قام ألفونسو بن فريناند ملك قشتالة بالاستيلاء على حصن أراغونة وعدة حصون أخرى وحاصر غرناطة، فقام ابن الأحمر أبو عبد الله محمد بن نصر بمهادنته بعد أن أيقَنَ أنَّه لا قِبَلَ له به وبمنازلتِه، ففَكَّ الحصار عن غرناطة بصلحٍ بينهما يقضي فيه أن يبقى ابن الأحمر حاكمًا على غرناطة، لكن باسم ملك قشتالة وتحت ظله، ويؤدي جزيةً سنوية ويُعينه على أعدائه وقت يريدُ، وأن يشهَدَ معه اجتماعَ مجلس قشتالة الكورتيس باعتباره بهذا العقد أميرًا من أمراء الملك التابعين له، ثمَّ سَلَّمه جيان وأراغونة وقلعة جابر وأبرم الصلح لمدة عشرين سنةً.
نشب النزاعُ بين الصالحَينِ إسماعيلَ ونجمِ الدين أيوب مرة أخرى، ووقف الناصرُ داود بن الملك المعظَّم هذه المرة مع الصالح إسماعيل، واتفقا على الاستعانة بالصليبيين ضِدَّ إخوانهم المسلمين، ولم يجدِ الصالح أيوب قُوَّةً تَقِفُ إلى جواره غيرَ الخوارزمية الذين تَفَرَّقت بهم السبل بعد انهيار دولتِهم ومقتل سلطانهم جلال الدين خوارزم شاه، فاستجابوا لدعوته، وقَدِموا بأعدادٍ كبيرة إلى الشام، فقطعوا الفراتَ، ومُقَدَّموهم: الأمير حسام الدين بركة خان، وخان بردى، وصاروخان، وكشلوخان، وهم زيادة على عشرة آلاف مقاتل، فسارت منهم فرقة على بقاع بعلبك، وفرقة على غوطة دمشق، وهم ينهبون ويقتُلون ويَسْبُون، فانجفل الناسُ من بين أيديهم، وتحصَّنَ الصالح إسماعيل بدمشق، وضمَّ عساكره إليه، بعدما كانت قد وصلَت غزة, واتَّجه الخوارزمية إلى دمشقَ فوجدوها قويَّة التحصين فتركوها، واستولوا على طبرية ونابلس، وواصلوا سيرَهم حتى دخلوا مدينة بيت المقدس في الثالثِ من صفر واستولوا عليها دون مقاومةٍ، وبذلوا السيفَ فيمن كان به من النصارى، حتى أفنوا الرِّجالَ، وسَبَوا النساء والأولاد، وهدموا المبانيَ التي في قمامة، ونبشوا قبورَ النصارى، وأحرقوا رِمَمَهم، وكانت هذه آخرَ مرة يسترد فيها المسلمونَ بيت المقدس في عصرِ الحروب الصليبيَّة، وظَلَّت بأيدي المسلمين حتى سقطت في قبضة اليهود في عصرنا الحديثِ، وبعدَ أن استَرَدَّ الخوارزميون بيت المقدس واصلوا سيرَهم إلى غزة واجتمعوا مع الجيشِ المصري الذي أرسله الصالحُ أيوب لمحاربة قوات الشام ومن ناصرها من القواتِ الصليبيَّة، سير الخوارزمية إلى الملك الصالح نجم الدين أيوب في صفر يخبرونَه بقدومهم، فأمرهم بالإقامةِ في غزة، ووعدهم ببلادِ الشامِ، بعدما خلع على رُسُلِهم.
جهَّزَ الملك الصالح نجمُ الدين أيوب عسكرًا من القاهرة عليه الأمير ركنُ الدين بيبرس، أحد مماليكِه الأخصَّاء الذين كانوا معه وهو محبوسٌ بالكرك، فسار إلى غزَّة، وانضم إلى الخوارزمية جماعةٌ من القميرية، كانوا قد قَدِموا معهم من الشرق، ثم خرج الأميرُ حسام الدين أبو علي بن محمد بن أبي علي الهذباني بعسكر، ليقيم على نابلس، وجهَّزَ الصالح إسماعيل عسكرًا من دمشق، عليه الملك المنصور صاحِبُ حمص، فسار المنصور جريدة إلى عكا، وأخذ الفرنجَ ليحاربوا معه عساكرَ مصر، وساروا إلى نحو غزة، وأتتهم نجدةُ الناصر داود بن الملك المعظَّم صاحب الكرك مع الظهيرِ بن سنقر الحلبي والوزيري، فالتَقَت العساكر المصرية مع الخوارزمية بظاهر غزة، وقد رفع الفرنجُ الصُّلبان على عسكر دمشق، وفوق رأسِ المنصور صاحِبِ حمص، وكان في الميمنة الفرنجُ، وفي الميسرة عسكر الكرك، وفي القلب المنصورُ صاحب حماة، فدارت بين الفريقين حربٌ شديدة، انكسر فيها الملك المنصور، وفَرَّ الوزيري، وقُبِضَ على الظهير وجُرح، وأحاط الخوارزمية بالفرنجِ، ووضعوا فيهم السيف حتى أتوا عليهم قتلًا وأسرًا، ولم يُفلِت منهم إلا من شَرَد، فكان عدة من أسر منهم ثمانمائة رجل، وقتل منهم ومن أهل الشام زيادةٌ على ثلاثين ألفًا، وحاز الخوارزميَّة من الأموال ما يجِلُّ وصفُه، ولحق المنصورُ بدمشق في نفرٍ يسير، وقَدِمَت البشارة إلى الملك الصالح نجم الدين بذلك في خامس عشر جمادى الأولى، فأمرَ بزينة القاهرة ومصر وظواهِرِهما، وقلعتي الجبل والروضة، فبالغ الناسُ في الزينة، وضربت البشائر عدَّةَ أيام، وقَدِمَت أسرى الفرنج ورؤوسُ القتلى، ومعهم الظهيرُ بن سنقر وعِدَّة من الأمراء والأعيان، وقد أركب الفرنجُ الجمالَ، ومن معهم من المقَدَّمين على الخيول، وشَقُّوا القاهرة، فكان دخولُهم يوما مشهودًا، وعُلِّقَت الرؤوس على أبواب القاهرة ومُلِئَت الحبوس بالأسرى، وسار الأميرُ بيبرس، والأميرُ ابن أبي علي بعساكِرِهما إلى عسقلان، ونازلاها فامتَنَعَت عليهم لحصانتِها، فسار ابن أبي علي إلى نابلس، وأقام بيبرس على عسقلان، واستولى نوابُ الملك الصالح نجم الدين على غزة والسواحل، والقدس والخليل، وبيت جبريل والأغوار، ولم يبقَ بيد الناصر داود بن الملك المعظَّم سوى الكرك والملقاء، والصلت وعجلون.
أخذ الملكُ الصالحُ نجمُ الدين أيوب صاحِبُ مصر دمشقَ بعد أن حاصرها بمساعدةِ الخوارزميَّة، وكان الخوارزميَّة يظنون أنَّ السلطانَ إذا انتصر على عَمِّه الملك الصالح إسماعيل يقاسِمُهم البلادَ حتى دمشق، فلما منعوا من دمشقَ، وصاروا في الساحِلِ وغيره من بَرِّ الشام، تغيَّرت نياتُهم، واتفقوا على الخروجِ عن طاعة الملكِ الصالح نجم الدين، وساروا إلى داريا وانتهبوها، وكاتَبوا الأميرَ ركنَ الدين بيبرس وهو على غَزَّة بعسكرٍ جَيِّدٍ مِن عساكر مصر، وحَسَّنوا له أن يكونَ معهم يدًا واحدةً ويزوِّجوه منهم، فمال إليهم، وكاتبوا الناصِرَ داود صاحِبَ الكرك، فوافَقَهم ونزل إليهم واجتمع بهم وتزوَّج منهم، وعاد الناصرُ إلى الكرك واستولى على ما كان بيد الأمير حسامِ الدينِ بنِ أبي علي، من نابلس والقُدس والخليل، وبيت جبريلَ والأغوار، وخاف الصالحُ إسماعيل، فكاتب الخوارزميَّة وقَدِم إليهم، فحلفوا له على القيامِ بنُصرتِه، ونزلوا دمشقَ، فقام الأميرُ حسام الدين بن أبي علي بحفظِ البلدِ أحسَنَ قيام، وألحَّ الخوارزمية ومعهم الصالحُ إسماعيل في القتال ونهْبِ الأعمال، وضايقوا دمشقَ، وقطعوا عنها الميرةَ، فاشتَدَّ الغلاءُ بها، ومات كثيرٌ من الناس جوعًا، ثم عَدِمَت الأقواتُ بالجملة، وأكل الناسُ القِطَط والكلابَ والميتاتِ، ومات شخصٌ بالسجن فأكله أهلُ السِّجنِ! وهلك عالمٌ عظيم من الجوع والوباء، واستمر هذا البلاء ثلاثة أشهرٍ، وصار من يمُرُّ من الجبل يشتَمُّ ريحَ نتنِ الموتى، لعجز الناس عن مواراة موتاهم، وأخذ الملك الصالح نجم الدين مع ذلك في إعمالِ الحِيَل والتدبير، وما زال بالمنصور إبراهيمَ صاحب حمص حتى مال إليه، واتفق أيضًا مع الحلبيِّينَ على محاربة الخوارزميَّة، فخرج الملك الصالح نجم الدين من القاهرةِ بعساكِرِ مصر، ونزل العباسة، فوافاه بها رسلُ الخليفة، وهما محمَّد بن وجه السبع، وجمالُ الدين عبد الرحمن بن محيي الدين أبي محمد يوسف بن الجوزي في آخر شوال، ومعهما التقليدُ والتشريف الأسود: وهو عمامة سوداء وجبة وطوق ذهب، وفرس بمركوبٍ بحلية ذَهَب، فنصب المنبرَ، وصعد عليه جمال الدين عبد الرحمن محيي الدين بن الجوزي الرَّسول، وقرأ التقليدَ بالدهليز السلطاني، والملك الصالحُ نجم الدين قائم على قَدَميه، حتى فرغ من القراءة، ثم ركِبَ والملك الصالحُ نجم الدين بالتشريفِ الخليفتي، فكان يومًا مشهودًا، وكان قد حضر أيضًا من عند الخليفة تشريفٌ باسم الصاحب معين الدين بن شيخ الشيوخ، فوجد أنه قد مات، فأمر السلطانُ أن يفاض على أخيه الأميرِ فخرِ الدين يوسف بن شيخ الشيوخ، فلبسه، فلما بلغ الخوارزميَّةَ مسيرُ السلطان من مصر، ومسير الملك المنصور إبراهيم صاحِب حمص بعساكر حلب، رحلوا عن دمشق يريدون لقاء المنصورِ، فوجد أهلُ دمشق برحيلهم فَرَجًا، ووصلت إليهم الميرةُ، وانحلَّ السِّعرُ.
هو الإمامُ مفتي الإسلام تقي الدين أبو عمرو عثمان بن الإمام البارع أبي القاسم صلاح الدين عبد الرحمن بن عثمان بن موسى بن أبي نصر النصري الكردي، الشهرزوري، الشافعي. المعروف بابن الصلاح، مفتي الشام ومحدِّثُها، سمع الحديثَ ببلادِ الشَّرقِ وتفَقَّه بالموصِلِ وحلب وغيرها، وُلِدَ سنة 577 بشرخان – وهي قريةٌ من أعمال إربل قريبةٌ مِن شهرزور- تفقَّه على والِدِه صلاح الدين بشهرزور، وكان والدُه شيخَ تلك الناحية، ومدرِّسًا بالأسديَّة التي بحَلَب، وواقفها أسد الدين شيركوه بن شادي. قال ابن خلكان: "كان ابنُ الصَّلاحِ أحدَ فُضَلاء عصرِه في التفسير والحديثِ والفقه وأسماء الرجالِ وما يتعلق بعلم الحديثِ ونَقلِ اللغة، وكانت له مشاركةٌ في فنون عديدةٍ، وكانت فتاويه مسدَّدةً، وهو أحد أشياخي الذين انتفعتُ بهم. قرأ الفقه أولًا على والده الصلاح، وكان من جلَّة مشايخ الأكراد المشارِ إليهم، ثم نقله والدُه إلى الموصل واشتغل بها مدَّة، وبلغني أنه كرر على جميع كتاب " المهذَّب " ولم يطر شاربُه، بالموصل, ثم سافر إلى خراسان فأقام بها زمانًا وحصَّل علمَ الحديث هناك" قدم ابنُ الصلاح الشام وهو في عدادِ الفُضَلاء الكِبار، وأقام بالقُدسِ مُدَّة ودرس بالصلاحيَّة، ثم تحوَّل منه إلى دمشق، ودرس بالرواحيَّة ثم بدار الحديث الأشرفيَّة، وهو أول من وَلِيَها من شيوخ الحديثِ، وهو الذي صنَّف كتاب وقفِها، ثمَّ بالشامية الجوانيَّة، وقد صنف كتبًا كثيرةً مفيدةً في علوم الحديث- أشهرُها معرفةُ أنواع علوم الحديث المعروف بمقدِّمة ابن الصلاح، وله كتاب أدبُ المفتي والمستفتي- وفي الفقهِ، وله تعاليق حسنة على الوسيط وغيره من الفوائد التي يرحل إليها. كان ابن الصلاح إمامًا بارعًا، حجة، متبحرًا في العلوم الدينية، بصيرًا بالمذهب ووجوهه، خبيرًا بأصولِه، عارفًا بالمذاهبِ، جيدَ المادَّة من اللغة والعربية، حافظًا للحديث متفننًا فيه، حَسَن الضبطِ، كبيرَ القَدرِ، وافرَ الحُرمة، فكان عديمَ النظيرِ في زمانِه مع ما هو فيه من الدين والعبادة والنسك والصيانة، والورع والتقوى على طريق السَّلف الصالح، كما هو طريقة متأخري أكثر المحدِّثين، مع الفضيلة التامَّة في فنون كثيرة. قال ابن الحاجب في معجمه: " ابن الصلاح إمامٌ وَرِع، وافِرُ العقل، حسَنُ السَّمت، متبحِّرٌ في الأصول والفروع، بالغٌ في الطلب حتى صار يُضرَبُ به المثل، وأجهد نفسَه في الطاعة والعبادة. – قلت (الذهبي): وكان حسَنَ الاعتقاد على مذهَبِ السَّلف، يرى الكف عن التأويل، ويؤمِنُ بما جاء عن الله ورسوله على مرادِهما. ولا يخوض ولا يتعمَّق- وفي فتاويه: سئل عمن يشتغل بالمنطق والفلسفة؟ فأجاب: الفلسفة أسُّ السَّفه والانحلال، ومادة الحيرة والضلال، ومثار الزيغ والزندقة. ومن تفلسف عَمِيَت بصيرته عن محاسِنِ الشريعة المؤيَّدة بالبراهين. ومن تلبَّسَ بها قارنه الخِذلانُ والحِرمانُ، واستحوذ عليه الشَّيطانُ، وأظلم قلبُه عن نبوة محمَّد صلى الله عليه وسلم إلى أن قال(ابن الحاجب): واستعمال الاصطلاحات المنطقيَّة في مباحث الأحكام الشرعيَّة من المُنكَرات المستبشَعة، والرَّقاعات المستحدَثة، وليس بالأحكامِ الشرعيَّة- ولله الحمد- افتقارٌ إلى المنطق أصلًا، وهو قعاقِعُ قد أغنى الله عنها كلَّ صحيح الذهن؛ فالواجِبُ على السلطان أعَزَّه الله أن يدفَعَ عن المسلمينَ شَرَّ هؤلاء المشائيم، ويخرِجَهم من المدارس ويُبعِدَهم, ولابن الصلاح فتاوى مسددة, وكان معظَّمًا في النفوس، حَسَن البِزَّة، كثيرَ الهيبةَ، يتأدَّبُ معه السلطانُ فمَن دونه. تفقَّه عليه خلقٌ كثير، منهم: الإمام شمس الدين عبد الرحمن بن نوح المقدسي، والإمامُ شِهابُ الدين عبدُ الرحمن بن إسماعيل أبو شامة، والإمام كمال الدين سلار، والإمام كمال الدين إسحاق، والإمامُ تقيُّ الدين بن رزين قاضي الديار المصرية، والعلَّامة شمس الدين بن خَلِّكان قاضي الشام وغيرهم "ولم يزل على طريقةٍ جيِّدة حتى كانت وفاتُه بمنزلِه في دار الحديث الأشرفيَّة في سَحَر الأربعاء الخامس والعشرين من ربيع الآخر، وحُمِل على الرؤوس، وازدحم عليه الخلقُ، وكانت على جنازته هيبةٌ وخشوع، فصُلِّيَ عليه بالجامع، وشيعوه إلى عند باب الفرَج، فصُلِّيَ عليه بداخله ثانيًا، ورجع الناس لأجل حصار البلد بالخوارزميَّة، وما صَحِبَه إلى جبانة الصوفية إلا نحوُ العشرة.
كَثُرَت محاربة الصاحب معين الدين بن شيخ الشيوخ ومعه الخوارزمية الذين كان مجيئُهم بناءً على طلب الملك الصالحِ نجم ِالدين أيوب صاحبِ مصر، فحاصروا دمشقَ وقطعوا عنها الميرةَ فتضايقت البلدُ، ثم أحرقوا قصرَ الحجَّاج في ثاني محرم، ورمي بالمجانيق وألحَّ بالقتال، فأحرق الصالحُ إسماعيل صاحب دمشق في ثالثه عدَّة مواضع، ونُهِبَت أموال الناس، وجرت شدائدُ إلى أن أهل شهر ربيع الأول، ففيه خرج المنصورُ صاحب حمص من دمشق، وتحدَّثَ معه بركة خان مقدم الخوارزمية في الصَّفحِ، وكذلك طلبوا إلى ابن شيخ الشيوخ الأمانَ ثم قرر أن الصالح إسماعيلَ يسلِّم دمشق، على أن يخرج منها هو والمنصور بأموالهم، ولا يعرض لأحدٍ مِن أصحابهم ولا لشيءٍ ممَّا معهم، وأن يعوَّض الصالحُ إسماعيل عن دمشق ببعلبك وبُصرى وأعمالها، وجميع بلاد السواد، وأن يكون للمنصور حمص وتدمر والرحبة، فأجاب أمين الدولة وزير دمشق إلى ذلك، وحلف الصاحِبُ معين الدين وزير مصر لهم، فخرج الصالحُ إسماعيل والمنصور من دمشق، ودخل الصاحِبُ معين الدين في يوم الاثنين ثامن جمادى الأولى، ومنع الخوارزميَّة من دخول دمشق ودبَّرَ الأمير أحسَنَ تدبير، وأقطع الخوارزميَّة الساحلَ، وخطب بدمشق وبجامعِ دمشق وعامَّة أعمالها للمَلِك الصالح نجم الدين، وسلم أيضًا الأمير سيف الدين علي بن قلج قلعة عجلون لأصحاب الملك الصالح، وقدم إلى دمشقَ، فلما وردت الأخبارُ بذلك على الملك الصالح نجم الدين أنكر على الطواشي شهاب الدين والأمراء كيف مكَّنوا الصالح إسماعيل من بعلبك، وقال: إنَّ الصاحِبَ معين الدين حَلَف له، وأما أنتم فما حلفتم، وأمَرَ الملك الصالح نجم الدين أن يسيرَ ركن الهيجاوي، والوزير أمين الدولة السامري، تحت الحوطة إلى قلعة الروضة، فسُيِّرَا من دمشق إلى مصر، واعتُقِلا بقلعة الجبل فاتفق مرض الصاحبِ معين الدين ووفاته بدمشق، في الثاني والعشرين من شهر رمضان، فكتب السلطان إلى الأمير حسام بن أبي علي الهذباني، وهو بنابلس، أن يسير إلى دمشق ويتسلمها، فسار إليها وصار نائبًا بدمشق، والطواشي رشيد بالقلعة.
هو الإمام العلَّامة، شيخ القرَّاء والأدباء، عَلَمُ الدين أبو الحسن علي بن محمد بن عبد الصمد بن عبد الأحد بن عبد الغالب الهمذاني المصري السخاوي، ثم الدمشقي المقرئُ النحوي شيخُ القراء بدمشق، ولد سنة 558 وقيل سنة تسع وخمسين. كان قد اشتغل بالقاهرةِ على الشيخِ أبي محمد القاسم الشاطبي المقرئ، وأتقن عليه علم القراءات والنَّحو واللُّغة، وشرح قصيدتَه الشاطبيَّة، كان إمامًا في العربية، بصيرًا باللغةِ، فقيهًا مفتيًا عالمًا بالقراءات وعِلَلِها، مجوِّدًا لها، بارعًا في التفسير. صنف وأقرأ وأفاد، وروى الكثير، وبَعُد صيتُه، وتكاثر عليه القراء. وختم عليه ألوفٌ من الناس، وله شرحُ المفصَّل للزمخشري, وله تفاسير وتصانيف كثيرة، ومدائح في رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت له حلقةٌ بجامع دمشق، قال ابن خلكان: "رأيته بدمشقَ والناس يزدحمونَ عليه في الجامِعِ لأجل القراءة، ولا تصِحُّ لواحدٍ منهم نوبةٌ إلَّا بعد زمان، ورأيتُه مرارًا يركَبُ بهيمةً وهو يصعد إلى جبلِ الصالحين وحولَه اثنان وثلاثة وكل واحدٍ يقرأ ميعاده في موضعٍ غير الآخر، والكل في دفعةٍ واحدة، وهو يردُّ على الجميعِ، ولم يزل مواظبًا على وظيفته إلى أن توفِّيَ بدمشق" قال الذهبي: " وكان يترخَّصُ في إقراء اثنين فأكثَرَ، كل واحدٍ في سورة، وفي هذا خلافُ السنَّة، لأنَّنا أُمِرنا بالإنصاتِ إلى قارئٍ لنفهَمَ ونعقِلَ ونتدبر" ومع حلقته بجامع دمشق ولي مشيخةَ الإقراء بتربة أم الصالح، وبها كان مسكنُه ووفاته, وكان مع سعة علومِه وفضائله دَيِّنًا حَسَن الأخلاقِ، مُحبَّبًا إلى الناسِ، وافِرَ الحرمةِ، مُطَّرِحًا للتكلُّف، ليس له شغل إلا العلم ونشرُه. قال الإمام أبو شامة: "في ثاني عشر جمادى الآخرة، سنة 643، توفي شيخنا علم الدين علَّامة زمانه وشيخُ أوانه بمنزله بالتربة الصالحيَّة، وكان على جنازتِه هيبةٌ وجَلالةٌ وإخبات، ومنه استفدت علومًا جمة كالقراءات، والتفسير، وفنون العربية" ودُفِنَ بقاسيون، وهو غيرُ السخاوي المشهور بالحديث.
هو الشَّيخُ الإمامُ الحافِظُ القدوة المحقِّق، المجَوِّد الحُجَّة، بقية السلف، أبو عبد الله ضياء الدين، محمد بن عبد الواحد بن أحمد بن عبد الرحمن بن إسماعيل، السعدي المقدسي، الجماعيلي، ثم الدمشقي، الصالحي، الحنبلي، صاحبُ التصانيف والرحلة الواسعة. ولد سنة 569 بدمشق في الدير المبارك، بقاسيون، سمع الحديث الكثير وكتب كثيرًا, وطوَّفَ بالبلاد وبَقِيَ في الرحلة المشرقيَّة مدَّة سنين، وحصَّل فيها الأصولَ الكثيرة وجرَّح وعدَّل، وصحَّح وعلَّل، وقيَّد وأهمل، مع الديانة والأمانة والتقوى، والصيانة والورع والتواضُع، والصدق والإخلاص وصحَّة النقل. وجمَع وصَنَّف، وألف كتبًا مفيدةً حسنة كثيرة الفوائد، من ذلك كتابُ الأحكام ولم يتِمَّه، وكتاب المختارة وفيه علوم حسنة حديثيَّة، وهي أجودُ من مستدرك الحاكم لو كَمُل، وله فضائِلُ الأعمال, وفضائل القرآن ومناقبُ أهل الحديث، وغيرُ ذلك من الكتب الحَسَنة الدالَّة على حِفظِه واطِّلاعِه وتضلُّعِه من علوم الحديث متنًا وإسنادًا، قال الذهبي: "ولم يزَلْ ملازمًا للعلم والرواية والتأليفِ إلى أن مات، وتصانيفُه نافعة مهذبة. أنشأ مدرسةً إلى جانب الجامِعِ المظفري، وكان يبني فيها بيَدِه ويتقنَّع باليسير، ويجتهِدُ في فعل الخير ونشْرِ السنَّة، وفيه تعبٌد وانجماع عن الناس، وكان كثيرَ البر والمواساة، دائِمَ التهجد، أمَّارًا بالمعروف، بهيَّ المنظر، مليحَ الشَّيبة، محببًا إلى الموافق والمخالف، مشتغلًا بنَفسِه" قال الحافظ شرف الدين يوسف بن بدر: "رحم الله شيخَنا ابن عبد الواحد، كان عظيمَ الشأن في الحفظِ ومعرفة الرجال، هو كان المشارَ إليه في علم صحيح الحديث وسقيمه، ما رأت عيني مِثلَه". وقال عمرُ بنُ الحاجِبِ: "شيخنا الضياء شيخُ وقته، ونسيجُ وحده علمًا وحفظًا وثقةً ودينًا، من العلماء الربانيين، وهو أكبر من أن يدِلَّ عليه مثلي" وقد وقف كتبًا كثيرة عظيمةً لخزانة المدرسة الضيائيَّة التي وقفها على أصحابِهم من المحدِّثين والفقهاء. توفي بدمشق.
هو الإمامُ الحافظُ الكبيرُ، محَدِّث العراق، ومؤرِّخُ العصر، محبُّ الدين، أبو عبد الله محمَّد بن محمود بن حسن بن هبة الله بن محاسن بن النجار البغدادي, مولِدُه سنة 578. كان والدُه مقدمَ النجَّارين بدار الخلافة، وكان من العوام. أولُ سماع لابن النجار سنة ثمان وثمانين، وأول دخولِه في الطلب وهو حَدَثٌ سنة ثلاث وتسعين، سمع الكثيرَ ورحل شرقًا وغربًا، وهو صاحب كتاب ذيل التاريخ المعروف جعَلَه ذيلًا لتاريخ بغداد للخطيب البغدادي. قال ابن النجار في أول (تاريخه): "كنت وأنا صبيٌّ عَزَمتُ على تذييل (الذيل) لابنِ السَّمعاني، فجمعتُ في ذلك مسوَّدة، ورحلت وأنا ابن ثمان وعشرين سنة، فدخلت الحجازَ والشام ومصر والثغر وبلاد الجزيرة والعراق والجبال وخراسان، وقرأت الكتبَ المطولات، ورأيتُ الحفَّاظَ، وكنتُ كثير التتبُّع لأخبار فضلاء بغداد ومَن دخَلَها". قال الذهبي: "ساد ابنُ النجَّار في هذا العلم, واشتهر، وكتب عمَّن دَبَّ ودرج من عالٍ ونازل، ومرفوعٍ وأثَر، ونظمٍ ونَثر، وبرَعَ وتقدم، وصار المشارَ إليه ببلده، ورحل ثانيًا إلى أصبهان في حدود العشرينَ، وحجَّ وجاور، وعمل (تاريخًا) حافلًا لبغداد ذيَّلَ به على الخطيب واستدرك عليه فيه، وهو في مائتي جزء، ينبئ بحِفظه ومعرفتِه، وقد قرأتُ عليه (ذيل التاريخ) وكان مع حفظِه فيه دينٌ وصيانةٌ ونُسُك". وقد شرع في كتابة التاريخ وعمره خمس عشرة سنةً، وقرأ بنفسِه على المشايخِ كثيرًا حتى حصل نحوًا من ثلاثة آلاف شيخٍ، من ذلك نحوٌ من أربعمائة امرأة، وتغَرَّب ثماني وعشرين سنة، ثم جاء إلى بغداد وقد جمع أشياءَ كثيرة، من ذلك القَمَر المنير في المسند الكبير، يذكُرُ لكلِّ صحابيٍّ ما روى، وكَنز الأيام في معرفة السُّنَن والأحكام، والمختَلِف والمؤتَلِف، والسابق واللاحق، والمتَّفِق والمفترِق، وكتاب الألقاب، ونهْج الإصابة في معرفة الصَّحابة، والكافي في أسماء الرِّجال، وغير ذلك مما لم يتمَّ أكثرُه, وله أخبارُ مكَّة والمدينة وبيت المقدس، وغُرَر الفوائد وأشياء كثيرة جدًّا، وذكر أنَّه لما عاد إلى بغداد عُرِضَ عليه الإقامة في المدارس فأبى وقال: معي ما أستغني به عن ذلك، وكانت وفاتُه يوم الثلاثاء الخامس من شعبان، وله من العمر خمسٌ وسبعون سنة وصُلِّيَ عليه بالمدرسة النظامية، وشهِدَ جنازته خلقٌ كثير، وكان ينادى حول جنازته هذا حافِظُ حديث رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، الذي كان ينفي الكذبَ عنه، ولم يترك وارثًا.
قَدِمَت الرسلُ من عند البابا تخبِرُ بأنه قد أباح دمَ الأبدور ملكِ الفِرنجِ في القُدسِ لتهاونِه في قتال المسلمين، وأرسل البابا طائفةً مِن عنده ليقتُلوه، فلما انتهوا إلى المَلِك كان قد استعَدَّ لهم وأجلس مملوكًا له على السَّريرِ فاعتقدوه المَلِكَ فقتلوه، فعند ذلك أخَذَهم الأبدور فصَلَبَهم على باب قَصرِه بعد ما ذبحَهم وسلخَهم وحشى جلودَهم تبنًا، فلما بلغ ذلك البابا أرسَلَ إليه جيشًا كثيفًا لقتاله فأوقع الله الخلافَ بينهم بسبب ذلك.
بعد رحيل الخوارزميَّة عن دمشق بعدما حاصروها حين أرسلَ الملك الصالحُ نجمُ الدين أيوب مِن مصرَ جيشًا لقتالهم وبعد تحالُفِ بيبرس معهم، وكذلك صاحب حمص، وكذلك الصالح إسماعيلُ كُلُّهم ضد صاحِبِ مصر، حيث أرسل الملِكُ الصالح أيوب القاضي نجمَ الدين محمد بن سالم النابلسي، المعروف بابن قاضي نابلس- وكان متقدمًا عنده- إلى مملوكِه الأمير ركن الدين بييرس، فما زال يخدعُه ويُمَنِّيه، حتى فارق الخوارزميَّة، وقَدِمَ معه إلى ديار مصرَ، فاعتُقِلَ بقلعة الجبل، وكان آخِرَ العهد به، فالتَقَوا مع الملك المنصورِ إبراهيم صاحِبِ حمص وعساكر حلب، وقد انضَمَّ إليهم عربٌ كثيرٌ وتركمان؛ نُصرةً للملك الصالحِ نجم الدين، وذلك بظاهِرِ حمص أوَّلَ يومٍ مِن المحرم، وقيل ثانِيَه، فكانت بينهم وقعةٌ عظيمةٌ انهزم فيها الخوارزميَّة هزيمةً قبيحة، تبَدَّد منها شملُهم، ولم يقُمْ لهم بعدها قائمةٌ، وقُتِلَ مُقَدَّمُهم بركة خان وأُسِرَ كثيرٌ منهم واتَّصلَ مَن فرَّ منهم بالتَّتار، ووردت البشرى بهذه الهزيمةِ إلى السلطانِ الملك الصالحِ نجم الدين أيوب في المحَرَّم، فزُيِّنَت القاهرة ومِصرُ والقلعتان،
هو الملك المنصور، ناصر الدين إبراهيم بن الملك المجاهد أسد الدين شيركوه الصغير بن محمد بن أسد الدين شيركوه الكبير. كان الملك المنصور بطلًا شجاعًا مُتواضعًا، عاليَ الهمة، وافر الهيبةِ. كان في بدايةِ أمرِه موافقًا للمَلِك الصالح إسماعيلَ ومُصاهِرًا له، سار بعَسكرِه وعسكر حلب، وعمل المصاف مع الخوارزمية والمظفر صاحب ميافارقين، فالتَقَوا في صفَر سنة أربعين، فهزمهم المنصورُ أقبَحَ هزيمةٍ، وتعثَّرت الخوارزميَّة، ونزل المنصورُ في مخيَّم المظفَّر، واحتوى على خزائنِه، توفي الملك المنصورُ بدمشق في يوم الأربعاء حاديَ عشر صفر حيث كان يريد المسيرَ إلى مصر داخلًا في طاعة الصالحِ نجمِ الدين صاحب مصر بعد ما جرى بينهم من الخلافِ والحربِ، ثمَّ حُمِلَ في تابوت إلى حمص ودُفِنَ هناك، وكانت سلطنتُه ست سنين ونصفًا، وقام بعده على حمص ولَدُه الأشرف موسى، فأقام بها سنتين وشهورًا وأُخِذَت منه.
بعد وفاة "جنكيز خان" سنة 624 (1226م)، ظل مكانُه خاليًا مدَّة عامين، كان يقومُ خلالها الابنُ الأصغرُ "تولوي" بحكمِ الإمبراطوريَّة المغوليَّة بصفتِه وصيًّا على العرش، إلى أن اجتمَعَ كبار أمراء البيت الحاكم، وأجمعوا على اختيار "أوكتاي" خاقانًا للمغول خلفًا لأبيه جنكيز خان. واستمر أوكتاي يحكمُ المغول ثلاثَ عشرة سنة إلى أن تُوفي سنة 639 (1241م) بعد أن أتمَّ المغول في عهده فتحَ الصين الشمالية وجنوب روسيا وبلاد فارس؛ حيث قضى المغول على الدولة الخوارزميَّة. وبعد وفاته تمكَّنَت زوجته النصرانية "توراكينا خاتون" من أن تحافِظَ على عرش المغولِ لابنها "كيوك" الابنِ الأكبر لأوكتاي، وعَمِلَت في الفترة التي باشرت فيها الحكم بعد وفاة زوجِها على تحقيق هذا الغرض، فاستمالت قلوبَ كبارِ أمراء البيتِ الحاكِمِ، حتى إذا أدركت أن الفرصة قد سنحت لتحقيقِ ما تصبو إليه، دَعَت إلى عقد مجلس الشورى (القوريلتاي) لانتخابِ الخان الجديد، وحضر حفلَ تنصيب الخان في "قرا قورم" وفودٌ من مختَلِف أرجاء مملكتِهم. وفي هذا الاجتماعِ انتُخِبَ كيوك خانًا أعظَمَ للمغول، وذلك في التاسع من ربيع الآخر 644 (24 من أغسطس 1246م).
أرسل البابا سفارةً ثانية، غادرت ليون ووصَلَت منغوليا وحضرت حفلَ تتويج "كيوك خان" على عرشِ المغولِ في مدينة "قرا قورم" عاصمة المغول في 9 من ربيع الآخر 644 (24 من أغسطس 1246م)، وقد أكرم كيوك خان وفادةَ سفارة البابا، وردَّ على المطالب البابويَّة بالرَّفضِ، وطلب من البابا أن يخضَعَ هو وسائِرُ ملوك أوروبا المسيحيين للسيادة المغوليَّة.
سار الأميرُ حسام الدين بنُ أبي علي الهذباني من دمشق، واستولى على بعلبكَّ بغير حربٍ في رجب، وحَمَل منها الملك المنصورُ نورَ الدين محمود بن الملك الصالح إسماعيل، وأخَذَه الملك السعيدُ عبد الملك إلى الديار المصريةِ تحت الاحتياط، ثمَّ صَلَحت الحالُ بين السلطانِ الصالح نجمِ الدين أيوب وبين المنصور صاحِبِ حمصَ والناصِر صاحب حلب، واتفَقَت الكلمة وبَعَث الصالح نجم الدين أيوب إلى حلب يطلب تسليمَ الصالح إسماعيل، فلم يجِبْ إلى تسليمه وأخرج السلطانُ عسكرًا كبيرًا، قدَّمَ عليه الأمير فخرَ الدين يوسف بن شيخ الشيوخ وسَيَّرَه لمحاربة الكرك، فسارَ إلى غزة، وأوقع بالخوارزميَّة، ومعهم الناصرُ داود صاحِبُ الكرك في ناحيةِ الصَّلت، وكَسَرَهم وبدَّدَ شَملَهم، وفَرَّ الناصِرُ إلى الكرك في عِدَّة، وكانت الكسرةُ على الصلت في ربيع الآخر، وسار فخر الدين عنها بعد ما حَرَقها واحتاط على سائِرِ بلاد الناصِرِ، وولى عليها النوَّابَ ونازل فخرُ الدين الكركَ، وخرَّبَ ما حولها، واستولى على البلقاء، وأضعف الناصرَ حتى سأله الأمان، فبعث فخرُ الدين يطلُبُ منه مَن عنده مِن الخوارزميَّة، فسَيَّرَهم الناصِرُ إليه، فسار عن الكركِ وهم في خدمتِه ثمَّ نازل فخرُ الدين بُصرى، حتى أشرفَ على أخْذِها، فنزل به مرض أشفى منه على الموتِ وحُمِل في محفَّة إلى القاهرة، وبقِيَ العسكَرُ حتى استولوا عليها، وقَدِمَ المنصورُ إبراهيم صاحِبُ حمص إلى دمشق منتميًا إلى السلطانِ الملك الصالحِ نجم الدين أيوب فنزل به مرض مات به في صَفَر.
خرج السُّلطانُ الملك الصالح نجمُ الدين أيوب بالعساكِرِ في شوال يريدُ دمشق واستناب بديارِ مِصرَ الأميرَ حُسام الدين بن أبي علي، فدخل إلى دمشقَ في سابع عشر ذي القعدة، وكان دخولُه يومًا مشهودًا، فأحسن إلى النَّاسِ، وخلع على الأعيانِ، وتصَدَّقَ على أهل المدارِسِ والرُّبُط وأرباب البيوت وسار بعد خمسة عشر يومًا إلى بعلبكَّ، فرَتَّبَ أحوالها، وسار إلى بُصرى، وقد تسَلَّمها نوابُ السلطان أيوب من الأمير شهاب الدين غازي، نائبِ الملك الصالح إسماعيل، فتصَدَّقَ على مدارس بصرى ورُبُطِها وأرباب البيوت وجَهَّز السلطانُ الأميرُ ناصر الدين القيمري، والصاحِبُ محي الدين بن مطروح، إلى صلخد، وبها الأميرُ عز الدين أيبك المعظمي، فما زالا به حتى سلَّم صلخد، وسار إلى مصر، وتصَدَّق السلطانُ في القدس بألفي دينار مصرية، وأمر بذرع سور القدس، فكان ذراعه ستة آلاف ذراع بالهاشمي، فأمر بصرف غلَّات القدس في عمارتِه، وإن احتاج إلى زيادةٍ حُمِلَت من مصر.
بعد أن استخلص المسلمونَ بيتَ المقدس من يد الفرنجِ وبلغ الخبَرُ إلى أوربا لاستنفارِ أُمَرائِها وملوكِها، انعقد مجلسٌ كَنَسي في ليون تقَرَّر فيه إرسالُ حملة صليبيَّة سابعة بزعامة ملك فرنسا لويس التاسع المشهور بوَرَعِه حتى لُقِّبَ بالقديس، فأعَدَّ هذا الملك العُدَّة وجهَّز جيشًا أبحر أواخِرَ هذه السنة متجهًا إلى الشرقِ، وقد تم وصولُ خبر هذه الحملة إلى الملك الصالحِ نجمِ الدين أيوب صاحبِ مصرَ عن طريق ملك ألمانيا فردريك الثاني.
في الوقتِ الذي خَرَجت فيه السفارة الثانية للمغول في 9 من ربيع الآخر 644 (24 من أغسطس 1246م) كانت هناك سفارة ثالثة خرجت في إثرِها، ضَمَّت رهبانًا من جماعة "الدومنيكان" وأوكلَت إليها مهمَّة مختلفة عن مهمَّة السفارتينِ السَّابقتَينِ، فقد أمَرَ البابا هذه السفارةَ أن تَصِلَ إلى أوَّلِ جيشٍ مغوليٍّ تُقابِلُه في فارس، وأن يحضَّ قائدَه على الامتناعِ عن نَهبِ النَّاِس، وبخاصَّةٍ النَّصارى منهم، وأن يعتَنِقَ النصرانيَّة، وأن يتوبَ عن خطاياه، فالتَقَت السِّفارةُ بجيشِ المغولِ في "تبريز" في 17 من المحرم 645 (24 من مايو 1247م) وكان ردُّ قائد الجيشِ المغولي أنَّ رسالة البابا أدَّت إليه النصيحةَ بعدم القتلِ، وأنَّه يرفُضُ دعوته إلى اعتناقِ النصرانية، وعلى البابا وملوكِ أوروبا أن يُعلِنوا خضوعَهم لسلطانِ المغول. ومِن ثمَّ لم تؤدِّ السفاراتُ الثلاث ما كان يطمَحُ له البابا من جذبِ المغول الوثنيِّين إلى النصرانيَّة ووقوفِهم معه ضِدَّ المسلمين.
سار الأميرُ فخر الدين بن شيخ الشيوخ أمير عسكر المَلِك الصالحِ نجم الدين أيوب صاحِب مصرَ بعسكرٍ إلى طبرية، ونزلت الجيوشُ لحصار الفرنج ففَتَحَت طبريَّةَ عَنوةً في عاشر صفر، وفَتَحَت عسقلان بعدَ حصارٍ شديد وأُخِذَت من يد الفرنجِ في أواخِرِ جُمادى الآخرةِ.
قايض الملكُ الأشرف موسى صاحِبُ حمص تل باشر بحمص مع الملك الناصِر يوسُفَ بنِ العزيز بن الظاهر بن صلاح الدين، صاحِبِ حلب؛ ولذلك خرج الملكُ الصالح نجم الدين أيوب صاحِبُ مصر من مصرَ بالعساكِرِ إلى دمشقَ وجَهَّزَ الجيوشَ والمجانيقَ إلى حمص، ولَمَّا عَلِمَ الحلبيونَ بخروج الدماشِقة برزوا أيضًا في جَحفلٍ عظيمٍ ليَمنَعوا حمصَ منهم، واتَّفَق وصول الشيخِ نجم الدين البادرائي مدرس النظاميَّة ببغداد في رسالةٍ مِن الخليفة العباسي للإصلاحِ بين الطرفين فأصلَحَ بين الفريقين، وردَّ كلًّا من الفئتينِ إلى مستقَرِّها.