هو إمامُ دار الهجرة، أبو عبدِ الله مالكُ بنُ أنس بن مالك بن أبي عامر بن عمرو بن الحارث بن غيمان بن خثيل بن عمرو بن الحارث الأصبحي، ثم المدني، جَدُّه الصحابيُّ أبو عامرٍ الأصبحيُّ، كان طويلًا عظيمَ الهامةِ أصلعَ أبيضَ الرأسِ واللِّحية. أبيضَ شديدَ البياضِ إلى الشُّقرة. وُلِدَ بالمدينة سنة ثلاث وتسعين، عام موتِ أنسِ بنِ مالكٍ خادمِ رَسولِ الله صلى الله عليه وسلم، ونشأ في أسرةٍ ذاتِ صَونٍ ورفاهيةٍ وتجَمُّل. أحدُ الأئمَّة الأربعة المشهورين، إليه تُنسَبُ المالكيَّة، كان إمامًا في الحديثِ بلا منازعٍ، له كتابُ الموطأ المشهور. تعرَّضَ للفتنة أيَّامَ المنصورِ؛ بسبب فتوى له في قتالِ البُغاة، أقام في المدينةِ، وكان يُعظِّمُ ما جرى عليه عمَلُ أهلِ المدينةِ في الفِقهِ، وروى عن نافعٍ مولى ابنِ عُمَرَ، وأكثَرُ مَن رحل إليه للعلمِ المصريُّونَ والمغربيونَ، فكان هذا سببَ انتشارِ مَذهَبِه في تلك البقاعِ، توفي في المدينة ودُفِنَ في البقيعِ- رَحِمَه اللهُ تعالى وجزاه عن الإسلامِ والمُسلمِينَ خَيرًا.
خرج حمزةُ بن أترك السجستاني الخارجيُّ في خراسان، فجاء إلى بوشنج، فخرج إليه عَمرَوَيه بن يزيد الأزدي، وكان على هراة، في ستةِ آلاف، فقاتَلَه فهزمه حمزة، وقتَلَ مِن أصحابه جماعةً، ومات عَمرَويه في الزحام، فوجَّه عليُّ بن عيسى- وهو أميرُ خراسان- ابنَه الحُسَينَ في عشرة آلاف، فلم يحارِبْ حمزة، فعَزَله وسَيَّرَ عِوَضَه ابنَه عيسى بن علي، فقاتل حمزة، فهَزَمه حمزةُ، فرَدَّه أبوه إليه أيضًا فقاتله بباخرز، وكان حمزةُ بنيسابور، فانهزم حمزةُ، وبَقِيَ أصحابه، وبقي في أربعينَ رَجُلًا فقَصَد قهستان. وأرسل عيسى أصحابَه إلى أوق وجوين، فقَتَلوا مَن بها من الخوارج، وقصَدَ القرى التي كان أهلُها يُعِينون حمزة، فأحرَقَها وقتَلَ مَن فيها حتى وصل إلى زرنج، فقتَلَ ثلاثين ألفًا ورجَعَ عيسى بن علي، وخلف بزرنج عبد الله بن العباس النسفي، فجبى الأموالَ وسار بها، فلَقِيَه حمزةُ بنُ أترك بأسفزار، فقاتله، فصبَرَ له عبد الله ومن معه من الصغد، فانهزم حمزةُ، وقُتِل كثيرٌ من أصحابه، وجُرِحَ في وجهه، واختفى هو ومن سَلِمَ من أصحابه في الكروم، ثم خرج وسار في القُرى يَقتُل ولا يُبقي على أحدٍ. وكان علي بن عيسى قد استعمَلَ طاهر بن الحسين على بوشنج، فسار إليه حمزةُ، وانتهى إلى مكتبٍ فيه ثلاثون غلامًا فقَتَلهم وقتَلَ مُعَلِّمَهم، وبلغ طاهرًا الخبَرُ، فأتى قريةً فيها قُعَّدُ الخوارجِ- وهم الذين لا يُقاتِلونَ، ولا ديوانَ لهم- فقَتَلهم طاهِرٌ وأخذ أموالَهم، وكان يشُدُّ الرجُلَ منهم في شجرتين، ثم يجمَعُهما ثمَّ يرسِلُهما، فتأخذ كلُّ شَجرةٍ نِصفَه، فكتب القُعَّدُ إلى حمزةَ بالكَفِّ، فكَفَّ وواعَدَهم، وأمِنَ النَّاسُ مدَّةً، وكانت بينه وبين أصحابِ عليِّ بنِ عيسى حروبٌ كثيرةٌ، حتى غُلِبَ وفَرَّ إلى كابل.
هو أبو بِشرٍ عَمرُو بنُ عُثمانَ بنِ قُنَبْرَ مَولى بني الحارثِ بنِ كعبٍ، قيل: مولى الرَّبيع بن زياد الحارثي البصري، ولُقِّبَ سيبويهِ لجَمالِه وحُمرةِ وَجنَتَيه، حتى كانتا كالتفَّاحتَين، وسيبويهِ في لغة فارس (رائحةُ التفاحِ)، وهو الإمامُ العلَّامة العَلَم، شيخُ النُّحاة من لدنْ زمانِه إلى زمانِنا هذا، والناسُ عِيالٌ على كتابِه المشهورِ في هذا الفنِّ المعروفِ باسمِ "كتابُ سِيبَويه"، وقد شُرِحَ شروحًا كثيرةً، وقلَّ من يحيطُ عِلمًا به، أخذ سيبويهِ العلمَ عن الخليلِ بنِ أحمدَ الفراهيديِّ ولازَمَه، و كان الخليلُ إذا جاءه سيبويهِ يقول: مرحبًا بزائرٍ لا يُمَلُّ"، وأخذ أيضًا عن عيسى بنِ عُمَر، ويونُسَ بنِ حَبيب، وأبي زيدٍ الأنصاريِّ، وأبي الخطَّابِ الأخفشِ الكبيرِ، وغيرهم، قَدِمَ مِن البصرةِ إلى بغدادَ أيَّامَ كان الكسائيُّ يؤدِّبُ الأمينَ بنَ الرَّشيدِ، وحصلت بينهم وَحشةٌ، فانصرف وعاد إلى بلادِ شيراز.
سيَّرَ الحكم بن هشام صاحِبُ الأندلس جيشًا مع عبد الكريم بنِ مغيث إلى بلاد الفرنج، فدخل البلادَ، وبثَّ السَّرايا فجازوا خليجًا من البحر كان الماءُ قد جَزَر عنه، وكان الفرنجُ قد جعلوا أموالَهم وأهليهم وراء الخليجِ؛ ظنًّا منهم أنَّ أحدًا لا يقدِرُ أن يعبُرَ إليهم، فجاءهم ما لم يكُنْ في حِسابهم، فغَنِمَ المسلمون جميعَ مالهم، وأسَروا الرجالَ وقَتَلوا منهم فأكثروا، وسَبَوا الحريمَ، وعادوا سالِمينَ إلى عبدِ الكريم. وسَيَّرَ طائفةً أخرى، فخَرَّبوا كثيرًا من بلاد فرنسيَّة، وغَنِمَ أموال أهلها، وأسَروا الرجال، فأخبَرَه بعض الأسرى أنَّ جماعةً مِن ملوك الفرنج قد سبقوا المُسلِمينَ إلى وادٍ وعْرِ المسلَكِ على طريقِهم، فجمع عبد الكريم عساكِرَه، وسار على تعبئةٍ، وجَدَّ السَّيرَ، فلم يشعُرِ الكُفَّارُ إلَّا وقد خالَطَهم المسلمون، فوَضَعوا السيفَ فيهم فانهزموا، وغَنِمَ ما معهم وعاد سالِمًا هو ومَن معه.
هو هِشامُ بنُ عبد الرحمن بن معاوية بن هشامِ بن عبد الملك بن مروان، صاحِبُ الأندلس، توفي في صفر، وكانت إمارتُه سبع سنين وسبعة أشهر وثمانية أيام، وقيل: تسعة أشهر، وقيل: سبعة أشهر، وكان عمرُه تسعًا وثلاثين سنة وأربعة أشهر، كان ذا رأيٍ وشجاعةٍ وعدلٍ، محبًّا لأهل الخير والصَّلاح، شديدًا على الأعداءِ، راغبًا في الجهادِ، وهو الذي تمَّمَ بناء جامِعِ قرطبة، وكان أبوه قد مات قبل فراغِه منه، وبنى عدَّة مساجد معه، وبلغ مِن عِزِّ الإسلامِ في أيَّامِه وذُلِّ الكُفرِ أنَّ رجلًا مات في أيَّامِه، فأوصى أن يُفَكَّ أسيرٌ مِن المسلمينَ مِن تَرِكتِه، فطُلِب ذلك، فلم يُوجَدْ في دار الكُفَّارِ أسيرٌ يُشترى ويُفَكُّ؛ لضَعفِ العَدُوِّ وقُوَّةِ المُسلِمينَ!
هو عبدالله بن المبارك بن واضح، أبو عبد الرحمن الحنظليُّ، مولاهم التركيُّ، ثمَّ المروزي، الحافِظُ الغازي، أحدُ الأعلامِ، كان أبوه تركيًّا وأمُّه تركيَّةً، مِن خوارزمَ، وُلِدَ سنة ثماني عشرة ومائة. وطلبَ العِلمَ وهو ابنُ عشرين سنة، أفنى عمُرَه بالأسفارِ، صَنَّفَ الكتُبَ، وجاهَدَ في سبيلِ اللهِ، وجمَعَ الحديثَ والفقهَ والعربيَّةَ وأيَّامَ النَّاسِ، أوَّلُ مَن صنَّفَ في الجهادِ، اشتهَرَ بالزُّهدِ والورعِ، مع تجارتِه، وكان يُنفِقُ على أهلِ العبادةِ والزُّهدِ مِن مالِه، توفِّيَ في مدينة هيت- بين الرحبة وبغداد- مُنصَرِفًا من غزو الرومِ، وعمره 63 سنة، قال أبو عمر بن عبد البَرِّ: "أجمع العُلَماءُ على قَبولِه وجَلالتِه، وإمامتِه وعَدْلِه"، فرَحِمه الله تعالى، وجزاه عن الإسلامِ والمسلمينَ خَيرًا.
أخذ الرَّشيدُ لوَلَدِه عبدِ الله المأمونِ وِلايةَ العَهدِ، من بعد أخيه محمَّد الأمين بن زُبيدة، وذلك بالرقَّةِ بعد مَرجِعِه من الحَجِّ- للمَرَّة الثانية؛ حيث كانت الأولى عام 175هـ- وضَمَّ ابنَه المأمونَ إلى جعفر بن يحيى البرمكي، وبعثه إلى بغدادَ ومعه جماعةٌ من أهل الرشيدِ خِدمةً له، وولَّاه خراسان وما يتَّصِلُ بها، وسمَّاه المأمون.
جاز سُليمان بن عبد الرحمن بن معاوية إلى بلاد الأندلُسِ من الشرق، وتعَرَّض لحرب ابنِ أخيه الحَكَمِ بن هشام بن عبد الرحمن، صاحِبِ الأندلُس، فسار إليه الحكَمُ في جيوشٍ كثيرة، وقد اجتمع إلى سليمانَ كثيرٌ من أهل الشِّقاقِ ومن يريد الفتنةَ، فالتقيا واقتَتلا واشتدَّت الحربُ، فانهزم سليمانُ واتبَعَه عسكَرُ الحَكَم، وعادت الحربُ بينهما ثانيةً في ذي الحجة، فانهزم فيها سُلَيمان، واعتصَمَ بالوَعْرِ والجبال، فعاد الحَكَمُ. ثم عاد سليمانُ فجمع برابِرَ، وأقبل إلى جانبِ إستجة، فسار إليهم الحَكَمُ، فالتَقَوا واقتتلوا سنة ثلاث وثمانين ومائة، واشتَدَّ القتال، فانهزم سليمانُ، واحتمى بقريةٍ، فحَصَره الحَكَمُ، وعاد سُلَيمانُ مُنهَزِمًا إلى ناحية فريش.
هو أبو يوسُفَ يعقوبُ بن إبراهيم بن حبيب بن حبيش بن سعد بن بجير بن معاوية الأنصاري، الكوفيُّ، وُلِدَ سنة ثلاث عشرة ومائة، لَزِمَ أبا حنيفةَ سبع عشرة سنةً وتتلمَذَ عليه، وكان يعَدُّ من أنبَلِ تلامذتِه وأنجَبِهم، وكان أبو حنيفةَ يتعاهَدُه ويُنفِقُ عليه، كان أميَلَ للمُحَدِّثينَ مِن أبي حنيفة ومِن مُحمَّد بن الحسَن، كان قاضيَ الآفاقِ، ووزيرَ الرَّشيدِ، وزميلَه في حَجِّه، وكان الرشيدُ يُجِلُّه كثيرًا، وقيل: إنَّه كان يحفَظُ التفسيرَ، ويحفَظُ المغازيَ، وأيَّامَ العربِ، واشتهر بالفِقهِ.
خرج الخزر بسبب ابنة خاقان من بابِ الأبواب، وقيل: إنَّ سببَ خُروجِهم أنَّ سعيد بن سلم قتَلَ المنجم السلميَّ فدخل ابنُه بلاد الخزر، واستجاشهم على سعيد، فخرجوا ودخَلوا أرمينيَّة من الثُّلمة، فانهزم سعيدٌ، وأقاموا نحو سبعينَ يومًا، وسَبَوا أكثَرَ من مائة ألف رأس، وأوقعوا بالمسلمينَ وأهل الذمَّة أمرًا عظيمًا لم يُسمَعْ بمِثلِه في الأرضِ، فولَّى الرشيدُ أرمينيَّةَ يزيدَ بن مزيد مضافًا إلى أذربيجان، ووجَّهَه إليهم، وأنزل خزيمةَ بن خازم نصيبين ردءًا لأهل أرمينيَّة، فأصلحا ما أفسد سعيدٌ، وأخرجا الخزر وسَدَّا الثُّلْمة.
هو السَّيِّدُ أبو الحسن العلوي موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب، والِدُ الإمام علي بن موسى الرضا, المدنِيُّ، ولد سنة ثمان وعشرين ومائة بالمدينةِ ثم نزلَ بغداد,َ لقب بالكاظِمِ لكَظمِه عمَّن أساء إليه، كان مجتهدًا في العبادةِ كريمًا، قيل: إنَّ سبَبَ سَخَطِ الرشيدِ عليه هو أنَّ الرشيدَ لَمَّا زار قبرَ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال: السَّلامُ عليك يا عمَّاه يفتَخِرُ بذلك، فقال موسى: السَّلامُ عليك يا أبتِ. فقال الرشيدُ: هذا هو الفَخرُ يا أبا الحسَنِ, ثم لم يزَلْ ذلك في نفسِه، فحَنقَ عليه حتى استدعاه في سنة تسعٍ وسبعين وسجَنَه فأطال سَجنَه، وقيل: بل لأنَّه سَمِعَ أنَّ النَّاسَ يبايعونَ له فحَمَله معه إلى البصرةِ وحَبَسَه عند واليها عيسى بن جعفرٍ، ثمَّ نقَلَه إلى الفضلِ البرمكي، ثمَّ حَوَّله إلى السندي بن شاهك، إلى أن مات عنده ودُفِنَ في بغداد.
حجَّ الرَّشيدُ ومعه ابناه: الأمينُ محمَّد، والمأمونُ عبد الله، وفَرَّقَ بالحرمينِ الأموالَ، وفيها بايعَ الرَّشيدُ بولايةِ العَهدِ لولده قاسِمٍ بعد الأخوينِ: الأمين والمأمون، ولقَّبَه المُؤتَمَن، وولَّاه الجزيرةَ والثُّغورَ، وهو صبيٌّ.
تمرَّدَ متولي المغربِ محمَّد بن مقاتل العكي، وظلَم وعسَفَ واقتطَعَ مِن أرزاق الأجنادِ وآذى العامَّةَ، فخرج عليه تمامُ بنُ تميم التميمي نائبُه على تونس، فزحَفَ إليه فبَرَز لملاقاته العكي، فهَزَمه ابنُ تميمٌ، فتحَصَّنَ العكيُّ بالقيروان في القصرِ، وغلَبَ تمَّام على البلد، ثم نزل العكيُّ بأمانٍ وانسحب إلى طرابلس، فنهض لنُصرتِه إبراهيمُ بنُ الأغلب، فتقهقر تمَّام إلى تونُسَ ودخل ابنُ الأغلب القيروانَ، فصلى بالنَّاسِ وخطب وحَضَّ على الطاعةِ، ثم التقى ابنُ الأغلب وتمَّام فانهزم تمَّام، واشتَدَّ بغضُ الناسِ للعكيِّ، وكاتبوا الرشيدَ فيه، فعَزَله وأقَرَّ عليهم إبراهيمَ بن الأغلبِ.
بعد أن قام إبراهيمُ بنُ الأغلب بقَمعِ تمَرُّدِ تمَّام بن تميم في أفريقيا، ولَّاه الرشيد، فانقمع الشَّرُّ، وضُبطَ الأمر، وسَيَّرَ تمامًا وكُلَّ مَن يتوثَّبُ الوُلاة إلى الرَّشيد، فسَكَنت البلاد، وابتنى مدينةً سمَّاها العباسيَّة بقُرب القيروان، وانتقَلَ إليها بأهلِه وعَبيدِه.
سقَطَت مدينةُ برشلونة بالأندلُسِ بِيَدِ ملك الفرنج بقيادةِ أذفونش بعد تحالُفِه مع البشكنس- لعَنَهم الله- وأخَذُوها من المسلمينَ، ونقلوا حُماةَ ثغورِهم إليها، وتأخَّرَ المسلمونَ إلى ورائهم. وكان سبَبُ مُلكِهم إيَّاها اشتغال الحَكَم بن هِشامٍ صاحِبِ الأندلس بمحاربةِ عَمَّيه عبد الله وسُليمان.
لَمَّا وصل الرشيدُ إلى مكَّة، ومعه أولادُه والفُقَهاء والقُضاة والقُوَّاد، فكتب كتابًا أشهَدَ فيه على محمَّد الأمين، وأشهدَ فيه من حضرَ بالوفاء للمأمونِ، وكتَبَ كتابًا للمأمونِ أشهَدَهم عليه فيه بالوفاءِ للأمين، وعلَّقَ الكتابينِ في الكعبةِ، وجَدَّد العهودَ عليهما في الكعبة. ولَمَّا فعل الرشيد ذلك قال الناس: قد ألقى بينهم شَرًّا وحَربًا. وخافوا عاقبةَ ذلك، فكان ما خافوه.
اضطُرَّت دولةُ الرُّومِ أمام ضَرَباتِ الرشيدِ المتلاحقةِ إلى طلبِ الهُدنة والمصالحة، فعقدت "إيريني" مَلِكةُ الرُّومِ صلحًا مع الرشيد، مقابِلَ دفعِ الجزية السَّنوية له في سنة 181هـ، وظلَّت المعاهدة ساريةً حتى نقَضَها إمبراطورُ الروم، الذي خلَفَ إيريني، وكتب إلى هارون: "مِن نقفور ملكِ الرُّومِ إلى ملِك العَرَب، أمَّا بعدُ؛ فإنَّ المَلِكة إيريني التي كانت قبلي أقامَتْك مقامَ الرُّخِّ، فحَمَلَت إليك مِن أموالها، لكِنَّ ذاك ضَعفُ النِّساءِ وحُمقُهنَّ، فإذا قرأتَ كتابي فاردُدْ ما حصَلَ قِبَلَك من أموالِها، وافتَدِ نَفسَك، وإلَّا فالحربُ بيننا وبينك". فلمَّا قرأ الرشيدُ الرسالةَ ثارت ثائِرتُه، وغضِبَ غضَبًا شديدًا، وكتبَ على ظهرِ رسالة الامبراطور: "مِن هارونَ أميرِ المؤمنينَ إلى نقفور كَلبِ الرُّومِ، قد قرأتُ كتابَك يا ابنَ الكافرةِ، والجوابُ ما تراه دونَ أن تسمَعَه، والسَّلامُ". فشَخَص مِن يَومِه، وسار حتى أناخ ببابِ هرقلة، ففتح وغَنِمَ، واصطفى وأفاد، وخَرَّب وحَرَّق واصطَلَم، فطلبَ نقفورُ الموادعةَ على خراجٍ يؤدِّيه في كلِّ سَنةٍ، فأجابه إلى ذلك.
استولى الفِرنجُ على مدينة تطيلة بالأندلس، وسبب ذلك أنَّ الحَكَمَ بن هِشامٍ صاحِبَ الأندلُسِ استعمَلَ على ثغورِ الأندلُسِ قائدًا كبيرًا من أجنادِه، اسمُه عمروس بن يوسف، فاستعمل ابنَه يوسُفَ على تطيلة. وكان قد انقلب على الحَكَم بنِ هشام بيتٌ من بيوت الأندلُسِ أولُو قوَّةٍ وبأس؛ لأنَّهم خرجوا عن طاعته، فالتحَقوا بالمُشرِكين، فقَوِيَ أمرُهم، واشتَدَّت شوكتُهم، وتقَدَّموا إلى مدينة تطيلة فحَصَروها ومَلَكوها من المسلمين، فأسَروا أميرَها يوسُفَ بن عمروس، وسجَنوه بصخرة قيس. واستقَرَّ عمروس بن يوسف بمدينةِ سرقسطة ليحفَظَها من الكُفَّار، وجمَعَ العساكِرَ، وسيَّرَها مع ابنِ عَمٍّ له، فلَقِيَ المشركين، وقاتَلَهم، ففَضَّ جَمعَهم، وهزَمَهم، وقتل أكثَرَهم، ونجا الباقون منكوبين، وسار الجيشُ إلى صخرة قيس، فحصروها وافتتحوها ولم يقدِر المشركون على مَنعِها منهم؛ لِما نالهم من الوَهَنِ بالهزيمة، ولَمَّا فَتَحَها المسلمون خلَّصوا يوسُفَ بن عمروس أميرَ الثغر، وسيَّروه إلى أبيه، وعظم أمر عمروس عند المشركين، وبَعُد صوتُه فيهم.