قام أميرُ دولة القرمان علاءُ الدين وبعضُ الأمراء المستقلين بحَربِ الدَّولةِ العثمانية فأرسل لهم مرادٌ الأول جيشًا انتصر عليهم في سهل قونية، وأخذ الأميرَ علاء الدين أسيرًا، غير أنَّ ابنته زوجةَ السلطان قد توسطت له فأطلَقَ سَراحَه وأبقى له إمارتَه، ولكنه فرض عليه دفع مبلغٍ من المال سنويًّا.
في يوم الأربعاء سابعَ عشر جمادى الآخرة قَدِمَ الخبر بأن شواني الأمير ألطنبغا الجوباني سارت من ثغر دمياط في بحرِ الملح، فوجدوا مركبًا فيه الفرنج الجنوية، فأخذوه وأسَروا منهم خمسة وثلاثين رجلًا، وقتلوا منهم جماعةً، ثم قدمت الشواني إلى شاطئ النيل ببولاق خارج القاهرة بالأسرى والغنيمة، فعُرِضَت الأسرى من الغدِ على السلطان.
في المدَّة ما بين782 إلى 786, استولى تيمورلنك على خراسان وجرجان ومازندران وسجستان وأفغانستان، وفارس وأذربيجان وكردستان، ثمَّ في هذا العام دَبَّ الخلاف بين تيمورلنك وبين توقتاميش؛ إذ هاجم الأخيرُ ضواحيَ سمرقند ولم يكُنْ تيمورلنك فيها، فلما عاد تيمورلنك إلى قاعدة حكمه في سمرقند رجع توقتاميش إلى بلاده، ولم يمضِ طويلُ وقت حتى عاد توقتاميش للإغارةِ مَرَّةً أخرى على سمرقند؛ ممَّا شجع خوارزم على إعلان العصيان على تيمورلنك وتراجع توقتاميش بنيَّة استدراج تيمورلنك إلى سيبريا؛ لينقَضَّ عليه هناك، فسار تيمورلنك نحوَ الجرجانية إحدى مدن خوارزم، وفعل بأهلها الأفاعيل ليُرهِبَ به الأعداء، ثم إن تيمورلنك وتوقتاميش التقَيَا على نهر أورال وانتصر تيمورلنك في هذه المعركة، وتابع تيمورلنك مسيرَه ففتح مدينة سراي عاصمة مغول الشمال أو القبيلة الذهبية.
هو السُّلطانُ موسى ابن السلطان أبي عنان فارس بن أبي الحسن المريني مَلِك المغرب صاحب مدينة فاس وما والاها، توفي في جمادى الآخرة، وأقيم بعده المستنصر محمد بن أبي العباس أحمد المخلوع، ابن أبي سالم فلم يَتِمَّ أمرُه وخُلِعَ بعد قليل، وأقيم الواثق محمد بن السلطان أبي الحسن، كل ذلك بتدبير الوزير ابن مسعود، وهو يوم ذاك صاحب أمر فاس.
هو الخليفةُ العباسي الواثِقُ عُمَرُ ابن الخليفة المستعصم بالله أبي إسحاق إبراهيم بن المستمسك بالله أبي عبد الله محمد بن الإمام الحاكم بأمر الله أبي العباس أحمد بن الحسن بن أبي بكر بن أبي علي إسحاق بن علي القبي. في يوم الاثنين الخامس والعشرين من شوال استدعى السلطانُ برقوق زكريَّا ابنَ الخليفة المعتصم بالله وأعلمه أنَّه يريد أن ينصِبَه في الخلافةِ بعد وفاة أخيه الواثق بالله عمر، ثم استدعى السلطانُ القضاة والأمراء والأعيان، فلما اجتمعوا أظهر زكريا المذكور عَهدَ عَمِّه المعتضد له بالخلافة، فخلع السلطانُ عليه خِلعةً غير خلعة الخلافةِ ونزل إلى داره، فلما كان يوم الخميس الثامن والعشرين منه طلع الخليفة زكريا إلى القلعةِ وأحضر أعيانَ الأمراء والقضاة والشيخ سراج الدين عمر البلقيني، فبدأ البلقينيُّ بالكلام مع السلطان في مبايعة زكريا على الخلافةِ، فبايعه السلطان أولًا، ثم بايعه من حضر على مراتِبِهم، ونُعِتَ بالمستعصم بالله، وخُلِعَ عليه خِلعةُ الخلافة على العادة، ونزل إلى داره وبين يديه القضاة وأعيان الدولة، ثم طلع زكريا في يوم الاثنين ثاني ذي القعدة وخلع عليه السلطان ثانيًا بنَظَرِ المشهد النفيسي على عادة من كان قبلَه مِن الخلفاء.
كان جركس الخليلي أميرًا على الحاج، وكان السلطانُ أوصاه بعَزلِ الصبي المنصوب الشريف محمد أحمد بن عجلان وأن يستبدلَ به الشَّريفَ أبي عنان بن مغامس، والقبض على عمِّ الصبي كبيش بن عجلان، ولما وصل الحاجُّ إلى مكة وخرج الصبيُّ لتلَقِّي المَحمَل الخلافي، وقد أرصد الرجال للبطش بكبيشٍ وأميره المنصوبِ، فقعد كبيش عن الحضور، وجاء الصبي وترجَّلَ عن فَرَسِه لتقبيلِ خُفِّ الجَمَل الذي عليه المحمل كالعادة، وثب به أولئك المُرصَدون طعنًا بالخناجر يظنونَه كبيشًا, وفَطِنَ كبيش لذلك فجمع عساكِرَه وخرج من مكة بهم خوفًا على نفسِه وخوفًا على الحاجِّ من النهب, وحجَّ النَّاسُ آمنين، وأقام الأمراءُ لابسين السلاح سبعة أيام؛ خوفًا من الفتنة، فلم يتحَرَّكْ أحد، وقرر جركس الخليلي الشريف أبي عنان خِلعَتَه، وتسَلَّم مكة، وخطب له بها. ثم التقى كبيش بن عجلان ببطا الخاصكي رأس المبشرين، فقال له: أعلِمِ السلطانَ أنني طائعٌ، وأنني منعت العَرَبَ مِن نهب الحاجِّ، وأنني لا أرجع عن طَلَبِ ثأري من غريمي الشَّريفِ أبي عنان، وفَرَّقَ الخليلي بمكة صدقاتٍ كثيرةً جدًّا.
أرسل السلطانُ الظاهر برقوق من يستجلي أخبارَ تيمورلنك، فجاءت الأخبار وورد البريد بأنَّ تيمورلنك كبس قرا محمد وكَسَره، ففَرَّ منه في نحو مائتي فارس، ونزل قريب ملطية، ونزل تيمورلنك على آمد، فاستدعى السلطانُ القضاة والفقهاء والأمراء وتحدث في أخذ الأوقافِ من الأراضي الخراجيَّة، فكَثُر النِّزاعُ، وآل الأمر إلى أنه يأخُذُ مُتحَصَّل الأوقاف لسنةٍ، ورسم السلطانُ بتجهيز أربعة من الأمراء الألوف، وهم الأميرُ ألطنبغا المعلم أمير سلاح، والأمير قردم الحسني، والأمير يونس الدوادار، والأمير سودن باق، وسبعة من أمراء الطبلخاناه، وخمسة من أمراء العشرات، فتجهزوا وعُيِّنَ معهم من أجناد الحلقة ثلاثمائة فارس، وخرجوا من القاهرة في أول رجب، فساروا إلى حلب، وبها يومئذٍ في نيابة السلطنة سودن المظفري، وقَدِمَ الخبَرُ بوقعة بين قرا محمد وولد تيمورلنك انكسَرَ فيها ابن تيمورلنك، وفي تاسع عشر رجب رُسِمَ للقاضي جمال الدين محمود محتَسِبِ القاهرة بطلبِ التجَّار وأرباب الأموال، وأخْذِ زكَوات أموالهم، وأن يتولى قاضي القضاة الحنفية شمس الدين محمد الطرابلسي تحليفَهم على ما يدَّعونَ أنَّه مِلكُهم، فعُمِلَ ذلك يومًا واحدًا، ثم رد عليهم ما أُخِذَ منهم وبَطَل، فإنَّ الخبَرَ ورد برجوع تيمورلنك إلى بلادِه.
خُلع الواثِقُ محمد بن أبي الفضل بن أبي الحسن، وأعيد السلطانُ المخلوع أبو العباس أحمد بن أبي سالم إبراهيم بن أبي الحسن، وكان منفيًّا في غرناطة بعد أن خلع سنة 786، فملك فاس في خامس رمضان، وحُمِلَ الواثق إلى طنجة، فسُجِنَ بها ثم قتل، وكلُّ هذه الأمور حدثت بتدبير الوزير بن ماساي؛ مما دعا أبا العباس أحمد إلى قَتْلِه.
خرج الأميرُ يلبغا الناصري نائِبُ حلب عن طاعة السلطان برقوق؛ وذلك لأن السلطان أصلًا كان من مماليكِه، فأبى أن يكونَ مِن تابعيه، وخاصةً أنَّ السُّلطانَ كان يقبض على الكثير من الأمراء بأدنى ريبةٍ؛ مِمَّا أوغر صدورَهم تجاهه، وانضمَّ إلى يلبغا أمير ملطية الأمير تمربغا الأفضلي المعروف باسم منطاش، فأرسل السلطان العساكِرَ لإعادتهم إلى الطاعة، ثمَّ في حادي عشر من جمادى الأولى ورد صراي تَمُر- دوادار الأمير يونس الدوادار، ومملوك نائب حلب - على البريد بأن العسكَرَ توجَّه إلى سيواس، وقاتل عسكَرَها، وقد استنجدوا بالتترِ، فأتاهم منهم نحو الستين ألفًا، فحاربوهم يومًا كاملًا وهزموهم، وحصروا سيواس بعدما قُتِلَ كثير من الفريقين وجُرح معظمهم، وأنَّ الأقواتَ عندهم عزيزةٌ، فجهَّز السلطان إلى العسكر مبلغ خمسين ألف دينار مصرية، وسار بها تُلَكتمُر الدوادار في السابع والعشرين، ثم إن العسكر تحركوا للرحيلِ عن سيواس، فهجم عليهم التتار من ورائهم، فبرز إليهم الأمير يلبغا الناصري نائب حلب، وقَتَل منهم خلقًا كثيرًا، وأسر نحو الألف، وأخذ منهم العسكرُ نحو عشرة آلاف فرس، وعادوا سالمين إلى جهة حلب.
هو الإمامُ العلَّامة أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الغرناطي الشاطبي، نسبةً إلى شاطبة بالأندلس، ولد بغرناطة ونشأ بها, كان من علماء الأصول والحديث، بارعًا في العلوم وخاصة الأصول، كان من علماء المالكية، له تصانيف أشهرُها: كتاب الموافقات، وهو في أصول الفقه، وكتاب الاعتصام الذي عالج فيه موضوع البِدَع، وله الإفادات والإنشادات، ورسالة في الأدب والطرف، وشرح الألفية، وأصول النحو، وغيرها.
هو الشَّيخُ بهاءُ الدين محمد بن محمد البخاري النقشبندي، مؤسِّسُ الطريقةِ النقشبندية الصوفية المعروفة، يزعُمُ أنَّ مدارَها تصحيح العبودية ودوام العبادة لله ودوام الحضور مع الحَقِّ سُبحانَه، وأنَّ الطريقَ إلى هذا هو الذِّكرُ والمراقبة والرابطة بالشيخ والتخلي عن كلِّ شَيءٍ إلَّا عن محبته، وتتَّبِعُ هذه الطريقةُ التخلِّيَ أو الخلوة، وتوجيه الباطن إلى الله عن طريق الرابطة بالشيخ، وهي ما يسمُّونه الرابطة الشريفة، ولهم أورادٌ يتداولونها حَسَبَ طريقتِهم هذه، وحضرات كما لغيرهم من الصوفية، وقد تفَرَّع عن هذه الطريقة عِدَّةُ طُرُق مثل المحمدية والأحمدية، والزبيرية والمظهرية، وغيرها.
قام السُّلطانُ الظاهر برقوق بإعادةِ الخليفة المتوكِّل للخلافة بعدما كان قد خلعه عام 785, وسجنه بقلعة الجبل وقتَها، ولَمَّا أحَسَّ بالخطر الذي حَوْلَه من عصيان الناصري عليه والأمراء الذين معه؛ لعله أراد بذلك كسب الرضا أكثر، ففي يوم الجمعة عاشر جمادى الأولى من هذه السنة خُطِبَ للخليفة المتوكل على الله أبي عبد الله محمد، فإنَّه أعيد إلى الخلافة ثم قرئ تقليدُه في الثاني عشر بالمشهد النفيسي، وحضره القضاةُ ونائب السلطنة.
عصى الأميرُ يلبغا الناصريُّ نائِبُ حَلَب على السلطان برقوق، وأمر السلطانُ بخروج العسكر إليه، ولكن الأمير قرابغا فرج الله والأمير بزلار العمري الناصري والأمير دمرداش اليوسفي والأمير كمشبغا الخاصكي الأشرفي وآقبغا قبجق، اجتمع معهم عدَّةٌ كثيرة من المماليك المنفيِّين بطرابلس، وثبوا على نائبها الأمير أسندمر المحمدي وقبضوا عليه، وقتلوا من أمراءِ طرابلس الأميرَ صلاح الدين خليل بن سنجر وابنه، وقبضوا على جماعةٍ كبيرة من أمراء طرابلس، ثمَّ دخل الجميعُ في طاعة الناصري، وكاتبوه بذلك ومَلَكوا مدينة طرابلس، ثمَّ إنَّ مماليك الأمير سودون العثماني نائِبِ حماة اتَّفَقوا على قتله، ففر منهم إلى دمشق، وأنَّ الأمير بيرم العزي حاجِبَ حجَّاب حماة سَلَّم حماة إلى الأمير يلبغا الناصري ودخل تحت طاعته، ثم تواترت الأخبار على السلطان بدخول سائر الأمراء بالبلاد الشاميَّة والمماليك الأشرفيَّة واليلبغاوية في طاعة الناصري، وكذلك الأميرُ سولي بن دلغادر أمير التركمان، ونعير أمير العربان، وغيرهما من التركمان والأعراب، دخل الجميعُ في طاعة الناصري على محاربة السلطانِ الملك الظاهر برقوق، وأنَّ الناصري أقام أعلامًا خليفتيَّة، وأخذ جميعَ القلاع بالبلاد الشاميَّة، واستولى عليها ما خلا قلعةَ الشام وبعلبك والكرك، ثم في يوم الثلاثاء أول ربيع الآخر قَدِمَ البريد بأنَّ الأمير كمشبغا المنجكي نائِبَ بعلبك دخل تحت طاعة يلبغا الناصري، وكذلك في خامِسِه قَدِمَ البريد بأن ثلاثة عشر أميرًا من أمراء دمشق ساروا إلى حلب ودخلوا في طاعة الناصري، وأما العسكر المصري الظاهري فإنه سار من غزَّةَ حتى دخل دمشق في يوم الاثنين سابع شهر ربيع الآخر، ودخلوا دمشق بعد أن تلقَّاهم نائبها الأمير حسام الدين طرنطاي، ودخلوا دمشق قبل وصول الناصري بعساكره إليها بمدة، وأقبل المماليكُ السلطانية على الفَسادِ بدمشق، واشتغلوا باللَّهوِ، وأبادوا أهلَ دمشق، حتى سَئِمَتهم أهل الشام وانطلقت الألسنةُ بالوقيعة فيهم وفي مُرسِلِهم، وبينما هم في ذلك جاءهم الخبَرُ بنزول يلبغا الناصري بعساكره على خان لاجين خارج دمشق في يوم السبت تاسع عشر شهر ربيع الآخر، فعند ذلك تهيَّأ الأمراء المصريون والشاميون إلى قتالِهم، وخرجوا من دمشق في يوم الاثنين في الحادي والعشرين إلى برزة، والتقوا بالناصري على خان لاجين، وتصافُّوا ثم اقتَتَلوا قتالًا شديدًا ثَبَت فيه كلٌّ من الفريقين ثباتًا لم يُسمَعْ بمِثلِه، ثم تكاثر العسكَرُ المصري وصَدَقوا الحملة على الناصري ومن معه، فهزموهم وغيَّروه عن موقفه، ثم تراجع عسكر الناصري وحمل بهم، والتقى العسكَرُ السلطاني ثانيًا واصطدما صدمةً هائلة ثبت فيها أيضًا الطائفتانِ وتقاتلا قتالًا شديدًا، قُتلَ فيها جماعة من الطائفتين، حتى انكسر الناصريُّ ثانيًا، ثم تراجع عسكَرُه وعاد إليهم والتقاهم ثالثَ مَرَّة، فعندما تنازلوا في المرة الثالثة والتحم القتالُ لَحِقَ الأمير أحمد بن يلبغا بعساكِرِ الناصري بمن معه من مماليكه وحواشيه، ثم تَبِعَه الأمير أيدكار العمري حاجِبُ الحجاب أيضًا بطَلَبِه ومماليكه، ثم الأمير فارس الصرغتمشي ثم الأمير شاهين أمير آخور بمن معهم، وعادوا قاتلوا العسكر المصري، فعند ذلك ضَعُفَ أمرُ العساكر المصرية وتقهقروا وانهزموا أقبحَ هزيمة، فلما ولَّوا الأدبار في أوائل الهزيمة، هَجَم مملوكٌ من عسكر الناصري يقال له يلبغا الزيني الأعور وضرب الأميرَ جاركس الخليلي بالسيف فقتَلَه وأخَذَ سَلَبَه، وترك رمَّتَه عاريةً، إلى أن كفَّنَتْه امرأة بعد أيام ودفنته، ثم مَدَّت التركمان والعرب أيديَهم ينهبون من انهزم من العسكر المصري ويقتُلون ويأسرون من ظَفِروا به، وساق الأميرُ الكبير أيتمش البجاسي حتى لحق بدمشق وتحصَّن بقلعتها، وتمزَّق العسكر المصري وذهب كأنَّه لم يكن، ودخل الناصريُّ من يومه إلى دمشق بعساكره، ونزل بالقَصرِ من الميدان، وتسَلَّم القلعة بغير قتال، وأوقع الحوطةَ على سائر العسكر، وأنزل بالأميرِ الكبير أيتمش وقَيَّده هو والأمير طرنطاي نائب الشام وسجَنَهما بقلعة دمشق، وتتبَّعَ بقيَّةَ الأمراء والمماليك حتى قبض من يومِه أيضًا على الأمير بكلمش العلائي في عدة من أعيان المماليك الظاهرية، فاعتقلهم أيضًا بقلعة دمشق، ثم مَدَّت التركمان والأجناد أيديَهم في النهب، فما عَفَوا ولا كفُّوا وتمادَوا على هذا عدة أيام، وقَدِمَ هذا الخبر على الملك الظاهر برقوق من غزة في يوم السابع والعشرين من شهر ربيع الآخر، فاضطرب الناسُ اضطرابًا عظيمًا، لا سيَّما لما بلغهم قتل الأمير جاركس الخليلي والقبض على الأمير الكبير أيتمش البجاسي، وغُلِّقَت الأسواق، وانتُهِبَت الأخباز، وتشغبت الزعر، وطغى أهلُ الفساد، هذا مع ما للنَّاسِ فيه من الشغل بدفن موتاهم، وعِظَم الطاعون بمصر، وأما السلطان الملك الظاهر برقوق فإنه لما بلغه ما وقع لعسكره وَجَمَ وتحَيَّرَ في أمره، وعَظُم عليه قتلُ جاركس الخليلي والقبض على أيتمش أكثَرَ من انهزام عسكره، فإنَّهما ويونس الدوادار كانوا هم القائمينَ بتدبير مُلكِه، وأخذ يفحصُ عن أخبار يونس الدوادار فلم يقِفْ له على خبر؛ لسرعة مجيء خبَرِ الوقعة له من مدينةِ غزة، ولم يأتِه أحَدٌ ممن باشر الواقعة، غيرَ أنَّه صَحَّ عنده ما بلغه، وبقَتلِ يونس الدوادار استشعر كلُّ أحد بذهاب مُلْك المَلِك الظاهر، ثم قدم الخبر بدخول الأمير مأمور القلمطاوي نائب الكرك في طاعة الناصري، وأنَّه سَلَّم له الكرك بما فيها من الأموال والسلاح، ثم أخذ السلطان ينقلُ إلى قلعة الجبل المناجيقَ والمكاحل والعُدَد، وأمر السلطانُ سُكَّان قلعةِ الجَبَلِ من الناس بادِّخار القوتِ بها لشهرينِ، وسار الناصريُّ بمن معه من العساكر يريد الديارَ المصريَّة، وهو يظُنُّ أنه يلقى العساكِرَ المصرية بالقرب من الشام، واستمَرَّ في سَيرِه على هِينةٍ إلى أن وصل إلى غزَّة، فتلقَّاه نائبها حسام الدين بن باكيش بالتقادُم والإقامات، فسأله الناصري عن أخبار عسكر مِصرَ، فقال: لم يَرِدْ خَبَرٌ بخروج عسكر من مصر، ثم سار الناصري من الغد يريد ديار مصر، وأرسل أمامَه جماعة كبيرة من أمرائه ومماليكِه كَشَّافة، واستمَرَّ في السير إلى أن نزلَ مدينة قطيا، وجاء الخبَرُ بنزول الناصري بعساكِرِه على قطيا، فلم يتحرك السلطان بحركة، وفي ليلة وصول الخبَرِ فَرَّ من أمراء مصر جماعة كبيرة إلى الناصري، وهي ليلةُ الثلاثاء ثامن عشرين جمادى الأولى، ثم في يوم الجمعة نزلت عساكِرُ الناصري بالبئر البيضاء، فأخذ عند ذلك عسكَرُ السلطان يتسَلَّلُ إلى الناصري شيئًا بعد شيءٍ، ثمَّ نَصَب السلطان السناجق السلطانية على أبراج القلعة، ودُقَّت الكوسات الحربية، فاجتمعت العساكِرُ جميعها، وعليهم آلةُ الحرب والسلاح، ثم ركِبَ السلطان والخليفة المتوكل على الله معه من قلعة الجبلِ بعد العصر، وسار السلطانُ بمن معه حتى وقفا خلفَ دار الضيافة، وقد اجتمع حولَ السلطان من العامَّةِ خلائِقُ لا تُحصى كثرةً، فوقف هناك ساعة، ثم عاد وطلع إلى الإسطبل السلطاني، وجلس فيه مِن غير أن يلقى حَربًا، ثم ركب السلطان ثانيًا من القلعةِ، ومعه الخليفةُ المتوكل على الله، ونزل إلى دار الضيافة، فقدم عليه الخبَرُ بأن طليعة الناصري وصلت إلى الخراب طرف الحسينية، فلقيتهم كشافة السلطان فكسَرَتهم، ثم ندب السلطانُ الأمراء فتوجَّهوا بالعساكر إلى جهة قبَّة النصر، ونزل السلطانُ ببعض الزوايا عند دار الضيافة إلى آخر النهار، ثم عاد إلى الإسطبل السلطاني وصحبته الأمراء الذين توجَّهوا لقبة النصر، والكوسات تُدَقُّ، وهم على أُهبة اللقاء وملاقاة العدو، وخاصكية السلطان حوله، والنفوطُ لا تفتُرُ، والرميلة قد امتلأت بالزعر، والعامة ومماليك الأمراء، ولم يزالوا على ذلك حتى أصبحوا يوم الاثنين، وإذا بالأمير آقبغا المارديني حاجب الحجاب والأمير جمق بن أيتمشر البجاسي والأمير إبراهيم بن طشتمر العلائي الدوادار قد خرجوا في الليل ومعهم نحو خمسمائة مملوك من المماليك السلطانية ولحِقوا بالناصري، ثم أصبح السلطانُ من الغد، وهو يوم خامس جمادى الآخرة، فَرَّ الأمير قرقماس الطشتمري الدوادار الكبير، وقرا دمرداش الأحمدي أتابك العساكر بالديار المصرية، والأمير سودون باق، أمير مجلس ولحقوا بالناصري، ولما بلغ السلطان نفاقُ هؤلاء الأمراء عليه بعد أن أنعم عليهم بهذه الأشياء، علم أن دولته قد زالت، فأغلق في الحالِ باب زويلةَ وجميع الدروب، وتعطَّلَت الأسواق، وامتلأت القاهرةُ بالزعر، واشتدَّ فسادَهم، وتلاشت الدولةُ الظاهرية وانحَلَّ أمرُها، وخاف والي القاهرة حسام الدين بن الكوراني على نفسِه، فقام من خلف باب زويلة وتوجَّه إلى بيته واختفى، وبَقِيَ الناس غوغاء، وقطع المسجونون قيودَهم بخزانة شمائل، وكَسَروا باب الحبس وخرجوا على حميةٍ جملةً واحدة، فلم يرُدَّهم أحدٌ؛ لشُغلِ كُلِّ واحد بنفسه، وكذلك فعَلَ أهل حبس الديلم، وأهلُ سجن الرحبة، هذا والسلطان إلى الآن بقلعة الجبل، والنفوطُ عَمَّالة، والكوسات تُدَقُّ حربيًّا، ثم أمر السلطان مماليكَه فنزلوا ومنعوا العامَّةَ من التوجه إلى يلبغا الناصري، فرجمهم العامَّةُ بالحجارة، فرماهم المماليكُ بالنشَّاب، وقتلوا منهم جماعةً تزيد عِدَّتُهم على عشر أنفس، ثم أقبلت طليعة الناصري مع عِدَّة من أعيان الأمراء من أصحابِه، فبَرَز لهم الأمير قجماس ابن عم السلطان في جماعة كبيرة وقاتلهم، وأكثر الرمي عليهم من فوق القلعة بالسهام والنفوط والحجارة بالمقاليع، وهم يوالون الكَرَّ والفَرَّ غَيرَ مَرَّة، وثبتت المماليك السلطانية ثباتًا جيدًا، غير أنهم في عِلمٍ بزوال دولتهم، هذا وأصحابُ السلطان تتفَرَّقُ عنه شيئًا بعد شيء، فمنهم من يتوجه إلى الناصري، ومنهم من يختفي خوفًا على نفسه، حتى لم يبقَ عند السلطان إلا جماعةٌ يسيرة ممن ذكرنا من الأمراء، فلما كان آخِرُ النهار أراد السلطان أن يسَلِّمَ نفسَه، فمنعه من بقِيَ عنده من الأمراء وخاصكيته، ثم بعد العصر من اليوم قَدِمَ جماعة من عسكر الناصري عليهم الطواشي طقطاي الرومي الطشتمري، والأمير بزلار العمري الناصري، وكان من الشجعان، والأمير ألطنبغا الأشربي، في نحو الألف وخمسمائة مقاتل يريدون القلعة، فبرز لهم الأمير بطا الطولوتمري الظاهري الخاصكي، والأمير شكر باي العثماني الظاهري، وسودون شقراق في نحو عشرين مملوكًا من الخاصكية الظاهرية، وتلاقوا مع عسكر الناصري فصدموهم صدمةً واحدة كسروهم فيها وهزموهم إلى قبة النصر، ولم يُقتَلْ منهم غير سودون شقراق؛ فإنَّه أُمسِكَ وأُتي به إلى الناصري فوسَّطه، ولم يَقتُل الناصريُّ في هذه الوقعة أحدًا غيره، لا قبله ولا بعده- يعني صَبرًا- غيرَ أن جماعة كبيرة قُتِلوا في المعركة، وورد الخبَرُ بنصرتهم على الملك الظاهر، فلم يغتَرَّ بذلك، وعلم أنَّ أمرَه قد زال، فأخذ في تدبيرِ أمره مع خواصه، فأشار عليه من عنده أن يستأمِنَ من الناصري، فعند ذلك أرسل الملك الظاهر الأمير أبا بكر بن سنقر الحاجب والأمير بيدمر المنجكي شاد القصر بالنمجاة إلى الأمير يلبغا الناصري أنْ يأخذا له أمانًا على نفسِه، ويترققا له، فسارا من وقتهما إلى قبة النصر، ودخلا على الناصري وهو بمخَيَّمه، واجتمعا به في خلوةٍ، فأمَّنَه على نفسه، وأخذَ منهما منجاة الملك- سيف خاص بالملك أو السلطان- وقال: الملك الظاهر أخونا وخشداشنا- زميلنا في المهنة- ولكِنَّه يختفي بمكان إلى أن تُخمَدَ الفتنة، فإنَّ الآن كل واحد له رأي وكلام، حتى ندَبِّرَ له أمرًا يكون فيه نجاتُه، فعادا بهذا الجواب إلى الملك الظاهر برقوق، وأقام السلطانُ بعد ذلك في مكانه مع خواصِّه إلى أن صلى عشاء الآخرة، وقام الخليفةُ المتوكل على الله إلى منزله بالقلعةِ على العادة في كلِّ ليلة، وبقي الملك الظاهر في قليل من أصحابه، وأذِنَ لسودون النائب في التوجُّه إلى حال سبيله والنظَرِ في مصلحة نفسه، فودَّعَه وقام ونزل من وقته، ثم فَرَّق الملك الظاهر بقيَّة أصحابه، فمضى كلُّ واحد إلى حال سبيله، ثم استتر الملك الظاهر وغيَّرَ صِفَتَه، حتى نزل من الإسطبل إلى حيث شاء ماشيًا على قَدَمَيه، فلم يَعرِفْ له أحد خبرًا، وانفَضَّ ذلك الجمع كلُّه في أسرع ما يكون، وسكَنَ في الحال دَقُّ الكوساتِ ورَمْيُ مدافع النفط، ووقعَ النَّهبُ في حواصل الإسطبل، حتى أخذوا سائِرَ ما كان فيه من السروج واللجم وغيرها والعبي، ونهبوا أيضًا ما كان بالميدان من الغَنَمِ الضأن، وكان عِدَّتُها نحو الألفي رأس، ونُهِبَت طباق المماليك بالقلعة، وطار الخبَرُ في الوقت إلى الناصري، فلم يتحَرَّك من مكانه، ودام بمخَيَّمه، وأرسل جماعةً من الأمراء من أصحابه، فسار من عسكره عِدَّةٌ كبيرة واحتاطوا بالقلعة، وأصبح الأمير يلبغا الناصري بمكانه، وهو يوم الاثنين خامس جمادى الآخرة، وندب الأمير منطاش في جماعة كبيرة إلى القلعة، فسار منطاش إلى قلعة الجبل في جموعه، وطلع إلى الإسطبل السلطاني، فنزل إليه الخليفةُ المتوكل على الله أبو عبد الله محمد، وسار مع منطاش إلى الناصري بقبَّة النصر، حتى نزل بمخَيَّمه، فقام الناصري إليه وتلقَّاه وأجلسه بجانبه ووانسه بالحديث، وأمَّا الناصري فإنه لَمَّا نزل إليه الخليفة وأكرمه، وحضَرَ قضاة القضاة والأعيان للهناء، أمَرَهم الناصري بالإقامة عنده، وأنزل الخليفةَ بمُخَيَّم، وأنزل القضاةَ بخَيمةٍ أخرى ثم طلب الناصريُّ مَن عنده من الأمراء والأعيان وتكَلَّم معهم فيما يكون، وسألهم فيمن يُنصَب في السلطنةِ بعد الملك الظاهر برقوق، فأشار أكابِرُهم بسلطنة الناصري، فامتنع الناصريُّ مِن ذلك أشدَّ امتناع، وهم يُلِحُّونَ عليه ويقولون له: ما المصلحةُ إلَّا ما ذكَرْنا، وهو يأبى، وانفَضَّ المجلس من غير طائل، ثم استدعى الأميرُ الكبير يلبغا الناصري الأمراءَ واستشارهم فيمن ينصِبُه في سلطنة مصر، فكَثُر الكلام بينهم، وكان غَرَضُ غالب الأمراء سلطنة الناصري ما خلا منطاش وجماعة من الأشرفية، حتى استقَرَّ الرأي على إقامة الملك الصالح أمير حاج ابن الملك الأشرف شعبان في السلطنة ثانيًا، بعد أن أعيا الأمراءَ أمرُ الناصري في عدم قبوله السلطنةِ، وهو يقول: المصلحةُ سَلطنةُ الملك الصالح أمير حاج؛ فإن الملك الظاهر برقوقًا خلَعَه من غير مُوجِبٍ، فطلعوا في الحال من الإسطبل إلى القلعة، واستدعَوا الملك الصالح وسَلْطَنوه، وغيَّروا لَقَبَه بالملك المنصور، وأما الملك الظاهر برقوق فإنه دام في اختفائِه إلى أن قُبِضَ عليه بعد أيام متخفيًا في بيت مملوك له، ثم رُسِمَ بسجنه إلى الكرك، فأخرج إليها وسُجِنَ هناك بعد أن حَكَم مصر أميرًا كبيرًا وسُلطانًا إحدى عشرة سنة وخمسة أشهر وسبعة وعشرين يومًا، وزالت دولةُ الملك الظاهر كأن لم تكن، فكانت مُدَّة تحَكُّمه منذ قُبِض على الأمير طَشْتَمُر الدوادار في تاسع ذي الحجة سنة 779، إلى أن جلس على تخت الملك وتلقَّب بالملك الظاهر في تاسع عشر شهر رمضان سنة 784، أربع سنين وتسعة أشهر وعشرة أيام، ويقال له في هذه المدة الأمير الكبير أتابك العساكر، ومن حين تسلطَنَ إلى أن اختفي ست سنين، وثمانية أشهر، وسبعة عشر يومًا، فيكون مدة حكمه أميرًا وسلطانًا إحدى عشرة سنة وخمسة أشهر وسبعة وعشرين يومًا، وترك مُلْكَ مِصرَ وله نحو الألفي مملوك اشتراهم، سوى المُستخدَمينَ.
بعد محاربة الصربِ للعثمانيين سنة 788, وحصولِهم على بعض النجاحِ نتيجةَ انشغال العثمانيين بالحرب مع علاء الدين أمير القرمان، ثم إنَّ أمير البلغار سيسمان تأهَّب للقيام بدوره في محاربة القوات العثمانيةِ، غيرَ أنَّه تفاجأ بها وقد داهمَتْه واحتلَّت بعضَ أجزاء بلاده، ففَرَّ إلى الشمالِ واعتصم في مدينة نيكوبلي القريبة من الحدود الرومانية، وجمع فلولَه مَرَّة أخرى وحارب العثمانيِّينَ إلَّا أنه باء بالهزيمةِ مَرَّة أخرى، ووقع أسيرًا، لكِنِ السلطانُ مراد الأولُ أحسَنَ إليه فأبقاه أميرًا على نصف بلاده، وضَمَّ الباقيَ إلى الدولة العثمانيَّةِ، فلما علم ملك الصرب لازار بهذا، انسحب بجيوشه نحو الغرب منضَمًّا إلى الألبانيين لمحاربة العثمانيينَ معهم، غيرَ أن الجيوش العثمانية أدركَتْه قبل وصوله إلى مبتغاه، والتقت معه في هذه السنة في معركة وسط سهل قوص أوه- إقليم كوسوفو- جنوبي يوغسلافيا، وكان القتالُ سِجالًا بين الطرفين، ثمَّ إنَّ صِهرَ لازار انضَمَّ إلى جانب العثمانيين بفرقته المؤلَّفة من عشرة آلاف مقاتل، فانهزم الصرب ووقع مَلِكُهم لازار أسيًرا جريحًا فقتلوه جزاءَ بما فعله بأسرى المسلمين، وبينما السلطان مراد الأول يتفقد الجرحى في أرض المعركة طَعَنه جريحٌ صِربي فقَتَله!
هو السُّلطانُ الغازي أبو الفتح غيَّاث الدنيا والدين: مراد الأول بن أورخان بن عثمان القايوي المعروف بغازي خداوندكار، التُركماني، ولِدَ سنة 726 (1326م). لَمَّا توفِّيَ والده الغازي أورخان سنة 761 جلس على سرير السلطنة, ووُلِدَ ابنُه السلطان يلدرم بايزيد خان عقيب جلوسِه على سرير السلطنة, ولما استَقَرَّ على سرير الملك كان الغزاةُ في روم إيلي منتظرينَ قُدومَه إليهم، فسار وجاوز البحر فاحتَلَّ مدينة أنقرة مقَرَّ سلطنة القرمان، ثم افتتح مدينة أدرنه في أوروبا في هذه السنة، ونقل إليها عاصمته واستمَرَّت عاصمة للدولة العثمانية إلى أن فتح محمد الفاتح مدينة القُسطنطينية سنة 853 (1453م) وفتح أيضًا مراد الأول مدينةَ فيلبه عاصمة الرومللي الشرقية، وفتح القائد أفرينوس بك مدينتي وردار وكلجمينا باسم سلطان العثمانيين، وبذلك صارت مدينة القسطنطينية محاطةً مِن جهة أوروبا بأملاك آلِ عُثمان منذ عَهْدِ مراد الأول, وصارت الدولة العَليَّة متاخمةً لإمارات الصرب والبلغار وألبانيا المستقلة, ولَمَّا دخل الربيع في شعبان سنة 791 خرج السلطان مراد الأول بجيشٍ عَرَمرم فالتقى في أول شهر رمضان بالصِّربِ، وانتصر عليهم, فبينما كان السلطان يتفرج بين القتلى مع أصحابه إذ نهض من بين الصرعى رجلٌ من الصرب، وكان من أمرائِهم، فقصد السلطان، فهَمَّ الحواشي أن يمنَعُوه فنهاهم السلطانُ فجاء كأنَّه يُظهِرُ الطاعة، فضربه بخنجر كان قد خبَّأه في كمِّه فجَرحَه جُرحًا مُنكرًا فلَحِقَ القوم ذلك الصربي فقَتَلوه، ثم خَيَّموا على السلطان طاقةً، فأنزلوه فيها، فلم يمض عليه يوم حتى توفي, فتكون مدةُ سلطنته إحدى وثلاثون سنة، وعمره خمس وستون. وكان قد بنى لنفسِه تربة في قرب جامعه بقبلوجه، فحملوه إلى بروسا –بورصة- مع تابوت ابنه يعقوب جلبي، فدفنوهما في تلك القبَّة، وبنيت قبة في موضع شهادته. قال حاجي خليفة: "كان مرادُ الأول من أجلِّ الملوك قَدْرًا ودِينًا، وكان دائِمَ الغَزوِ بحيث أفنى عمُرَه في الجهاد، وكان منصورًا في حروبه كثيرَ الخير، مواظِبًا على الجماعات في الصَّلَواتِ" ثم جلس على سرير السلطنة بعده ابنُه السلطان بايزيد الأول.
استطاع الأميرُ يلبغا الناصري إزالةَ مُلكِ السلطان برقوق، وكان من أعوانه منطاش الأفضلي ولكن لم يكن ما بينهما صافيًا، فلما كان سادس عشر شعبان أشيعَ في القاهرة بتنكُّر منطاش على الناصري، وانقطع منطاش عن الخدمة، وأظهر أنَّه مريض، ففَطِنَ الناصري بأنه يريد أن يعمل مكيدةً، فلم ينزل لعيادتِه، وبعث إليه الأمير ألطنبغا الجوباني رأس نوبة كبيرًا في يوم الاثنين سادس عشر شعبان ليعودَه في مرضه، فدخل عليه وسَلَّم عليه، وقضى حقَّ العيادة وهَمَّ بالقيام، فقَبَض عليه منطاش وعلى عشرين من مماليكِه، وضرب قرقماس دوادار الأمير الجوباني ضربًا مبَرِّحًا، مات منه بعد أيام، ثم رَكِبَ منطاش حالَ مَسْكِه للجوباني في أصحابِه إلى باب السلسلة، وأخذ جميعَ الخيول التي كانت واقفةً على باب السلسلة، وأراد اقتحامَ الباب ليأخُذَ الناصريَّ على حين غفلة، فلم يتمكَّنْ من ذلك وأُغلقَ الباب، ورمى عليه مماليكُ الناصري من أعلى السور بالنشَّاب والحجارة، فعاد إلى بيته ومعه الخيول، وتلاحقت المماليكُ الأشرفية خشداشيته- زملاء مهنته- والمماليك الظاهرية بمنطاش، فعَظُم بهم أمرُه، وقَوِيَ جأشُه، وانضمت اليلبغاوية على الناصريِّ، وهم يوم ذاك أكابِرُ الأمراء وغالِبُ العسكر المصري، وتجمَّعَت المماليك على منطاش حتى صار في نحو خمسمائة فارس معه، بعدما كان في سبعين فارسًا في أوَّلِ ركوبه، ثم أتاه من العامةِ عالمٌ كبيرٌ، فترامى الفريقان واقتتلا، ونزل الأميرُ حسام الدين حسين بن الكوراني والي القاهرة، والأمير مأمور حاجب الحجاب من عند الناصري، ونودي في الناس بنهب مماليكِ منطاش، والقَبضِ على من قَدَروا عليه منهم، وإحضاره إلى الناصري، فخرج عليهما طائفةٌ من المنطاشية فضربوهما وهزموهما، فعادوا إلى الناصريِّ وسار الوالي إلى القاهرة، وأغلَقَ أبوابها، واشتَدَّت الحرب، ثم أتى منطاش طوائِفُ من مماليك الأمراء والبطالة وغيرهم شيئًا بعد شيءٍ، فحَسُنَ حاله بهم، واشتد بأسُه، وعَظُمَت شوكته بالنسبة لما كان فيه أولًا، لا بالنسبة لحواشي الناصري ومماليكِه، هذا وقد انزعج الناصريُّ وقام بنفسه وهيَّأ أصحابه لقتال منطاش، ونَدَب من أصحابه من أكابر الأمراء جماعةً لقتاله، واستمر القتالُ بينهما، وكل ذلك يزداد أمرُ منطاش بهروب الأمراء الناصرية إليه، حتى إن منطاش أمر فنادى بالقاهرة بالأمان والاطمئنان، وإبطال المكس والدعاء للأمير الكبير منطاش بقبَّة النصر، هذا وقد أخذ أمر الناصري في إدبار، وتوجَّه جماعة كبيرة من أصحابِه إلى منطاش، فلما رأى الناصري عَسكَرَه في قِلَّة، وقد نفر عنه غالبُ أصحابه، بعث بالخليفةِ المتوكل على الله إلى منطاش يسأله في الصلحِ وإخماد الفتنة، فنزل الخليفة إليه وكَلَّمه في ذلك، فقال له منطاش: أنا في طاعة السلطانِ، وهو أستاذي وابن أستاذي، والأمراء إخوتي، وما غريمي إلا الناصري؛ لأنَّه حلف لي وأنا بسيواس ثم بحلب ودمشق أيضًا بأننا نكون شيئًا واحدًا، وأن السلطانَ يحكُمُ في مملكَتِه بما شاء، فلما حصَلَ لنا النصر وصار هو أتابك العساكر، استبَدَّ بالأمر، ومنع السلطانَ من التحكم، وحَجَر عليه، وقَرَّب خشداشيَّتَه اليلبغاوية، وأبعدني أنا وخشداشيتي الأشرفيَّة، ثم ما كفاه ذلك حتى بعثني لقتالِ الفلاحين، وكان الناصريُّ أرسله من جملة الأمراء إلى جهة الشرقية لقتال العربان، لَمَّا عَظُم فساد فلاحيها، ثم قال منطاش: ولم يُعطِني الناصريُّ شيئًا من المال سوى مائة ألف درهم، وأخذ لنفسِه أحسَنَ الإقطاعاتِ، وأعطاني أضعفها، والإقطاعُ الذي قرره لي يعمل في السنة ستمائة ألف درهم، واللهِ ما أرجع عنه حتى أقتُلَه أو يقتُلَني، ويتسلطن ويستبِدَّ بالأمر من غير شريكٍ، فأخذ الخليفةُ يلاطِفُه، فلم يرجع له وقام الخليفة من عنده وهو مُصَمِّمٌ على مقالته، وطلع إلى الناصري وأعاد عليه الجوابَ، فعند ذلك ركب الناصري بسائِرِ مماليكه وأصحابه، ونزل بجمعٍ كبير لقتال منطاش، وصَفَّ عساكِرَه تجاه باب السلسلة، وبرز إليه منطاش أيضًا بأصحابِه، وتصادما واقتتلا قتالًا شديدًا، وثَبَت كُلٌّ من الطائفتين ثباتًا عظيمًا، حتى انكسر الناصري وأصحابُه، وطلع إلى باب السلسلة، وندم الناصري على خَلعِ الملك الظاهر برقوق وحَبْسِه؛ لَمَّا عَلِمَ أن الأمر خرج من اليلبغاوية وصار في الأشرفية حيث لا ينفعه الندم، وأما منطاش فركب بمن معه بعد أن انهزم الناصري عدة مرات وترَكَه أكثَرُ أمرائه، وطلع إلى الإسطبل السلطاني ومَلَكَه، ووقع النهب فيه، فأخذوا من الخيل والقماش شيئًا كثيرًا، وتفَرَّق الزعر والعامة إلى بيوت المنهزمين، فنَهَبوا وأخذوا ما قدروا عليه، ومنعهم الناسُ من عدة مواضع، وبات منطاش بالإسطبل، وأصبح من الغدِ، وهو يوم الخميس تاسع عشر شعبان، وطلع إلى السلطان الملك المنصور حاجي، وأعلمه بأنَّه في طاعته، وأنَّه هو أحقُّ بخدمتِه؛ لكونِه من جملة المماليك الذين لأبيه الأشرَفِ شعبان، وأنه يمتَثِلُ مَرسومَه فيما يأمُرُه به، وأنه يريدُ بما فعله عمارةَ بيت الملك الأشرف، فسُرَّ المنصور بذلك هو وجماعة الأشرفية؛ فإنهم كانوا في غاية ما يكون من الضِّيقِ مع اليلبغاوية من مُدَّة سنين.
خرج المَلِكُ الظاهر برقوق مِن سجن الكرك، واستولى على مدينتِها ووافقه نائِبُها الأمير حسام الدين حسن الكجكني، وقام بخِدمتِه، وقد حضر إلى الملك الظاهر برقوق ابنُ خاطر أمير بني عقبة من عرب الكَركِ، ودخل في طاعته، وقَدِمَ هذا الخبر من ابن بأكيش نائب غزة، فلمَّا سمعه منطاش- الذي تغلب على الناصري وأصبح هو نائِبَ السلطنة- أرسل من يقتُلُ الظاهر برقوق في سجنه، واضطربت الديارُ المصرية، وكَثُرَت القالة بين الناس، واختلفت الأقاويلُ، وتشَغَّب الزعر، وكان مِن خَبَرِ الملك الظاهر برقوق أنَّ منطاش لَمَّا وثب على الأمر وقهر الأتابك يلبغا الناصري وحبسه وحَبَس عِدَّةً من أكابر الأمراء، عاجَلَ في أمر الملك الظاهر برقوق بأن بعث إليه شخصًا يُعرَفُ بالشهاب البريدي، ومعه كتُبٌ للأمير حسام الدين الكجكني نائب الكرك وغيره بقَتلِ الملك الظاهر برقوق من غير مراجَعةٍ، ووعده بأشياءَ غيرِ نيابة الكرك، وكان الشهابُ البريدي أصلُه من الكرك، فجَهَّزه منطاش لذلك سرًّا، فلما وصل الشهاب إلى الكرك أخرج الشهابُ إلى نائبها كتابَ منطاش الذي بقَتلِ برقوق، فأخذه الكجكني منه ليكونَ له حُجَّةً عند قَتْلِه السلطان برقوق، ووعَدَه بقضاء الشُّغلِ وأنزل الشهابَ بمكان قلعة الكرك قريبًا من الموضِعِ الذي فيه الملك الظاهر برقوق، بعد أن استأنَسَ به، ثم قام الكجكني من فَورِه ودخل إلى الملك الظاهر برقوق ومعه كتاب منطاش الذي بقَتلِه، فأوقفه على الكتابِ، فلمَّا سمعه الملك الظاهر كاد أن يَهلِكَ من الجزع، فحَلَف له الكجكني بكلِّ يمين أنَّه لا يُسَلِّمُه لأحد ولو مات، وأنَّه يطلِقُه ويقومُ معه، وما زال به حتى هدأ ما به، وطابت نفسُه، واطمأنَّ خاطِرُه، وقد اشتهر في مدينة الكرك مجيءُ الشهاب بقتل الملك الظاهر برقوق، وكان في خدمةِ الملك الظاهر غلامٌ مِن أهل الكرك يقال له عبد الرحمن، فنزل إلى جماعةٍ في المدينة وأعلَمَهم أن الشهابَ قد حضر لقَتلِ أستاذه الملك الظاهر، فلمَّا سمعوا ذلك اجتمعوا في الحال، وقَصَدوا القلعة وهجموها حتى دخَلوا إلى الشهاب وهو بسَكَنِه من قلعة الكرك، ووثَبوا عليه وقَتَلوه، ثم جَرُّوه برجله إلى الباب الذي فيه المَلِك الظاهر برقوق، وكان نائِبُ الكرك الكجكني عند الملك الظاهر، وقد ابتدؤوا في الإفطار بعد أذان المغرب، وهي ليلة الأربعاء عاشر شهر رمضان من سنة 791 فلم يشعر الملك الظاهر والكجكني إلَّا وجماعة قد هجموا عليهم، وهم يدعون للملك الظاهر بالنَّصرِ، وأخذوا الملك الظاهِرَ بيَدِه حتى أخرجوه من البرجِ الذي هو فيه، وقالوا له: دُسْ بقدمك عند رأس عدُوِّك، وأروه الشهابَ مقتولًا، ثم نزلوا به إلى المدينةِ فدُهِشَ النائب مما رأى، ولم يجِدْ بدًّا من القيامِ في خدمة الملك الظاهر وتجهيزِه، وانضَمَّ على الملك الظاهِرِ أقوام الكرك وأجنادُها، وتسامع به أهلُ البلاد، فأتَوه من كُلِّ فَجٍّ بالتقادم والخيول، كل واحدٍ بحَسَبِ حالِه، وأخذ أمرُ الملك الظاهر برقوق من يومِ ذلك في استظهارٍ، وأما أمر منطاش فإنه لما سَمِعَ هذا الخبر وتحقَّقَه، علم أنه وقع في أمرٍ عظيم، فأخذ في تدبيرِ أحوالِه، فأول ما ابتدأ به أن قَبَض على جماعةٍ كبيرة من المماليك الظاهرية، وسجنهم وقَتَل بَعْضَهم.