُ فظَفِروا بصمصام هذا وقتلوه، وحملوا رأسه إلى أبي نصر بن بختيار، وكان عمرُه يوم قُتِلَ خمسًا وثلاثين سنةً، ومُدَّةُ مُلكِه منها تسع سنين وأشهُر.
انقَرَضت دولةُ آلِ سامان على يدِ محمودِ بنِ سبكتكين، وإيلك الخان التركي، واسمُه أبو نصر أحمد بن علي، ولَقَبُه شمس الدولة، فأمَّا محمود فإنَّه مَلَك خُراسان، وبَقِيَ بيَدِ عبد الملك بنِ نوح ما وراء النَّهر، فلما انهزم من محمود قَصَدَ بُخارى واجتمع بها هو وفائِقُ وبكتوزون وغيرُهما من الأمراء والأكابر، فقَوِيَت نفوسُهم، وشَرَعوا في جمعِ العساكِر، وعَزَموا على العَودِ إلى خراسان، فاتَّفَق أن مات فائق، وكان موتُه في شعبان من هذه السنة، فلما مات ضَعُفَت نفوسهم، ووَهَنت قوَّتُهم، وبلغ خبَرُهم إلى إيلك الخان، فسار في جمعِ الأتراك إلى بخارى، وأظهر لعبدِ الملك المودَّة والموالاة، والحَمِيَّة له، فظَنُّوه صادقًا، ولم يحتَرِسوا منه، وخرج إليه بكتوزون وغيرُه من الأمراء والقُوَّاد، فلمَّا اجتمعوا قبَضَ عليهم، وسار حتى دخل بُخارى يوم الثلاثاء عاشِرَ ذي القَعدةِ، فلم يدرِ عبدُ الملك ما يصنَعُ لقِلَّةِ عدَدِه، فاختفى ونزل إيلك الخان دارَ الإمارة، وبثَّ الطَّلَب والعيونَ على عبد الملك، حتى ظَفِرَ به، فأودعه بافكند فمات بها، وكان آخِرَ ملوك السامانيَّة، وانقَضَت دولتُهم على يده، وكانت دولتُهم قد انتشرت وطَبَّقت كثيرًا من الأرض من حدود حلوان إلى بلاد الترك، بما وراء النهر، وكانت من أحسَنِ الدولِ سيرةً وعدلًا.
أراد الشِّيعةُ أن يصنَعوا ما كانوا يصنعونَه من الزينة يومَ غديرِ خُمٍّ، وهو اليوم الثامن عشر من ذي الحِجَّة فيما يزعمونَه، فقاتلهم جهَلَةٌ آخرون في المنتَسِبينَ إلى السُّنَّة بعد أن ادَّعَوا أنَّ في مثل هذا اليوم حُصِرَ النبيُّ صلَّى الله عليه وسلم وأبو بكرٍ في الغار فامتنعوا من ذلك، وهذا أيضًا جَهلٌ من هؤلاء، ولَمَّا كان الشِّيعةُ يصنعون في يوم عاشوراء مأتمًا يُظهِرونَ فيه الحُزنَ على الحُسَين بن علي، قابلَتْهم طائفةٌ أخرى مِن جَهَلةِ أهلِ السُّنَّة ادَّعَوا أن يوم الثاني عشر من المحرَّم قُتِلَ فيه مُصعَب بن الزبير، فعَمِلوا له مأتمًا كما تَعمَلُ الشِّيعةُ للحسين، وزاروا قَبرَه كما زاروا قبر الحسين، وهذا من بابِ مُقابلةِ البِدعةِ ببِدعةٍ مِثلِها، ولا يَرفَعُ البِدعةَ إلَّا السُّنَّةُ الصَّحيحةُ.