لما رأى فرديناند الخامس ملك قشتالة أن المسلمين قد عجزوا عن أخذ الحامة ونصرة من فيها من الأسارى، وقع له الطمع في بلاد الأندلس، فأخذ في الاستعداد والخروج إليها. طلب فرديناند الخامس من أبي عبد الله محمد بن سعد الملقب بالزغل أمير مالقة إمضاء معاهدة يكون فيها أمير مالقة تابعًا لقشتالة، فرفض ذلك أمير مالقة، فقام ملك قشتالة بإعلان الحرب عليه, فلما كان جمادى الأولى من هذا العام خرج ملك قشتالة بحملة عظيمة، وقصد مدينة لوشة فنزل عليها بحملته، وكان قد اجتمع فيها جملة من نجدة رجال غرناطة حين سمعوا بخروجه إليها فلما قرب من البلد خرج إليه الرجال والفرسان فقاتلوه قتالًا شديدًا وردوه على أعقابه وقتلوا كثيرًا من النصارى وأخذوا لهم من تلك العدة التي قربوا بها من النفط وغيره من عدة الحرب، ثم إن الأمير أبا الحسن علي بن سعد أمدهم بقائد من غرناطة يقود جيشًا من الفرسان في تلك الليلة فاشتدت عند ذلك عصبة المسلمين وقويت قلوبهم فلما أصبح الصباح ورأى النصارى الزيادة في جيش المسلمين مع ما نالهم من أول الليل من الهزيمة والقتل وأخذ العدة، داخَلَهم الرعب واشتد خوفهم فأخذوا في الارتحال عنهم، فخرج إليهم المسلمون فقاتلوهم قتالًا شديدًا، فانهزم النصارى وتركوا كثيرًا من أخبيتهم وأمتعتهم وأطعمتهم وآلة حربهم، وتركوا من الدقيق شيئًا كثيرًا فاحتوى المسلمون على جميع ذلك كله وانصرف العدو مهزومًا مفلولًا إلى بلده، ففرح المسلمون بذلك فرحًا عظيمًا، وكان ذلك في السابع والعشرين من جمادى الأولى.
لما فقد الأمير أبي الحسن علي بن سعد بصَرَه، تنازل عن المُلك لابنه أبي عبد الله محمد الثاني عشر الملقب بأبي عبد الله الصغير، الذي كان قد ثار على أبيه السنة الماضية, وبعد أن تولى الحكم قام بانتهاز فرصة هزيمة الإسبان أمام أمير مالقة عمه أبي عبد الله الزغل, فخرج بقواته واتجه إلى قرطبة، مجتاحًا في طريقه عدة حصون وهزم الإسبان في عدة معارك محلية، وحين عودته وبيده الغنائم الكثيرة أدركه الإسبان وقاتلوه مرة أخرى وهزموه وأسروه وقتلوا عددًا كبيرًا من أمرائه وفرسانه، فقام الملك أبو الحسن باستدعاء أخيه أبي عبد الله محمد بن سعد الملقب بالزغل؛ ليتولى ملك غرناطة عوضًا عن ابنه المأسور أبي عبد الله الصغير.
كان الإسبان قد أسروا الملك أبا عبد الله محمد الصغير، وفي هذه السنة تم فك أسره بسعاية أمِّه الأميرة عائشة الحرة، بعد مفاوضات انتهت بعقد معاهدة مع ملك قشتالة تقتضي دفع غرامة مالية باهظة، والإفراج عن الأسرى الإسبان، وأن يكون الملك أبو عبد الله الصغير تحت حكم قشتالة وحكم ملكها فرديناند إلى غير ذلك من شروط مهينة، تحقِّقُ سياسة الاستيلاء على غرناطة.
هو الشيخ العلَّامة أبو الفضل المحبُّ محمد بن محمد أبو الوليد بن محمد بن محمود بن غازي بن أيوب بن محمود الثقفي، الحلبي، الحنفي ابن الشحنة الصغير، عالم الحنفية بحلب. ولد سنة 804, والشحنة هو جدُّه الأعلى محمود الأول كان شحنة حلب ووالده أبو الوليد المتوفى سنة 815 يعرف أيضًا بابن الشحنة. كان المحبُّ هذا عالِمًا فاضلا، عارفًا بالفنون له وجاهة ورياسة، وولي الوظائف الجليلة، ولِيَ قضاء العسكر بحلب ثم قاضي الأحناف بها ثم النظر في جيش حلب وقلعتها وخطابة الجامع الكبير فيها، وتوالت عليه المحن، فترك حلب وقدم مصر فتولى كتابة السر فيها, ثم توجه لبيت المقدس، ثم أذن له بالعودة فقدم القاهرة وأعيد إلى كتابة السر فيها, وله نظم ونثر وتصانيف.
قام الفرنج الإسبان بالهجوم على مدينة رندة فحاصروها وقذفوها بالنفط وهدموا أسوارها، فاضطرت المدينة للاستسلام، وغادر أهلها منها فاستولى الإسبان على سائر الأماكن والحصون الواقعة في تلك المناطق، وعاثوا فيها نهبًا وقتلًا وسلبًا، وكان هذا الاستيلاء هو بمثابة تحطيم وسائل الدفاع في المنطقة الغربية من غرناطة.
هو السلطان الغالب بالله أبو الحسن علي بن سعد بن محمد بن الأحمر الأرجواني، الأندلسي، الغرناطي، الأنصاري، المصري ملك الأندلس وصاحب غرناطة. ومولده قبيل سنة840. خرج على والده سعد واستولى على ملك غرناطة سنة 868 ونفا والده إلى المرية ومات من سنته، ومنذ البداية، دخل أبو الحسن في حروب مع أخويه، أبو الحجاج يوسف وأبو عبد الله محمد الزغل، اللذين نازعاه الملك، كل على حدة. ولما توفي أبو الحجاج بقي أبو عبد الله الزغل منازعًا لأخيه حتى إنه خرج إلى ملك قشتالة يستنصره على أخيه، ثم ثار عليه ولده محمد أبو عبد الله الصغير، ومع هذا الصراعات قام أبو الحسن أول أمره بتحصين الحصون وتنظيم شؤون البلاد، وتولى وزارته وزير أبيه أبو القاسم بن رضوان. كان ملكًا جليلًا عارفًا مدبِّرًا. لكنه في آخر أيامه اشتغل باللذات والانهماك في الشهوات واللهو بالنساء المطربات وركن إلى الراحة والغفلات, ومن ذلك افتتانه بجارية رومية نصرانية اسمها ثريا قيل إنها أسلمت وإنها ابنة القائد القشتالي سانشو خمينس دي سوليس، وولدت منه ولدين: سعدًا ونصرًا, وقد فضل أبو الحسن ثريا وولديها ونفى ابنة عمه عائشة الحرة وولديها في برج قمارش بقصر الحمراء, فثار به ولده محمد أبو عبد الله الصغير ابن عائشة الحرة، وجرت بينهما خطوب، وكان الوزير أبو القاسم بن رضوان يوافق الأمير أبا الحسن على إظهار الصلاح والعفاف للناس, وانصرف الأمير أبو الحسن عن تقوية عساكره فأهمل كل من فيه نجدة وشجاعة من الفرسان ولم يزل الأمير مستمرًّا على حاله والجيش في نقص والملك في ضعف إلى أن فقد أبو الحسن بصره، وتنازل بالحكم لابنه أبي عبد الله الصغير، فلما أسره الفرنج استدعى الأمير أبو الحسن أخاه أبا عبد الله الملقب بالزغل، وسلمه حكم غرناطة.
تطورت الأحداث في بلاد الأندلس، وأصبح اهتمام الإسبان هو توحيد أراضيهم، وانتزاع ما تبقى للمسلمين بها خصوصًا بعدما خضع الإسبان لسلطة واحدة بعد زواج إيزابيلا الكاثوليكية المتعصبة ملكة قشتالة من فرديناند ملك أراغوان، وبعد هلاك الدون جويان الثاني ملك أراغون، وتولَّى مكانه ابنه فرديناند الكاثوليكي، ضمَّ أراغون وبلنسية وصقلية وميورقة إلى قشتالة، وبينما كانت الممالك النصرانية تتَّحد في تلك الأقطار، كانت المملكة الإسلامية الوحيدة في الأندلس تزداد فتقًا على فتق؛ ليقضيَ الله أمرًا كان مفعولًا! اندفعت الممالك الإسبانية المتحدة قبيل سقوط غرناطة في تصفية الوجود الإسلامي في كل إسبانيا، حتى يفرغوا أنفسَهم ويركزوا اهتمامهم على المملكة الإسلامية الوحيدة في غرناطة، وفرضت إسبانيا أقسى الإجراءات التعسُّفية على المسلمين في محاولة لتنصيرهم وتضييق الخناق عليهم حتى يرحلوا عن بلاد الأندلس؛ نتيجة لذلك وقبل سقوط غرناطة لجأ المورسكيون-وهم الأقلية المسلمة التي بقيت في الأراضي الإسبانية بعد انتزاع حكمها من المسلمين- إلى القيام بثورات وانتفاضات في أغلب المدن الإسبانية، والتي يوجد بها أقلية مسلمة، وأُخمِدَت تلك الثورات بدون رحمة ولا شفقة من قبل السلطات الإسبانية التي اتخذت وسيلة لتعميق الكره والحقد للمسلمين، ومن جهة أخرى كان من الطبيعي أن يرنو المورسكيون بأنظارهم إلى ملوك المسلمين في المشرق والمغرب لإنقاذهم، وتكررت دعوات وفودهم ورسائلهم إليهم للعمل على إنقاذهم مما يعانوه من ظلم، وخاصة من قبل رجال الكنيسة ودواوين التحقيق (محاكم التفتيش) التي عاثت في الأرض فسادًا وأحلت لنفسها كل أنواع العقوبات وتسليطها عليهم، وكانت أخبار الأندلس قد وصلت إلى المشرق فارتج لها العالم الإسلامي، وبعث الملك الأشرف قايتباي بوفود إلى البابا وملوك النصرانية يذكِّرُهم بأن النصارى الذين هم تحت حمايته يتمتعون بالحرية، في حين أن أبناء دينه في المدن الإسبانية يعانون أشد أنواع الظلم، وقد هدد باتباع سياسة التنكيل والقصاص تجاه رعايا المسيحيين، إذا لم يكفَّ ملك قشتالة وأراغون عن هذا الاعتداء وترحيل المسلمين عن أراضيهم وعدم التعرض لهم، ورد ما أخذ من أراضيهم، ولم يستجيب البابا والملكان الكاثوليكيان لهذا التهديد من قبل الملك الأشرف قايتباي، ومارسوا خطتهم في تصفية الوجود الإسلامي في الأندلس، وجُدِّدت رسائل الاستنجاد لدى السلطان العثماني بايزيد الثاني بن محمد الفاتح، فوصلته رسالةٌ منهم يذكرون فيها آلامَهم ومعاناتهم ويسألونه الخلاص، ومما كتبه بعض أهل الجزيرة بعد استيلاء الكفر على المدن الأندلسية للسلطان بايزيد خان الثاني ما نصه بعد سطر الافتتاح: الحضرة العلمية، وصل الله سعادتها وأعلى كلمتها ومهد أقطارها وأعز أنصارها وأذل عداتها، حضرة مولانا وعمدة ديننا ودنيانا، السلطان الملك الناصر ناصر الدين والدنيا، سلطان الإسلام والمسلمين، قامع أعداء الله الكافرين، كهف الإسلام وناصر دين نبينا محمَّد صلى الله عليه وسلم، محيي العدل ومنصف المظلوم ممن ظلم ملك العرب والعجم والترك والديلم، ظِل الله في أرضه، القائم بسنته وفرضه، ملك البرين وسلطان البحرين حامي الذمار وقامع الكفار، مولانا وعمدتنا مولانا بايزيد، لا زال ملكه موفور الأنصار مخلد المآثر والآثار مشهور المعالي والفخار، مستأثرا من الحسنات بما يضاعف الله الأجر الجزيل في الدار الآخرة والثناء الجميل، والنصر في هذه الدار، ولا بَرِحت عزماته العلية مختصة بفضائل الجهاد مجردة من أعداء الدين من بأسها ما يروي صدور السمر والصفاح وألسنة السلاح باذلة نفائس الذخائر في المواطن التي تألف فيها الأخيار مفارقة الأرواح للأجساد، سالكة سبيل السابقين الفائزين برضا الله وطاعته يوم يقوم الأشهاد:
سلام كريم دائم متجدد
أخص به مولاي خير خليفة
سلام على مولاي ذي المجد والعلا
ومن ألبس الكفار ثوب المذلة
سلام على من وسع الله ملكه
وأيده بالنصر في كل وجهة
سلام على مولاي من دار ملكه
قسنطينة أكرم بها من مدينة
سلام على من زين الله ملك
بنجد وأترك من أهل الرعاية
سلام عليكم شرف الله قدركم
وزادكم ملكا على كل ملة....
وكان السلطان بايزيد يعاني من العوائق التي تمنعه من إرسال المجاهدين، بالإضافة إلى مشكلة النزاع على العرش مع أخيه الأمير جم، وما أثار ذلك من مشاكل مع البابوية في روما وبعض الدول الأوربية، ومع ذلك قام السلطان بايزيد بتقديم المساعدة وتهادن مع السلطان قايتباي لتوحيد الجهود من أجل مساعدة غرناطة ووقَّعا اتفاقًا بموجبه يرسل السلطان بايزيد أسطولًا على سواحل صقلية باعتبارها تابعة لمملكة إسبانيا، وأن يجهز السلطان المملوكي قايتباي حملات أخرى من ناحية أفريقيا، وبالفعل أرسل السلطان بايزيد أسطولًا عثمانيًّا تحول إلى الشواطئ الإسبانية، وقد أعطى قيادته إلى كمال رايس الذي أدخل الفزع والخوف والرعب في الأساطيل النصرانية في أواخر القرن الخامس عشر الميلادي، كما شجع السلطان بايزيد المجاهدين في البحر بإبداء اهتمامِه وعطفه عليهم، وكان المجاهدون العثمانيون قد بدؤوا في التحرك لنجدة إخوانهم المسلمين، وفي نفس الوقت كانوا يغنمون الكثير من الغنائم السهلة الحصول من النصارى، كذلك وصل عددٌ كبير من هؤلاء المجاهدين المسلمين أثناء تشييد الأسطول العثماني، ودخلوا في خدمته بعد ذلك أخذ العثمانيون يستخدمون قوتهم البحرية الجديدة في غرب البحر المتوسط بتشجيع من هؤلاء المجاهدين، وهذا الذي كان في وُسع السلطان بايزيد الثاني فعلُه.
قام الأمير يوسف أبو الحجاج بن أبي الحسن علي بن سعد أمير المرية بمنازعة عمه أبي عبد الله الزغل ملك غرناطة، فقام القتال بينهما وقتل أمير المرية، ثم نازعه ابن أخيه الآخر عبدالله الصغير محمد الثاني عشر العائد من الأسر يريد استعادة ملكه الذي كان فيه قبل أن يؤسر، فأعلن نفسه ملكًا على غرناطة وقام بنصرته أهل ربض البيازين وهو حي غرناطة الشعبي، وأهله عرفوا بالاضطراب الدائم، كما أمده ملك قشتالة بقوة، فتمكن من التغلب على عمه.
بعد القتال الذي دار بين أمراء بني نصر على الملك، بقيت هذه الفتنة بينهم إلى أن تم الاتفاق على أن تنقسمَ المملكة إلى قسمين؛ القسم الأول: وهو غرناطة ومالقة، يكون تحت ملك أبي عبد الله محمد بن سعد المعروف بالزغل، والقسم الثاني: وهو القسم الشرقي يكون تحت ملك ابن أخيه محمد بن علي المعروف بأبي عبد الله الصغير، ولكن هذا الأخير لم يلبث أن نقض الاتفاق وظهر فجأة في ساحة البيازين بغرناطة، وأذاع عقده للصلح مع الإسبان، وأنهم أمدوه بالرجال والعتاد، وبينما كان الأمير محمد بن سعد الزغل في طريقه إلى غرناطة بلغه خبر أن غرناطة قد قامت بدعوة ابن أخيه محمد بن علي, وأنه دخل البلد بقيام البيازين معه وملكه لها، وقتل القواد الذين كانوا بالبلد يقاتلونه، فرجع الأمير محمد بن سعد عند ذلك على عَقِبه يريد البشرة، فسار إلى وادي آش ممتنعًا بقواته فيها، وبعد هذا الاستيلاء انقسم ما تبقى من غرناطة إلى قسمين؛ الأول: ويحوي غرناطة وأعمالها اختص به أبو عبد الله محمد الصغير، الثاني: يضم وادي آش وأعماله اختص به عمه أبو عبد الله محمد الزغل.
حدثت معارك بين العثمانيين والمماليك على الحدود الشامية، إلا أنها لم تحتدم إلى حد التهديد بحدوث حرب شاملة بينهما، حيث استطاع قائد الجيوش المملوكية الأمير أزبك أن يأسر القائد العثماني أحمد بك بن هرسك، فأسهمت هذه الحرب في الشعور بعدم الثقة بينهما، الأمر الذي أدى إلى تعثر مفاوضات الصلح سنة 896. حتى إن السلطان المملوكي " قايتباي" قد ساورته مخاوف من احتمال قيام حرب واسعة بينه وبين العثمانيين؛ سواء لإدراكه ما كان عليه العثمانيون من قوة، أو لانشغال جزء هام من قواته في مواجهة البرتغاليين، إلا أن السلطان العثماني بايزيد الثاني قد بدَّد له هذه المخاوف؛ حيث قام بإرسال رسول من قِبَله إلى السلطان المملوكي معه مفاتيح القلاع التي استولى عليها العثمانيون على الحدود، وقد لقي هذا الأمر ترحيبًا لدى السلطان المملوكي، فقام بإطلاق سراح الأسرى العثمانيين، وأسهمت سياسة بايزيد السلمية في عقد صلح بين العثمانيين والمماليك في نفس السنة، وظل هذا الصلح ساريًا حتى نهاية عهد السلطان بايزيد الثاني سنة 917 وأكد هذا الحدث على حرص السلطان بايزيد في سياسة السلام مع المسلمين.
بينما المسلمون في الأندلس بين حرب وصلح فيما بينهم إذ بصاحب قشتالة قد أقبل بحملته على مدينة لوشة, فنزل فيها الأمير محمد بن علي أبو عبد الله الصغير ومعه جماعة من أهل نجدة البيازين حين سمعوا بقدوم النصارى عليها، فتحصنوا بها مع أميرهم محمد ابن علي فحاصرها العدو حصارًا شديدًا ونصب عليها أنفاطه وعدته واقترب إليها بجيشِه وآلة حربه، حتى دخلوا ربضَها وهدموا بعض أسوارِها بالأنفاط، وقتل كثير من نجدة الرجال واشتد عليهم الحصار، فلما رأى أهل لوشة ما لا طاقة لهم به من شدة الحصار وكثرة جموع النصارى وتأخير أهل غرناطة عن نصرتهم، طلبوا الأمان واتفقوا على أن يخرجوا مؤمَّنينَ على أموالهم وأولادهم وخيلهم وسلاحهم ودوابهم وجميع ما يقدرون على حمله، فأجابهم العدو لذلك ووفى لهم به، فأخذوا في إخلاء البلاد ووصلوا إلى غرناطة بما معهم, وكان استيلاء العدو على مدينة لوشة في السادس والعشرين من جمادى الأولى من هذا العام، ولم يسَرِّح صاحبُ قشتالة الأميرَ محمد بن علي أبا عبد الله الصغير، بل حبسه عنده ليستأصل به بقية الأندلس.
لما كان النصف من شهر ربيع الثاني من هذا العام خرج ملك قشتالة إلى أرض المسلمين قاصدًا مدينة بلش مالقة، فلما سمع ملك غرناطة محمد الزغل بنزوله على مدينة بلش ندب أهل غرناطة ومن أطاعه من أهل تلك الجهات وترك طائفةً تقاتل أهل البيازين، وخرج يريد نصرة أهل بلش، وذلك يوم السبت الرابع والعشرين لربيع الثاني من عام التاريخ، فلما سار قريبًا منها وجد العدو قد سبقه بالنزول عليها، ودار بها من كل الجهات فقصد الأمير حصن منتميس فنزله بحملته وأقام به بعض الأيام فطلبه الناس أن يسير بهم نحو العدو للقائه فتوجه بهم إليه فرتبهم، وكان ذلك عشية النهار فدخل عليهم الليل بالطريق فبينما هم سائرون إذ قامت كرَّة ودهشة فانهزموا في ظلام الليل من غير لقاء عدو ولا قتال، وكانت على ذمة أمير غرناطة فنزلها فرجعوا منهزمين مفلولين إلى محلتهم، فباتوا ليلتهم تلك وفي الغد أتاهم الخبر أن العدو استخلص مدينة بلش فسُقط في أيديهم وانهزموا من غير أن يلقوا عدوًّا، ورجع كل واحد منهم إلى وطنه, ولما استولى العدو على مدينة بلش دخلت في ذمته جميع القرى التي تلي بلش وقرى جبل منتميس وحصن قمارش، وخرج أهل بلش من بلدهم مؤمَّنين وحملوا ما قدروا عليه، وذلك بعد قتال شديد وحرب عظيمة، فمنهم من جوزه العدو إلى أرض العدوة، ومنهم من أقام في بعض تلك القرى، ومنهم من سار إلى أرض المسلمين التي بقيت بالأندلس.
لما استخلص ملك قشتالة الملك فرديناند مدينة بلش سار بحملته نحو مدينة مالقة فنزل عليها وقاتلها قتالًا شديدًا وحاصرها حصارًا عظيمًا لم يُرَ مثلُه، وأحاط بها من كل جانب ومكان برًّا وبحرًا، فتحصن أهل مالقة ببلدهم وأظهروا ما كان عندهم ومعهم من السلاح والعدة والأنفاط، وكان فيهم جملة من نجدة الفرسان فقاتلوا الروم قتالًا شديدًا، وقتلوا منهم خلقًا كثيًرا، حتى إنه قُتل من الروم في يوم واحد اثنا عشر ألفًا وسبع مئة، ومع ذلك بقي العدو يفتح عليهم أبوابًا من الحرب والحيل، والمسلمون قائمون بحراسة بلدهم ويغلبون عدوهم ويقتلون من قَرُب إليهم منهم، وهم صابرون محتسبون مدة طويلة حتى ضيق عليهم العدو ودوَّر بالمدينة سورًا من تراب وسورًا من خشب وحفيرًا مانعًا، ومنع عليهم الداخل والخارج في البر، ومنع عليهم في البحر بالمراكب من الداخل والخارج، وشد عليهم في الحصار والقتال، وهم مع ذلك صابرون محتسبون يقاتلون أشد القتال ولا يظهرون جزعًا ولا هلعًا ولا يُطمعون العدوَّ في شيء مما يرومُه منهم، حتى نفد ما عندهم من الأطعمة والزاد وأكلوا ما كان عندهم من المواشي من خيل وبغال وحمير وكلاب وجلود وورق الشجر وغير ذلك من الأشياء التي يمكن أكلها، حتى فني ذلك كله، وأثَّر فيهم الجوع أثرًا عظيمًا ومات كثير من نجدة رجالهم الذين كانوا يوالون الحرب والقتال، فحينئذ أذعنوا وطلبوا الأمان فاحتال عليهم العدو حتى دخل البلد بمكرٍ ومكيدة وأسرهم كلَّهم وسبى نساءهم وأولادهم واحتوى على جميع أموالهم، وفرَّقهم على أهل دخلته وقواده، وكان مصابهم مصابًا عظيمًا تحزن له القلوب وتذهل له النفوس وتذوب، وتبكي مصابَهم العيون بالدماء, وكان استيلاء العدو على مدينة مالقة في أواخر شعبان من هذا العام, فحين خلصت للعدو مدينة مالقة وبلش وجميع الغربية ولم يبقَ في تلك النواحي للمسلمين موضع واحد، ارتحل الطاغية إلى بلده من قشتالة.
غلا سعر القمح والشعير، وبرز مرسومُ الحوَّاط بالمناداة بدمشق، بأن لا يبيع حاضر لجلَّاب قمحًا ولا شعيرًا، فتخبَّطت دمشق، وزادت الأسعار وصَغُرت قطع الخبز، وطلبه الناس، وبيعت غرارة القمح بأربعمائة وعشرين درهم، والشعير بمائة وسبعين!!
طلب الإسبان من أبي عبد الله محمد الصغير أن يضعوا قواتٍ لهم في الحمراء فرفض أبو عبد الله الصغير هذا الطلب ومنعهم من دخول غرناطة، فقام ملك قشتالة فرديناند بالزحف بقواته على أطراف غرناطة الشرقية واستولى في طريقه على بعض المدن، ومنها المنكب والبيرة وبلش وغيرها من القواعد الشمالية، مكملًا مسيرته إلى غرناطة التي بدأ يحاصرها، واستمر الحصار إلى سنة 895.
توفي الأمير أبو عمرو عثمان بن محمد الحفصي وقام خلفًا عنه حفيده أبو زكريا يحيى بن مسعود بن محمد، وكان عثمان هذا آخر الحفصيين الكبار والذي بوفاته تعتبر الدولة الحفصية قد انتهت؛ وذلك أن سكان جزيرة جربة رفضوا الاعترافَ بالأمير الجديد يحيى وبسيادة الحفصيين عليهم، فشكَّلوا جمهورية مستقلة فحذت مدينة طرابلس حذوَهم وقاموا هم أيضًا بالتخلص من الحفصيين.
كانت الحرب الأولى للعثمانيين مع المماليك في سنة 891 حيث أُسِرَ فيها القائد العثماني أحمد بك بن هرسك، فأراد السلطان العثماني بايزيد الثاني الثأرَ فجهَّز جيوشًا برية وبحرية وانضم للماليك زعيم الآق قوينلو، ثم أراد السلطان المملوكي قايتباي أن يصلحَ الأمر فأطلق سراح الأسارى العثمانيين، ومنهم أحمد هرسك، ولكن هذا لم يُجدِ نفعًا, فنجح قائد الجيوش المملوكية الأمير أزبك في الوصول إلى أذنة ومن معه من القوات الموالية، فحاصرها ثلاثة أشهر ثم دخلها عَنوةً، وأسر وغنم واحتفلت القاهرة بهذا النصر أسبوعًا.
بعد سيطرة فرديناند على بسطة أهم مدن شرق غرناطة التي كانت تحت حكم الأمير أبي عبد الله محمد بن سعد الزغل خرج الأمير الزغل من مدينة وادي آش تابعًا لصاحب قشتالة، فلما لحقه بايعه ودخل في ذمتة وتحت طاعته على أن يعطيه مدينة وادي آش وكل مدينة وحصن وقرية كانت تحت طاعته وحكمه، فأجابه إلى مطلبه ورجع معه إلى وادي آش وهو فرح مسرور، فدخلها العدو وقبض قصَبَتها واستولى عليها في العشر الأُوَل من شهر صفر، ودخل في ذمته جميع فرسان الأمير الزغل وجميع قواده، وصاروا له عونًا على المسلمين وطوَّعوا له جميع البلاد والقرى والحصون التي كانت تحت طاعتِهم من مدينة المرية إلى مدينة المنكب، ومن مدينة المنكب إلى قرية البذول، فقبض صاحب قشتالة ذلك كله من غير قتال ولا حصار ولا تعب ولا نصب، فإنا لله وإنا إليه راجعون!
وجعل في كل قصبة قائدًا نصرانيًّا مع جماعة من النصارى يحكم في ذلك الموضع، وفي هذا الشهر خلصت جميع بلاد الأندلس لصاحب قشتالة، ودخلت تحت طاعته وتدجن-داهن- جميع أهلها ولم يبقَ للمسلمين في الأندلس غير مدينة غرناطة وما حولها من القرى خاصة، وزعم كثير من الناس أن الأمير محمد بن سعد الزغل وقواده باعوا صاحب قشتالة هذه القرى والبلاد التي كانت تحت طاعتهم وقبضوا منه ثمنها، وذلك على وجه الانتقام من ولد أخيه الأمير أبي عبد الله الصغير وقواده؛ لأنهم كانوا في غرناطة ولم يكن تحت طاعتهم غيرها، فأراد بذلك قطع علائق غرناطة؛ لتهلك كما هلك غيرها, ولا حول ولا قوة إلا بالله!
خرج فرديناند ملك قشتالة بحملته وعُدَّته، وقصد نحو حصن موجر فحاصره وقاتله قتالًا شديدًا، فاستولى عليه، ثم استولى على الحصون القريبة منه, ثم قصد مدينة بسطة أهم مدن الأمير أبي عبد الله الزغل في شرق غرناطة فنزل قريبًا منها فوجد بلدًا مقيمًا بالخيل والرجال والعدة والطعام، فكلما قرب من البلد وأراد قتال المسلمين رجع خاسرًا وقُتل منه خلق كثير ولم يقدر أن يمنع داخِلَها وخارجها كما فعل بغيرها من المدن، وكان يدخلها كل من جاءها من نجدة الفرسان والرجال فبقي محاذيًا لها شهر رجب وشعبان ورمضان والمسلمون قائمون ببلدهم غالبون لعدوهم، فكلما أراد الدنو من البلد قمعوه وردوه على عقبه خائبًا خاسرًا، ولم يقدر على نَصبِ نفط ولا عدة من آلة الحرب، فلما كان شهر شوال شدَّد عليهم الحصار وعمل على البلد سورًا من خشب وحفيرًا عظيما وجعل على ذلك الرجال والحرس؛ لئلا يدخل داخل من أنجاد الرجال إليهم الذين يأتون لنصرتِهم وإعانتهم على عدوهم، ولا من يجلب لهم الطعام، فلم يعبأ المسلمون بما صنع، بل كانوا يخرجون من النقب ويهبطون من على الأسوار ويقتلون العدو في حملتهم وفي كل مسلك يسلكونه، حتى قتلوا منهم خلقًا كثيرًا، وكان المسلمون الواردون عليهم لنصرتِهم يحملون معهم ما يحتاجون إليه من الطعام، فبقوا على هذه الحالة شهر شوال وذا القعدة وذا الحجة وفي آخر ذي الحجة تفقَّد أعيان البلد ما بقي في بلدهم من الطعام وذلك في خُفيةٍ من العامة فلم يجدوا إلَّا ما يقام به أيامًا قلائل فبعثوا لفرديناند وطلبوا منه الأمان على شروط اشترطوها فوجدوه راغبًا في ذلك فجعلوا بينهم هدنة والكلام يتردَّدُ بينهم في خفية من العامة فأجابهم بجميع ما طلبوه منه، فلما كان يوم الجمعة عاشر محرم سنة 895 أدخل قواد البلاد جمعًا من النصارى للقصبة على حين غفلة من العامة، فملكوا القصبة وقهروا من كان بالبلد من العامة وغيرهم، وسُقِطَ في أيديهم، ثم إنهم سرحوا من كان عندهم من أنجاد الرجال والفرسان الذين كانوا عندهم يعينونهم على نصرة عدوهم، فخرجوا مؤمَّنين بخيلهم وأسلحتهم وأمتعتهم كما شرط عليه قواد البلد، فساروا إلى مدينة وادي آش وأخلوا البلد للنصارى وخرجوا إلى الأرباض بما معهم من أموالهم وأمتعتهم مؤمَّنين، ولم يتركوا شيئًا إلا سقف المدينة خاصة، ثم إن فرديناند جعل في البلد قائدًا من قواده حاكمًا ورتَّبه وأشحنه بما يحتاج إليه من أطعمة وزاد وآلة حرب، وارتحل من مدينة بسطة يريد المرية، فلم يمر على حصن ولا على قرية إلا ودخل أهلها في ذمته وتحت طاعته من غير حصار ولا قتال, وكان الزغل قد عقد معاهدة سرية مع فرديناند نصَّ فيها على أن يستقر الزغل أميرًا في مدينة أندرش، وجنوده، ويكونون تابعين لملك قشتالة، وله أن يحضر أبناءه من غرناطة، وترجع له جميع أملاكه، لكنه لم يطق حياة الذل مدة طويلة، فتنازل عن جميع حقوقه، وجاز البحر إلى وهران، ثم إلى تلمسان حيث استقرَّ بها وعددٌ من قواده.