كان قَتلُ برجوان وزيرُ الحاكمِ الفاطميِّ في بستانٍ يُعرَفُ بدويرة التين والعنب، كان الحاكم فيه مع زيدان فجاء برجوان ووقفَ مع زيدان، فسار الحاكِمُ حتى خرج من باب الدويرة، فعاجل زيدان وضَرَبَ برجوان بسِكِّينٍ كانت في خُفِّه، وابتدره قومٌ، وقد أعدُّوا له السكاكينَ والخناجِرَ، فقُتِلَ مكانَه، وحُزَّت رأسُه وطرح عليه حائِطٌ، وسبب ذلك أن برجوان لَمَّا بلغ النهاية قصَّرَ في الخدمة، واستقَلَّ بلَذَّاتِه ولا يُمضى إلَّا ما يختار من غير مشاورةٍ، وكان برجوان من استبدادِه يُكثِرُ مِن الدالة على الحاكم، فحَقَد عليه أمورًا، وأنهد الحاكِمُ بعد قتل برجوان، فأحضر كاتبَه أبا العلاء فهدَ بنَ إبراهيم في الليل وأمَّنَه، واستوزَرَه وكان فهدٌ نصرانيًّا، فكانت مدَّةُ نظر برجوان سنتين وثمانية أشهر غيرَ يومٍ واحد.
قُتِلَ الأميرُ أبو نصر بن بختيار، الذي كان قد استولى على بلادِ فارس. وسبَبُ قَتلِه أنَّه لَمَّا انهزم مِن عَسكَرِ بهاء الدولة بشيراز، سار إلى بلاد الديلم، وكاتب الديلمَ بفارس وكرمان من هناك يستميلُهم، وكاتَبوه واستدعَوه، فسار أبو نصرٍ إلى بلادِ فارس، واجتمع عليه جمعٌ كثيرٌ مِن الزطِّ، والديلم، والأتراك، وتردَّد في تلك النواحي, ثمَّ سار إلى كرمان، فلم يَقبَلْه الديلم الذين بها، وكان المُقَدَّمَ عليهم أبو جعفر بن أستاذ هرمز، فجَمَع وقصد أبا جعفرٍ، فالتقيا، فانهزم أبو جعفر إلى السيرجان، ومضى ابنُ بختيار إلى جيرفت فمَلَكها، وملَكَ أكثَرَ كرمان، فعَظُم الأمرُ على بهاء الدولة، فسَيَّرَ إليه الموفَّق عليَّ بن إسماعيل في جيشٍ كثير، وسار مُجِدًّا حتى أطلَّ على جيرفت، فاستأمن إليه مَن بها من أصحابِ ابن بختيار ودخَلَها. فأنكر عليه مَن معه من القُوَّاد سُرعةَ سَيرِه، وخوَّفوه عاقبةَ ذلك، فلم يُصْغِ إليهم، وسأل عن حالِ ابن بختيار، فأُخبِرَ أنَّه على ثمانية فراسخ من جيرفت، فاختار ثلاثَمائة رجل من شُجَعانِ أصحابه وسار بهم، وترَك الباقين مع السَّوادِ بجيرفت. فلما بلغ ذلك المكان لم يَجِدْه ودُلَّ عليه فلم يزَلْ يَتبَعُه مِن مَنزلٍ إلى منزل، حتى لَحِقَه بدارزين، فسار ليلًا، وقُدِّرَ وصولُه إليه عند الصبحِ فأدركه. فركب ابنُ بختيار واقتتلوا قتالًا شديدًا، وسار الموفَّقُ في نفرٍ مِن غلمانه، فأتى ابنَ بختيار من ورائه، فانهزم ابنُ بختيار وأصحابُه، ووضع فيهم السَّيفَ، فقتل منهم الخَلقَ الكثير. فغدَرَ بابن بختيار بعضُ أصحابه، وضرَبَه فألقاه وعاد إلى الموفَّق ليُخبِرَه بقَتلِه، فأرسل معه من ينظُرُ إليه، فرآه وقد قتَلَه غيرُه، وحَمَل رأسَه إلى الموفَّق، وأكثر الموفَّقُ القتلَ في أصحابِ ابنِ بختيار، واستولى على بلادِ كرمان، واستعملَ عليها أبا موسى سياهجيل، وعاد إلى بهاءِ الدَّولة، فخرج بنَفسِه ولَقِيَه، وأكرَمَه وعظَّمَه ثمَّ قبض عليه بعد أيام.
تحالفَت كُلُّ قوى النصرانيَّة مِن أجْلِ الصُّمودِ في وَجهِ قُوَّةِ المُسلِمينَ بقِيادةِ المنصورِ بنِ أبي عامرٍ في وقعة جربيرة، التقى فيها الفريقان عند مكانٍ شَديدِ الوُعورةِ يُسمَّى بصَخرةِ جربيرة، وكاد المنصور أن يُهزَمَ لأوَّلِ مَرَّة في معاركِه، ولكِنَّ بَسالةَ المُسلِمينَ وشِدَّةَ بأسِهم في القِتالِ أنهَت المعركةَ بهزيمةٍ مُرَوِّعة للتَّحالُفِ النَّصرانيِّ، وقُتِلَ مُعظَمُ قادة الصَّليبيِّينَ وواصل المنصورُ سَيرَه حتى فتح مدينةَ برغش عاصِمةَ قشتالة.
احتلَّت قبائِلُ القرَّة خانيون بزعامةِ أرسلان إيليغ خان مدينةَ بخارى، وأنهَت الحُكمَ الإيرانيَّ في تركستان، وقَضَت على الدُّوَل السَّامانية، كما أنها استولَت على سمرقند وبلادِ ما وراء النهر حتى حُدودِ خُراسان. والقُرَّة خانيون قبائِلُ تُركيَّةٌ اعتَنَقَت الإسلامَ وساهمت بدَورٍ في حمايةِ الإسلامِ.
ثار الأتراكُ ببغداد بنائِبِ السُّلطانِ، وهو أبو نصرٍ سابورُ بنُ أردشير وزيرُ بهاءِ الدَّولة البُويهيِّ، فهَرَب منهم، ووقَعَت الفتنةُ بين الأتراك والعامَّة مِن أهل الكَرخِ وهم رافِضةٌ، وقُتِلَ بينهم قتلى كثيرونَ، ثمَّ إنَّ السُّنَّةَ مِن أهل بغداد ساعدوا الأتراكَ على أهلِ الكَرخِ، فضَعفوا عن الجميع، فسعى الأشرافُ في إصلاحِ الحالِ فسَكَنَت الفِتنةُ.
أمَرَ الخليفةُ القادِرُ بالله بالبيعةِ لِوَلَدِه أبي الفَضلِ بولايةِ العَهدِ، وأحضَرَ حُجَّاجَ خُراسان وأعلَمَهم ذلك، وكان سبَبُ هذه البيعةِ أنَّ رَجُلًا يقال له عبدُ الله بن عثمان الواثقيُّ من ولَدِ الواثِقِ بالله أحدِ الخُلَفاء السَّابقين، كان مِن أهلِ نصيبينَ، ذهَبَ إلى بعضِ الأطرافِ من بلادِ التُّركِ، وادَّعى أنَّ القادِرَ بالله جعَلَه وليَّ العَهدِ مِن بَعدِه، فخَطَبوا له هنالك، فلمَّا بلغ القادِرَ أمرُه عَظُمَ عليه، فبَعَث يتطَلَّبُه فهرب في البلادِ وتمَزَّق، ثم أخذه محمودُ بن سبكتكين فسَجَنَه في قلعةٍ إلى أن مات؛ لهذا بادر القادِرُ إلى هذه البيعةِ, فبايع لِوَلدِه أبي الفَضلِ بولاية العهد, ولقَّبَه الغالِبَ باللهِ، وكان عُمرُه حينئذ ثماني سنين وشهورًا.
أوقَعُ يمينُ الدَّولةِ محمودُ بنُ سبكتكين بجيبال ملِكِ الهند وقعةً عَظيمةً، وسببُ ذلك أنَّه لَمَّا اشتغَلَ بأمر خراسان ومَلِكِها، وفرغ منها ومِن قتال خلَفِ بنِ أحمد، وخلا وجهُه مِن ذلك؛ أحَبَّ أن يغزوَ الِهندَ غزوةً تكونُ كَفَّارةً لِما كان منه من قتالِ المُسلِمينَ، فثنى عنانَه نحو تلك البلادِ، فنزل على مدينة برشور، فأتاه عدوُّ الله جيبال مَلِكُ الهند في عساكِرَ كثيرةٍ، فالتَقَوا في المحرَّمِ مِن هذه السنة، فاقتتلوا، وصبَرَ الفريقان، فلما انتصَفَ النَّهارُ انهزم الهندُ، وقُتِلَ فيهم مقتلة عظيمة، وأُسِرَ جيبال ومعه جماعةٌ كثيرة من أهلِه وعَشيرتِه، وغَنِمَ المسلمون منهم أموالًا جليلةً، وغَنِموا خمسَمئة ألف رأسٍ من العبيد، وفَتَح من بلادِ الهند بلادًا كثيرةً، فلَمَّا فرغ من غزواته أحَبَّ أن يُطلِقَ جيبال ليراه الهنودُ في شِعارِ الذُّلِّ، فأطلقه بمالٍ قرَّرَه عليه، فأدَّى المال، ومن عادةِ الهندِ أنَّهم مَن حصَلَ منهم في أيدي المُسلِمينَ أسيرًا لم ينعَقِدْ له بعدها رئاسةٌ، فلما رأى جيبال حالَه بعد خلاصِه حلَق رأسَه، ثم ألقى نفسَه في النَّارِ، فلمَّا فرَغَ يمينُ الدولة مِن أمرِ جيبال رأى أن يغزوَ غَزوةً أخرى، فسار نحو ويهند، فأقام عليها مُحاصِرًا لها، حتى فتحها قهرًا، وبلغَه أنَّ جماعةً مِن الهند قد اجتمعوا بشِعابِ تلك الجبال عازِمينَ على الفسادِ والعناد، فسيَّرَ إليهم طائفةً مِن عَسكَرِه، فأوقعوا بهم، وأكثَروا القتلَ فيهم، ولم ينجُ منهم إلَّا الشَّريدُ الفريدُ، وعاد إلى غزنةَ سالِمًا ظافِرًا.
هو أبو الفَتحِ عُثمانُ بنُ جِنِّيٍّ، المَوصِليُّ النَّحويُّ اللُّغَويُّ المشهور، كان إمامًا في عِلمِ العربيَّة، صاحِبَ التصانيف الفائقة المُتداولة في النَّحو واللغة. قرأ الأدبَ على الشيخِ أبي عليٍّ الفارسيِّ، فارقه وقعَدَ للإقراء بالمَوصِل، وكان أبوه جِنِّيٌّ مملوكًا روميًّا لسُلَيمانَ بنِ فَهدِ بنِ أحمد الأزدي المَوصِليِّ، وابنُ جِنيٍّ واحِدٌ من أنفَعِ العُلَماءِ في علومِ العَرَبيَّة على مرِّ التاريخ، له مُؤَلَّفاتٌ عظيمةٌ تدُلُّ على نبوغِه الفَذِّ، مثل: "الخَصائص"، و "سِرُّ صناعة الإعراب"، و "المُنصِف في شرح تصريف أبي عثمان المازني" وغيرها. وكان ملازِمًا للبُويهيِّينَ، ويقال: إنَّه كان خَدَم ملوكَ بني بُوَيه، كعَضُدِ الدَّولةِ وشَرَف الدولة، وكان يَلزَمُهم, وله أشعارٌ حَسَنةٌ. وقيل: إنَّه كان أعوَرَ, توفِّيَ وهو في عشرِ السَّبعين.
قَدِمَ الحُجَّاجُ مِن خُراسان إلى بغداد؛ لِيَسيروا إلى الحجازِ، فبلَغَهم عَيثُ الأعرابِ في الأرضِ بالفَسادِ، وأنَّه لا ناصِرَ لهم ولا ناظِرَ يَنظُرُ في أمرِهم، فرجعوا إلى بلادِهم ولم يحُجَّ من بلادِ المَشرِقِ أحدٌ في هذه السَّنةِ.
هو المَلِكُ المنصور، حاجِبُ الممالك الأندلسيَّة، أبو عامر، محمَّدُ بن عبد الله بن أبي عامر مُحمَّد بن وليد المعافري القَحطاني القُرطُبي، قَدِمَ قُرطبةَ شابًّا لطلَبِ العِلمِ والأدَبِ، وكان عنده هِمَّةٌ عاليةٌ، وكَّلَتْه زوجةُ الحاكِمِ المُستنصِر صبحَ البكشنجية أمورَها وإدارةَ ضياعِها وبَقِيَ يترقَّى حتى تولَّى الشُّرطةَ والإشرافَ على الأموالِ، ثمَّ صار وكيلًا لوليِّ العَهدِ هشامٍ، فلمَّا تسَلَّمَ هِشامٌ المؤيَّد المُلكَ وكان صَغيرًا تدبَّر الأمورَ كُلَّها وضبَطَها أشَدَّ ضَبطٍ, فكان القائِمَ بأعباءِ دَولةِ الخليفةِ المروانيِّ المؤيَّدِ باللهِ هِشامِ بنِ الحَكَمِ أميرِ الأندلُسِ، استُخلِفَ المؤيَّدُ وهو ابنُ تِسعِ سنينَ. فكانت مقاليدُ الأمورِ إلى الحاجِبِ ابنِ أبي عامرٍ, الذي استمالَ الأمراءَ والجَيشَ بالأموالِ، ودانَت لهيبتِه الرِّجالُ، وتلقَّبَ بالمنصورِ، واتخذَ الوُزراءَ لنَفْسِه، أمَّا المؤيَّدُ فكان معه صورةً بلا معنًى، بل كان مَحجوبًا لا يجتَمِعُ به أميرٌ ولا كَبيرٌ، بل كان أبو عامرٍ يَدخُلُ عليه قَصرَه، ثمَّ يخرجُ فيقولُ: رسمَ أميرُ المؤمنينَ بكذا وكذا، فلا يخالِفُه أحَدٌ، وإذا كان بعد سَنةٍ أو أكثَر، أركَبَه فَرَسًا، وجعل عليه بُرنُسًا، وحولَه جواريه راكبات، فلا يعرِفُه أحدٌ مِن بينهِنَّ، يخرُجُ يتنَزَّهُ في الزَّهراءِ، ثمَّ يعودُ إلى القَصرِ على هذه الصِّفةِ. كان ابنُ أبي عامرٍ مِن رجالِ الدَّهرِ: رأيًا وحَزمًا، ودَهاءً وإقدامًا. عَمَد أوَّلَ تغَلُّبِه على الدَّولةِ إلى خزائنِ كُتُبِ الحَكَم المُستنصِر، فأبرز ما فيها من تصانيفِ الأوائِلِ والفَلاسِفة- حاشا كتُبِ الطِّبِّ والحسابِ- بمَحضَرٍ من العُلَماءِ، ثمَّ أمرَ بإفرازِ ما فيها وأمَرَ بإحراقِها، فأُحرِقَت، وطُمِرَ بعضُها؛ فعَلَ ذلك تحبُّبًا إلى العوامِّ، وتقبيحًا لِمَذهَبِ الحَكَم. وكان لابنِ أبي عامرٍ مَجلِسٌ في الأسبوعِ يجتَمِعُ إليه فيه الفُضَلاءُ للمُناظرةِ، فيُكرِمُهم ويحتَرِمُهم ويَصِلُهم، ويُجيزُ الشُّعَراءَ، وكان بطلًا شُجاعًا، حازِمًا سائِسًا، غزَّاءً عالِمًا، جَمَّ المحاسِنِ، كثيرَ الفُتوحات، عاليَ الهِمَّة، دام في المملكةِ نَيِّفًا وعشرينَ سَنةً، وكان كثيرَ الغَزوِ للفِرنجة، بلَغَت غَزَواتُه خِلالَ حُكمِه نيِّفًا وخمسينَ غَزوةً، انتصر فيها كلِّها، وكثُرَ السَّبيُ أيامَه, حتى بِيعَت بنتُ عَظيمٍ مِن عُظَماءِ الرُّومِ ذات حُسنٍ وجمالٍ بعشرين دينارًا. دانت له الجزيرةُ, وأَمِنَت به وبعَدلِه وبحُبِّه للجِهادِ والغَزوِ، توفِّيَ بأقصى الثُّغورِ مَبطونًا في مدينةِ سالمٍ في إحدى الغَزَواتِ عن 66 عامًا، ولَمَّا توفِّيَ الحاجِبُ المنصورُ ابنُ أبي عامرٍ، قام في مَنصِبِه ابنُه الملَقَّبُ بالمظَفَّرِ: أبو مروانَ عبد الملك بن محمَّد. وجرى على مِنوالِ والِدِه، فكان ذا سَعدٍ عَظيمٍ، وكان فيه حَياءٌ مُفرِطٌ يُضرَبُ به المَثَلُ، ومع ذلك كان مِنَ الشُّجَعانِ المذكورينَ، فدامَت الأندلُس في أيَّامِه في خيرٍ وخِصبٍ وعِزٍّ إلى أن مات في صَفَر سنة 399. وقام بتدبيرِ دولةِ المؤيَّدِ باللهِ الناصِرُ عبدُ الرَّحمنِ أخو المظَفَّرِ المَعروفُ بشنشول.
مَلَك يَمينُ الدَّولةِ محمودُ بنُ سبكتكين سجستانَ، وانتزَعَها مِن يدِ خلَفِ بنِ أحمدَ الصَّفَّار، وكان سبَبُ أخْذِها أنَّ يمينَ الدَّولةِ لَمَّا رحَلَ عن خلَفٍ بعد أن صالَحَه، سنة تسعينَ وثلاثمِئَة، عَهِدَ خَلَفٌ إلى ولَدِه طاهرٍ، فلمَّا استقَرَّ طاهِرٌ في المُلكِ عقَّ أباه وأهمَلَ أمْرَه، فلاطَفَه أبوه ورفَقَ به، حتى قبضَ على أبيه وسَجَنه، وبقِيَ في السِّجنِ إلى أن مات فيه، وأظهَرَ عنه أنَّه قتَلَ نَفسَه، ولَمَّا سَمِعَ عَسكَرُ خَلَف وصاحِبُ جيشِه بذلك، تغيَّرَت نيَّاتُهم في طاعتِه وكَرِهوه، وامتَنَعوا عليه في مدينتِه، وأظهروا طاعةَ يمينِ الدَّولة، وخطَبوا له، وأرسلوا إليه يطلُبونَ مَن يتسَلَّمُ المدينةَ، ففعَلَ ومَلَكَها، واحتوى عليها في هذه السَّنةِ، وعزَمَ على قَصدِ خَلَف وأخْذِ ما بيده والاستراحةِ مِن مَكْرِه. فسار إليه، وهو في حِصنِ الطاق، وله سبعةُ أسوارٍ مُحكَمة، يُحيطُ بها خَندقٌ عَميقٌ عَريضٌ، لا يُخاضُ إلَّا مِن طريقٍ على جِسرٍ يُرفَعُ عند الخَوفِ، فنازله وضايقَه فلم يصِلْ إليه، فلم يزَلْ أصحابُ يمينِ الدَّولةِ يدفعونَهم، فلمَّا رأى خلَفٌ اشتدادَ الحَربِ، وأنَّ أسوارَه تُملَكُ عليه، وأنَّ أصحابَه قد عجزوا، أرسلَ يَطلُبُ الأمانَ، فأجابه يمينُ الدَّولةِ إلى ما طلَبَ، وكَفَّ عنه، فلمَّا حَضَر عنده أكرَمَه واحتَرَمه، وأمر بالمُقامِ في أيِّ البلادِ شاء.
سار يحيى بنُ عليٍّ الأندلُسيُّ وفلفل بن سعيدٍ مِن طرابلسَ إلى مدينة قابس في عسكرٍ كثيرٍ، فحَصَروها، ثمَّ رَجَعوا إلى طرابلس، ولَمَّا رأى يحيى بنُ عليٍّ مِن قِلَّةِ المالِ، واختلالِ حالِه وسُوءِ مُجاوَرةِ فلفل وأصحابِه له، رجعَ إلى مصرَ إلى الحاكِمِ العُبَيديِّ، بعد أن أخذَ فلفل وأصحابُه خُيولَهم، وما اختاروه مِن عُدَدِهم بين الشِّراءِ والغَصبِ، فأراد الحاكِمُ قَتْلَه، ثمَّ عفا عنه.
حَجَّ بالنَّاسِ مِن العراقِ أبو الحارِثِ محمَّدُ العَلَويُّ، فاعتَرَض الرَّكبَ الأُصيفِرُ الشِّيعيُّ الأعرابيُّ، وعَوَّل على نهبِهم، فقالوا: مَن يكَلِّمُه ويقَرِّرُ له ما يأخُذُه مِن الحاجِّ؟ فقَدَّموا أبا الحُسَينِ بنَ الرفاء وأبا عبد الله بن الدجاجيَّ، وكانا من أحسَنِ النَّاسِ قراءةً، فدخلا عليه وقرآ بينَ يديه، فقال لهما: كيف عَيشُكما ببغداد؟ قالا: نِعمَ العَيشِ، تَصِلُنا الخِلَعُ والصِّلاتُ. فقال: هل وهَبوا لكما ألفَ ألفِ دينارٍ في مرَّةٍ واحدةٍ. قالا: لا، ولا ألفَ دينارٍ؟ فقال: قد وهبْتُ لكما الحاجَّ وأموالَهم، فدَعَوا له وانصَرَفوا وفَرِحَ النَّاسُ، فكان ذلك سبَبَ سَلامةِ الحَجيجِ مِن هذا الأعرابيِّ
كان لؤلؤ الجراحيُّ مولى الحَمدانِيِّينَ وَصِيًّا على سعيدِ الدَّولةِ بعدَ وفاةِ أبيه سَعدِ الدَّولةِ عامَ 381هـ، ثمَّ في عام 392هـ تُوفِّيَ سعيدُ الدَّولةِ، وخَلَّفَ ولدَيه أبا الحَسَنِ عليًّا وأبا المعالي شريفًا أميرَينِ على حَلَب، وكان لؤلؤٌ هو مَن يقومُ بتَدبيرِ جَميعِ الأمور، ثمَّ قام بإرسالِهما مع باقي أهلِ البَيتِ الحَمدانيِّ إلى مِصرَ إلى الحاكِمِ الفاطميِّ، واستبَدَّ هو بحُكمِ حَلَب، فكانت هذه نهايةَ دَولةِ الحَمدانيِّينَ في حَلَب، وجعل ابنَه مَنصورًا ولِيَّ عَهدِه، واعتَرَف الحاكِمُ الفاطميُّ به، ثمَّ بعد ذلك أصبَحَت حَلَب تابعةً للفاطميِّينَ.
غزا يمينُ الدَّولةِ مَحمودُ بنُ سبكتكين بهاطيةَ مِن أعمالِ الهِندِ، وهي وراءَ الملتان، وصاحِبُها يُعرَفُ ببحيرا، وهي مدينةٌ حَصينةٌ، عاليةُ السُّورِ، يُحيطُ بها خَندقٌ عَميقٌ، فامتنَعَ صاحِبُها بها، ثمَّ خرج هو وجُندُه إلى ظاهرِ المدينةِ، فقاتلوا المُسلِمينَ ثلاثةَ أيَّامٍ، ثمَّ انهزموا في الرَّابِعِ، وطَلَبوا المدينةَ ليَدخُلوها، فسَبَقَهم المُسلِمونَ إلى بابِ المدينةِ فمَلَكوه عليهم، وأخذَتْهم السُّيوفُ مِن بينِ أيديهم ومِن خَلفِهم، فقُتِلَ المُقاتِلةُ وسُبِيَت الذُّرِّية وأُخِذَت الأموالُ، وأمَّا بحيرا فإنَّه لَمَّا عاين الهلاكَ، أخذ جماعةً مِن ثقاتِه وسار إلى رؤوسِ تلك الجبالِ، فسَيَّرَ إليه يمينُ الدولة سَرِيَّةً، فلم يشعُرْ بهم بحيرا إلَّا وقد أ حاطوا به، وحَكموا السُّيوفَ في أصحابِه، فلمَّا أيقَنَ بالعَطبِ أخَذَ خِنجرًا معه فقتَلَ به نفسَه، وأقام يمينُ الدَّولةِ ببهاطية حتى أصلَحَ أمْرَها، ورَتَّبَ قواعِدَها، وعاد عنها إلى غزنةَ. واستخلَفَ بها من يُعلِّمُ من أسلَمَ مِن أهْلِها وما يجِبُ عليهم تعَلُّمُه، ولَقِيَ يمينُ الدولة في عَودِه شِدَّةً شديدةً من الأمطارِ، وزيادة الأنهارِ، فغَرِقَ منها مِن عَسكَرِه عدَدٌ كبيرٌ.
أمَرَ الحاكِمُ بأمْرِه العُبَيديُّ الفاطميُّ بأن يُكتَبَ على سائِرِ المساجِدِ، وعلى الجامِعِ العَتيقِ مِن ظاهِرِه وباطِنِه وفي جميعِ جوانِبِه، وعلى أبوابِ الحَوانيتِ والحَجَر والمقابِر والصَّحراءِ بسَبِّ السَّلَفِ ولَعْنِهم، ونُقِشَ ذلك ولُوِّنَ بالأصباغِ والذَّهَب، وعُمِلَ كذلك على أبوابِ القياسرِ وأبوابِ الدُّورِ، وأكْرَهَ على عمَلِ ذلك، ولَمَّا دخل الحاجُّ نالَهم من العامَّةِ سَبٌّ وبَطشٌ؛ فإنَّهم طَلَبوا منهم سَبَّ السَّلَفِ ولَعنَهم، فامتَنَعوا, ثمَّ في عام 403هـ أمَرَ الحاكِمُ النَّاسَ أن ينتَهوا عن سَبِّ السَّلَفِ، وأمَرَ بقَلعِ الألواحِ التي كان مكتوبًا فيها السَّبُّ.