هو المَلِكُ المنصور، حاجِبُ الممالك الأندلسيَّة، أبو عامر، محمَّدُ بن عبد الله بن أبي عامر مُحمَّد بن وليد المعافري القَحطاني القُرطُبي، قَدِمَ قُرطبةَ شابًّا لطلَبِ العِلمِ والأدَبِ، وكان عنده هِمَّةٌ عاليةٌ، وكَّلَتْه زوجةُ الحاكِمِ المُستنصِر صبحَ البكشنجية أمورَها وإدارةَ ضياعِها وبَقِيَ يترقَّى حتى تولَّى الشُّرطةَ والإشرافَ على الأموالِ، ثمَّ صار وكيلًا لوليِّ العَهدِ هشامٍ، فلمَّا تسَلَّمَ هِشامٌ المؤيَّد المُلكَ وكان صَغيرًا تدبَّر الأمورَ كُلَّها وضبَطَها أشَدَّ ضَبطٍ, فكان القائِمَ بأعباءِ دَولةِ الخليفةِ المروانيِّ المؤيَّدِ باللهِ هِشامِ بنِ الحَكَمِ أميرِ الأندلُسِ، استُخلِفَ المؤيَّدُ وهو ابنُ تِسعِ سنينَ. فكانت مقاليدُ الأمورِ إلى الحاجِبِ ابنِ أبي عامرٍ, الذي استمالَ الأمراءَ والجَيشَ بالأموالِ، ودانَت لهيبتِه الرِّجالُ، وتلقَّبَ بالمنصورِ، واتخذَ الوُزراءَ لنَفْسِه، أمَّا المؤيَّدُ فكان معه صورةً بلا معنًى، بل كان مَحجوبًا لا يجتَمِعُ به أميرٌ ولا كَبيرٌ، بل كان أبو عامرٍ يَدخُلُ عليه قَصرَه، ثمَّ يخرجُ فيقولُ: رسمَ أميرُ المؤمنينَ بكذا وكذا، فلا يخالِفُه أحَدٌ، وإذا كان بعد سَنةٍ أو أكثَر، أركَبَه فَرَسًا، وجعل عليه بُرنُسًا، وحولَه جواريه راكبات، فلا يعرِفُه أحدٌ مِن بينهِنَّ، يخرُجُ يتنَزَّهُ في الزَّهراءِ، ثمَّ يعودُ إلى القَصرِ على هذه الصِّفةِ. كان ابنُ أبي عامرٍ مِن رجالِ الدَّهرِ: رأيًا وحَزمًا، ودَهاءً وإقدامًا. عَمَد أوَّلَ تغَلُّبِه على الدَّولةِ إلى خزائنِ كُتُبِ الحَكَم المُستنصِر، فأبرز ما فيها من تصانيفِ الأوائِلِ والفَلاسِفة- حاشا كتُبِ الطِّبِّ والحسابِ- بمَحضَرٍ من العُلَماءِ، ثمَّ أمرَ بإفرازِ ما فيها وأمَرَ بإحراقِها، فأُحرِقَت، وطُمِرَ بعضُها؛ فعَلَ ذلك تحبُّبًا إلى العوامِّ، وتقبيحًا لِمَذهَبِ الحَكَم. وكان لابنِ أبي عامرٍ مَجلِسٌ في الأسبوعِ يجتَمِعُ إليه فيه الفُضَلاءُ للمُناظرةِ، فيُكرِمُهم ويحتَرِمُهم ويَصِلُهم، ويُجيزُ الشُّعَراءَ، وكان بطلًا شُجاعًا، حازِمًا سائِسًا، غزَّاءً عالِمًا، جَمَّ المحاسِنِ، كثيرَ الفُتوحات، عاليَ الهِمَّة، دام في المملكةِ نَيِّفًا وعشرينَ سَنةً، وكان كثيرَ الغَزوِ للفِرنجة، بلَغَت غَزَواتُه خِلالَ حُكمِه نيِّفًا وخمسينَ غَزوةً، انتصر فيها كلِّها، وكثُرَ السَّبيُ أيامَه, حتى بِيعَت بنتُ عَظيمٍ مِن عُظَماءِ الرُّومِ ذات حُسنٍ وجمالٍ بعشرين دينارًا. دانت له الجزيرةُ, وأَمِنَت به وبعَدلِه وبحُبِّه للجِهادِ والغَزوِ، توفِّيَ بأقصى الثُّغورِ مَبطونًا في مدينةِ سالمٍ في إحدى الغَزَواتِ عن 66 عامًا، ولَمَّا توفِّيَ الحاجِبُ المنصورُ ابنُ أبي عامرٍ، قام في مَنصِبِه ابنُه الملَقَّبُ بالمظَفَّرِ: أبو مروانَ عبد الملك بن محمَّد. وجرى على مِنوالِ والِدِه، فكان ذا سَعدٍ عَظيمٍ، وكان فيه حَياءٌ مُفرِطٌ يُضرَبُ به المَثَلُ، ومع ذلك كان مِنَ الشُّجَعانِ المذكورينَ، فدامَت الأندلُس في أيَّامِه في خيرٍ وخِصبٍ وعِزٍّ إلى أن مات في صَفَر سنة 399. وقام بتدبيرِ دولةِ المؤيَّدِ باللهِ الناصِرُ عبدُ الرَّحمنِ أخو المظَفَّرِ المَعروفُ بشنشول.
مَلَك يَمينُ الدَّولةِ محمودُ بنُ سبكتكين سجستانَ، وانتزَعَها مِن يدِ خلَفِ بنِ أحمدَ الصَّفَّار، وكان سبَبُ أخْذِها أنَّ يمينَ الدَّولةِ لَمَّا رحَلَ عن خلَفٍ بعد أن صالَحَه، سنة تسعينَ وثلاثمِئَة، عَهِدَ خَلَفٌ إلى ولَدِه طاهرٍ، فلمَّا استقَرَّ طاهِرٌ في المُلكِ عقَّ أباه وأهمَلَ أمْرَه، فلاطَفَه أبوه ورفَقَ به، حتى قبضَ على أبيه وسَجَنه، وبقِيَ في السِّجنِ إلى أن مات فيه، وأظهَرَ عنه أنَّه قتَلَ نَفسَه، ولَمَّا سَمِعَ عَسكَرُ خَلَف وصاحِبُ جيشِه بذلك، تغيَّرَت نيَّاتُهم في طاعتِه وكَرِهوه، وامتَنَعوا عليه في مدينتِه، وأظهروا طاعةَ يمينِ الدَّولة، وخطَبوا له، وأرسلوا إليه يطلُبونَ مَن يتسَلَّمُ المدينةَ، ففعَلَ ومَلَكَها، واحتوى عليها في هذه السَّنةِ، وعزَمَ على قَصدِ خَلَف وأخْذِ ما بيده والاستراحةِ مِن مَكْرِه. فسار إليه، وهو في حِصنِ الطاق، وله سبعةُ أسوارٍ مُحكَمة، يُحيطُ بها خَندقٌ عَميقٌ عَريضٌ، لا يُخاضُ إلَّا مِن طريقٍ على جِسرٍ يُرفَعُ عند الخَوفِ، فنازله وضايقَه فلم يصِلْ إليه، فلم يزَلْ أصحابُ يمينِ الدَّولةِ يدفعونَهم، فلمَّا رأى خلَفٌ اشتدادَ الحَربِ، وأنَّ أسوارَه تُملَكُ عليه، وأنَّ أصحابَه قد عجزوا، أرسلَ يَطلُبُ الأمانَ، فأجابه يمينُ الدَّولةِ إلى ما طلَبَ، وكَفَّ عنه، فلمَّا حَضَر عنده أكرَمَه واحتَرَمه، وأمر بالمُقامِ في أيِّ البلادِ شاء.
سار يحيى بنُ عليٍّ الأندلُسيُّ وفلفل بن سعيدٍ مِن طرابلسَ إلى مدينة قابس في عسكرٍ كثيرٍ، فحَصَروها، ثمَّ رَجَعوا إلى طرابلس، ولَمَّا رأى يحيى بنُ عليٍّ مِن قِلَّةِ المالِ، واختلالِ حالِه وسُوءِ مُجاوَرةِ فلفل وأصحابِه له، رجعَ إلى مصرَ إلى الحاكِمِ العُبَيديِّ، بعد أن أخذَ فلفل وأصحابُه خُيولَهم، وما اختاروه مِن عُدَدِهم بين الشِّراءِ والغَصبِ، فأراد الحاكِمُ قَتْلَه، ثمَّ عفا عنه.
حَجَّ بالنَّاسِ مِن العراقِ أبو الحارِثِ محمَّدُ العَلَويُّ، فاعتَرَض الرَّكبَ الأُصيفِرُ الشِّيعيُّ الأعرابيُّ، وعَوَّل على نهبِهم، فقالوا: مَن يكَلِّمُه ويقَرِّرُ له ما يأخُذُه مِن الحاجِّ؟ فقَدَّموا أبا الحُسَينِ بنَ الرفاء وأبا عبد الله بن الدجاجيَّ، وكانا من أحسَنِ النَّاسِ قراءةً، فدخلا عليه وقرآ بينَ يديه، فقال لهما: كيف عَيشُكما ببغداد؟ قالا: نِعمَ العَيشِ، تَصِلُنا الخِلَعُ والصِّلاتُ. فقال: هل وهَبوا لكما ألفَ ألفِ دينارٍ في مرَّةٍ واحدةٍ. قالا: لا، ولا ألفَ دينارٍ؟ فقال: قد وهبْتُ لكما الحاجَّ وأموالَهم، فدَعَوا له وانصَرَفوا وفَرِحَ النَّاسُ، فكان ذلك سبَبَ سَلامةِ الحَجيجِ مِن هذا الأعرابيِّ
كان لؤلؤ الجراحيُّ مولى الحَمدانِيِّينَ وَصِيًّا على سعيدِ الدَّولةِ بعدَ وفاةِ أبيه سَعدِ الدَّولةِ عامَ 381هـ، ثمَّ في عام 392هـ تُوفِّيَ سعيدُ الدَّولةِ، وخَلَّفَ ولدَيه أبا الحَسَنِ عليًّا وأبا المعالي شريفًا أميرَينِ على حَلَب، وكان لؤلؤٌ هو مَن يقومُ بتَدبيرِ جَميعِ الأمور، ثمَّ قام بإرسالِهما مع باقي أهلِ البَيتِ الحَمدانيِّ إلى مِصرَ إلى الحاكِمِ الفاطميِّ، واستبَدَّ هو بحُكمِ حَلَب، فكانت هذه نهايةَ دَولةِ الحَمدانيِّينَ في حَلَب، وجعل ابنَه مَنصورًا ولِيَّ عَهدِه، واعتَرَف الحاكِمُ الفاطميُّ به، ثمَّ بعد ذلك أصبَحَت حَلَب تابعةً للفاطميِّينَ.
غزا يمينُ الدَّولةِ مَحمودُ بنُ سبكتكين بهاطيةَ مِن أعمالِ الهِندِ، وهي وراءَ الملتان، وصاحِبُها يُعرَفُ ببحيرا، وهي مدينةٌ حَصينةٌ، عاليةُ السُّورِ، يُحيطُ بها خَندقٌ عَميقٌ، فامتنَعَ صاحِبُها بها، ثمَّ خرج هو وجُندُه إلى ظاهرِ المدينةِ، فقاتلوا المُسلِمينَ ثلاثةَ أيَّامٍ، ثمَّ انهزموا في الرَّابِعِ، وطَلَبوا المدينةَ ليَدخُلوها، فسَبَقَهم المُسلِمونَ إلى بابِ المدينةِ فمَلَكوه عليهم، وأخذَتْهم السُّيوفُ مِن بينِ أيديهم ومِن خَلفِهم، فقُتِلَ المُقاتِلةُ وسُبِيَت الذُّرِّية وأُخِذَت الأموالُ، وأمَّا بحيرا فإنَّه لَمَّا عاين الهلاكَ، أخذ جماعةً مِن ثقاتِه وسار إلى رؤوسِ تلك الجبالِ، فسَيَّرَ إليه يمينُ الدولة سَرِيَّةً، فلم يشعُرْ بهم بحيرا إلَّا وقد أ حاطوا به، وحَكموا السُّيوفَ في أصحابِه، فلمَّا أيقَنَ بالعَطبِ أخَذَ خِنجرًا معه فقتَلَ به نفسَه، وأقام يمينُ الدَّولةِ ببهاطية حتى أصلَحَ أمْرَها، ورَتَّبَ قواعِدَها، وعاد عنها إلى غزنةَ. واستخلَفَ بها من يُعلِّمُ من أسلَمَ مِن أهْلِها وما يجِبُ عليهم تعَلُّمُه، ولَقِيَ يمينُ الدولة في عَودِه شِدَّةً شديدةً من الأمطارِ، وزيادة الأنهارِ، فغَرِقَ منها مِن عَسكَرِه عدَدٌ كبيرٌ.
أمَرَ الحاكِمُ بأمْرِه العُبَيديُّ الفاطميُّ بأن يُكتَبَ على سائِرِ المساجِدِ، وعلى الجامِعِ العَتيقِ مِن ظاهِرِه وباطِنِه وفي جميعِ جوانِبِه، وعلى أبوابِ الحَوانيتِ والحَجَر والمقابِر والصَّحراءِ بسَبِّ السَّلَفِ ولَعْنِهم، ونُقِشَ ذلك ولُوِّنَ بالأصباغِ والذَّهَب، وعُمِلَ كذلك على أبوابِ القياسرِ وأبوابِ الدُّورِ، وأكْرَهَ على عمَلِ ذلك، ولَمَّا دخل الحاجُّ نالَهم من العامَّةِ سَبٌّ وبَطشٌ؛ فإنَّهم طَلَبوا منهم سَبَّ السَّلَفِ ولَعنَهم، فامتَنَعوا, ثمَّ في عام 403هـ أمَرَ الحاكِمُ النَّاسَ أن ينتَهوا عن سَبِّ السَّلَفِ، وأمَرَ بقَلعِ الألواحِ التي كان مكتوبًا فيها السَّبُّ.
في السَّابِعِ من المحَرَّم قُرِئَ سجِلٌّ في جوامِعِ مِصرَ يأمُرُ الحاكِمُ العُبَيديُّ اليهودَ والنَّصارى بشَدِّ الزُّنَّار ولُبس الغيار، وشعارُهم السَّوادُ شِعارُ العباسيِّينَ، وقرئ سجِلٌّ في الأطعِمةِ بالمَنعِ مِن أكلِ المُلوخيَّةِ المُحبَّبة لِمُعاويةَ بنِ أبي سُفيان، والبَقلة المسمَّاة بالجرجيرِ المَنسوبة إلى عائشةَ رَضِيَ الله عنها، وفيه المنعُ مِن عَجنِ الخُبزِ بالرِّجلِ، والمنعُ مِن ذَبحِ البَقَرِ التي لا عاقبةَ لها إلَّا في أيَّامِ الأضاحي، وما سواها مِن الأيَّامِ لا يُذبَحُ منها إلَّا ما لا يصلُحُ للحَرثِ، وفيه التَّنكيرُ على النخَّاسينَ والتشديدُ عليهم في المَنعِ مِن بَيعِ العَبيدِ والإماءِ لأهلِ الذِّمَّة، وإصلاحُ المكاييلِ والموازينِ، والنَّهيُ عن البخس فيهما، والمنعُ مِن بَيعِ الفقاعِ وعَمَلِه البتَّةَ؛ لِما يُؤثَرُ عن عَليٍّ رَضِيَ الله عنه مِن كراهةِ شُربِ الفقاعِ، وضُرِبَ في الطُّرُقاتِ بالأجراس ونودِيَ أنْ لا يدخُل الحَمَّامَ أحَدٌ إلَّا بمِئزَرٍ؛ وأنْ لا تَكشِف امرأةٌ وَجهَها في طريقٍ ولا خَلْفَ جِنازةٍ، ولا تتبَرَّج. ولا يُباع شَيءٌ مِن السَّمَك بغيرِ قِشرٍ، ولا يَصطاده أحدٌ مِن الصَّيادينَ، فقد كان الحاكِمُ شابًّا متهَوِّرًا مُتقَلِّبَ المِزاجِ جِدًّا، يَمنَعُ اليومَ ما كان أباحَه بالأمسِ، ويُبيحُ اليومَ ما منَعَه بالأمسِ، فلم يكُنْ مِن الحُكَّامِ مَن هو أشَدُّ منه تذبذُبًا، وقد أمَرَ بقَتلِ الكِلابِ، فقُتِلَ منها ما لا يُحصى، حتى لم يبقَ منها بالأزِقَّةِ والشَّوارِعِ شَيءٌ، وطُرِحَت بالصَّحراءِ وبشاطئِ النيلِ، وأمَرَ بكَنسِ الأزِقَّةِ والشَّوارِعِ وأبوابِ الدُّورِ في كلِّ مكانٍ، ففُعِلَ ذلك, ونودِيَ في القاهرةِ لا يَخرُج أحَدٌ بعدَ المَغرِب إلى الطَّريقِ ولا يَظهَر بها لِبَيعٍ ولا شِراءٍ فامتثَلَ النَّاسُ لذلك.
هو الإمامُ العلَّامةُ اللُّغَويُّ المُحَدِّثُ، أبو الحُسَين: أحمَدُ بنُ فارسِ بنِ زكريَّا بنِ محمَّد بن حبيب القزوينيُّ، المعروفُ بالرَّازيِّ، المالكي، اللُّغَوي الأديب، نزيلُ همذان، وصاحِبُ كِتابِ "المُجمَل". مولِدُه بقزوين, ومرباه بهمذان، وأكثَرُ الإقامةِ بالرَّيِّ. وكان رأسًا في الأدَبِ، بصيرًا بفِقهِ مالكٍ، مناظِرًا متكَلِّمًا على طريقةِ أهل الحق، ومذهَبُه في النَّحوِ على طريقةِ الكوفيِّينَ، جمَعَ إتقانَ العِلمِ إلى ظَرْفِ أهل الكتابةِ والشِّعرِ. رحَلَ ابنُ فارس إلى قزوين وبغداد طالبًا للحديثِ، ثمَّ عاد إلى همذان، ثمَّ إلى الريِّ، والتقى الصاحِبَ إسماعيلَ بنَ عَبَّاد الذي أخَذَ عنه اللُّغةَ والأدبَ، وقد غَلَب على عِلمِ ابنِ فارس الاهتِمامُ باللُّغةِ. وصَنَّف مع ذلك تصانيفَ في تفسيرِ القُرآنِ والنَّحوِ والتَّاريخِ والفِقهِ، وردَّ على الشُّعوبيَّةِ ردًّا قويًّا. مِن كُتُبِه: "مقاييسُ اللُّغةِ"، و"الإتباعُ والمُزاوَجة"، و"المُجْمَل" في اللُّغة، و"الصَّاحِبي" في فِقهِ اللُّغةِ. وقد ألّفَهُ لِخزانةِ الصَّاحِبِ بنِ عَبَّاد. كان أبو الحُسَين من الأجوادِ, حتى إنَّه يهَبُ ثيابَه وفُرُشَ بَيتِه، وكان من رؤوسِ أهلِ السُّنَّة المُجَرَّدين على مذهَبِ أهل الحديثِ. مات بالرَّيِّ.
أنشأ العُبَيديُّونَ في عَهدِ الحاكِمِ "دارَ الحِكمةِ" بالقاهرةِ؛ لِنَشرِ مَذهَبِهم الباطنيِّ, فجَلَس الفُقَهاءُ فيها، وحُمِلَت الكتُبُ إليها، ودخَلَها النَّاسُ للنَّسخِ مِن كُتُبِها وللقِراءةِ، وانتصَبَ فيها الفُقَهاء والقُرَّاء والنُّحاة وغيرُهم من أربابِ العُلومِ، وفُرِشَت وأُقيمَ فيها خُدَّامٌ لخِدمتِها، وأُجرِيَت الأرزاقُ على مَن بها مِن فَقيهٍ وغَيرِه، وجُعِلَ فيها ما يُحتاجُ إليه مِن الحِبرِ والأوراقِ والأقلامِ.
غزا يَمينُ الدَّولةِ مَحمودُ بنُ سبكتكين المولتان، وكان سبَبُ ذلك أنَّ واليَها أبا الفتوحِ نُقِلَ عنه خُبثُ اعتقادِه، ونُسِبَ إلى الإلحاد، وأنَّه قد دعا أهلَ ولايتِه إلى ما هو عليه، فأجابوه. فرأى يمينُ الدَّولة أن يُجاهِدَه ويَستنزِلَه عمَّا هو عليه، فسار نحوه، فابتدأ ببلدِ أندبال قبلَ المولتان، وقال: نجمعُ بين غزوتينِ، فدخَلَ بلادَه، وجاسَها، وأكثَرَ القَتلَ فيها، والنَّهبَ لأموالِ أهلِها، والإحراقَ لأبنِيَتِها، ففَرَّ أندبال مِن بينِ يديه، ولَمَّا سَمِعَ أبو الفتوح بخبَرِ إقبالِه إليه عَلِمَ عَجزَه عن الوقوفِ بينَ يديه والعِصيانِ عليه، فنَقَل أموالَه إلى سرنديب، وأخلى المولتان، فوصَل يمينُ الدَّولة إليها ونازلَها، فإذا أهلُها في ضلالِهم يَعمَهونَ، فحصَرَهم، وضَيَّقَ عليهم، وتابع القِتالَ حتى افتتَحَها عَنوةً، وألزم أهلَها عشرينَ ألفَ درهمٍ؛ عُقوبةً لعِصيانِهم، ثمَّ سار عنها إلى قلعةِ كواكير، وكان صاحِبُها يُعرَف ببيدا، وكان بها ستُّمِئَة صنم، فافتتَحَها وأحرقَ الأصنام، فهرَبَ صاحِبُها إلى قلعته المعروفة بكالنجار، فسار خَلْفَه إليها، وهو حِصنٌ كبيرٌ ووصَلَ إلى القَلعةِ فحَصَرها ثلاثةً وأربعين يومًا، وراسَلَه صاحِبُها في الصُّلحِ، فلم يُجِبْه، ثمَّ بلَغَه عن خراسان اختلافٌ بسبَبِ قَصدِ إيلك الخان لها، فصالح ملِكَ الهندِ على خمسمِئَة فيل، وثلاثةِ آلافٍ مِن فِضَّة، ولَبِسَ خِلَعَه يمينُ الدَّولة بعد أن استعفى مِن شَدِّ المِنطَقةِ، فإنَّه اشتَدَّ عليه، فلم يُجِبْه يمينُ الدَّولة إلى ذلك، فشَدَّ المِنطقةَ، وقطَعَ إصبَعَه الخنصَر وأنفَذَها إلى يمينِ الدَّولةِ توثقةً فيما يعتَقِدونَه، وعاد يمينُ الدَّولة إلى خُراسان لإصلاحِ ما اختُلِف فيها، وكان عازمًا على الوُغولِ في بلادِ الهند.
اشتَدَّت الفِتنةُ ببغداد، وانتشَرَ العَيَّارون والمُفسِدون، فبَعَث بهاءُ الدَّولة بنُ بُوَيه الدَّيلمي, عميدَ الجُيوشِ أبا عليِّ بنَ أستاذ هرمز إلى العراقِ ليُدَبِّرَ أمْرَه، فوصل إلى بغداد، والفِتَنُ ثائرةٌ بها، فضبط العِراقَ بأتَمِّ سياسةٍ، وأباد الحَراميَّة، وقتل عِدَّةً منهم، فقَمَع الفَسادَ وأهلَه، ومنَعَ الرَّافضةَ مِن إحياءِ مآتِمِ يومِ عاشوراءَ بالنَّوحِ وتَعليقِ المُسوح ببغداد وغيرها، ومنَعَ أهلَ السُّنَّة مِمَّا كانوا ابتَدَعوه أيضًا في مُقابلةِ الرَّافِضةِ مِن التوجُّهِ إلى قَبرِ مُصعَبِ بنِ الزُّبيرِ وغَيرِه، ونفى بعد ذلك ابنَ المُعَلِّم المعروف بالشيخ المفيد، فَقيه الإماميَّة، فاستقام أمرُ البَلَدِ.
هو الإمامُ الحافِظُ الجَوَّال، مُحَدِّثُ الإسلامِ، أبو عبد اللهِ مُحمَّد بنُ إسحاق بن محمَّد بن يحيى بن مَنْدَه الأصبهاني (الأصفهاني)، صاحِبُ التصانيف. وجَدُّه منده أسلَمَ حين افتتَحَ أصحابُ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أصبهانَ، وولاؤه لعبدِ القَيسِ، وكان مجوسيًّا فأسلم، وناب عن بعضِ أعمال أصبهان (أصفهان), وُلِدَ ابنُ مَنْدَه سنة 310، وقيل إحدى عشرة. كان ثَبتَ الحَديثِ والحِفظِ، ورحَلَ إلى البلادِ الشَّاسعة، وسَمِعَ الكثيرَ، وصَنَّف التاريخَ، والنَّاسِخَ والمَنسوخَ. قال أبو العباس جعفرُ بنُ مُحمَّد المُستغفريُّ الحافظ: "ما رأيتُ أحفَظَ مِن ابنِ مَنْدَه". قال الذهبي: "ولم أعلَمْ أحدًا كان أوسَعَ رِحلةً منه، ولا أكثَرَ حَديثًا منه مع الحِفظِ والثِّقةِ، فبلَغَنا أنَّ عِدَّةَ شُيوخِه ألفٌ وسبعُمئة شَيخٍ" وقال الذهبيُّ أيضًا: "إنَّ أبا نُعَيمٍ الحافِظَ ذُكِرَ له ابنُ مَنْدَه، فقال: كان جبلًا مِن الجبال. فهذا يقولُه أبو نُعَيم مع الوَحشةِ الشَّديدةِ التي بينه وبين ابنِ مَندَه".وقد توفِّيَ في أصفهان.
كان أبو ركوة من سُلالةِ هِشامِ بنِ عبدِ الملك بنِ مروان الأموي، واسمُه الوليد، هرب مِن الأندلُسِ وقصَدَ مِصرَ، بعد أن استبَدَّ المنصورُ ابنُ أبي عامرٍ بالحُكمِ في الأندلُس, وإنَّما لُقِّبَ بأبي رَكْوة؛ لرَكْوةٍ (سقاءٍ صغيرٍ) كان يصحَبُها في أسفارِه على طريقةِ الصُّوفيَّةِ، وقد سَمِعَ أبو رَكوةَ الحديثَ بالدِّيارِ المِصريَّة، ثمَّ أقام بمكَّةَ ثُمَّ رحَل إلى اليمَنِ ثمَّ دخل الشَّامَ، وهو في غُضونِ ذلك يبايِعُ مَن انقاد له، ممَّن يرى عنده هِمَّةً ونهضةً للقيام في نُصرةِ ولَدِ هِشامٍ، ثمَّ إنه أقام ببعضِ بلادِ مِصرَ في محلَّةٍ من محالِّ العَرَب، يُعَلِّمُ الصِّبيانَ ويُظهِرُ التقَشُّفَ والعبادةَ والوَرَع، ويخبِرُ بشَيءٍ مِن المُغَيَّبات، حتى خضعوا له وعَظَّموه جِدًّا، ثمَّ دعا إلى نَفسِه وذكَرَ لهم أنَّه الذي يُدعى إليه مِن الأُمَويِّين، فاستجاب له بنو قرَّةَ وغيرُهم، وسَبَبُ استجابتهم أنَّ الحاكمَ بأمرِ الله كان قد أسرَفَ في مِصرَ في قَتلِ القُوَّاد، وحَبْسِهم، وأخْذِ أموالِهم، وسائِر القبائِلِ معه في ضَنكٍ وضِيقٍ، ويودُّونَ خُروجَ المُلْك عن يَدِه، وكان الحاكِمُ في الوَقتِ الذي دعا أبو رَكوةَ بني قرَّةَ قد آذاهم، وحَبَس منهم جماعةً مِن أعيانِهم، وقتَلَ بَعضَهم، فلمَّا دعاهم أبو رَكوةَ انقادوا له. وكان بينَ بني قرَّةَ وبين زناتةَ حُروبٌ ودِماءٌ، فاتَّفَقوا على الصُّلحِ ومَنْعِ أنفُسِهم من الحاكِمِ العُبَيديِّ، فاجتمعوا على بيعةِ أبي ركوة، وخاطَبوه بأميرِ المُؤمِنينَ، ولُقِّبَ بالثَّائِرِ بأمرِ اللهِ المُنتَصِر من أعداء الله، ودخَلَ برقةَ في جَحفلٍ عَظيمٍ، فجمع له أهلُها نحوًا مِن مِئَتي ألفِ دينار، ونقَشُوا الدَّراهِمَ والدَّنانيرَ بألقابِه، فالتَفَّ على أبي ركوة من الجنودِ نحوٌ مِن سِتَّةَ عَشَرَ ألفًا، فلما بلغَ الحاكِمَ أمْرُه وما آل إليه حالُه، عَظُمَ عليه الأمرُ، وأهمَّتْه نَفسُه ومُلكُه، وعاود الإحسانَ إلى النَّاسِ، والكَفَّ عن أذاهم، ثمَّ بعث إليه جيشًا بقيادةِ ينال الطويل التركي الذي انهزم أمامَ أبي ركوةِ، وقُتِلَ ينال، فانتشَرَ ذِكرُ أبي رَكوةَ، وعَظُمَت هَيبتُه، وأقام ببرقةَ، وترَدَّدَت سراياه إلى الصعيدِ وأرضِ مِصرَ، وقام الحاكِمُ مِن ذلك وقَعَد، وسُقِطَ في يَدِه، ونَدِمَ على ما فَرَّط، وفَرِحَ جُندُ مِصرَ وأعيانُها بأمرِ أبي ركوة، وعَلِمَ الحاكِمُ بذلك، فاشتَدَّ قَلَقُه، وأظهَرَ الاعتذارَ عن الذي فعَلَه، وكتب النَّاسُ إلى أبي رَكوةَ يَستدعونَه، ومِمَّن كتَبَ إليه الحُسَينُ بنُ جوهر المعروف بقائِدِ القُوَّاد، فسار حينئذٍ عن برقةَ إلى الصَّعيدِ، وعَلِمَ الحاكِمُ، فاشتَدَّ خَوفُه، وبلغ الأمرُ كُلَّ مَبلغٍ، وجمَعَ عساكِرَه واستشارهم، وكتَبَ إلى الشَّامِ يَستدعي العساكِرَ فجاءته، وفَرَّقَ الأموالَ والدَّوابَّ والسِّلاحَ، وسَيَّرَهم وهم اثنا عشرَ ألفَ رجلٍ بين فارسٍ وراجلٍ، سِوى العرب، بقيادة الفَضلِ بنِ عبد الله الذي استطاع بعد عدَّةِ وقائِعَ أن يَهزِمَ أبا ركوةَ، فأسَرَه وأكرَمَه حتى أدخَلَه مِصرَ، ثم حُمِلَ أبو رَكوةَ على جَملٍ مُشهَّرًا به وبأصحابِه، ثُمَّ قُتِلَ وصُلِبَ، ثمَّ أكرمَ الحاكِمُ الفَضلَ وأقطَعَه أقطاعًا كثيرة، ثمَّ اتَّفَق مَرَضُ الفَضلِ فعاده الحاكِمُ مَرَّتين، فلمَّا عوفِيَ قَتَلَه شَرَّ قِتلةٍ.
لَمَّا أخرج يمينُ الدَّولةِ مَحمودُ بنُ سبكتكين عساكِرَ إيلك الخان مِن خُراسان، راسَلَ إيلك الخان قدرخان بن بغراخان مَلِكَ الختل؛ لقرابةٍ بينهما، وذكَرَ له حالَه، واستعانَ به واستنصَرَه، واستنفَرَ التُّركَ مِن أقاصي بلادها، وسار نحو خُراسان، واجتمع هو وإيلك الخان، فعَبَرا النَّهرَ، وبلغ الخبَرُ يمينَ الدَّولة، وهو بطخارستان، فسار وسبَقَهما إلى بلخ، واستعَدَّ للحَربِ، وجمع التُّركَ الغُزية، والخلج، والهند، والأفغانية، والغزنوية، وخرج عن بلخٍ، فعسكَرَ على فَرسَخينِ بمكانٍ فَسيحٍ يصلُحُ للحَربِ، وتقَدَّمَ إيلك الخان، وقدرخان في عساكِرِهما، فنزلوا بإزائِه، واقتتلوا يومَهم ذلك إلى اللَّيلِ، فلمَّا كان الغَدُ بَرَزَ بَعضُهم إلى بَعضٍ واقتَتَلوا، واعتَزَل يمينُ الدَّولةِ إلى نَشزٍ مُرتَفعٍ يَنظُرُ إلى الحَربِ، ونزل عن دابَّتِه وعَفَّر وجهَه على الصَّعيدِ تُواضعًا لله تعالى، وسأله النَّصرَ والظَّفَر، ثمَّ نَزَل وحمَلَ في فيلَتِه على قَلبِ إيلك الخان، فأزالَه عن مكانِه، ووقعت الهَزيمةُ فيهم، وتَبِعَهم أصحابُ يمينِ الدَّولة يقتُلون ويأسِرونَ ويَغنَمونَ، إلى أن عبَروا بهم النَّهرَ، ومن المعلومِ أنَّ إيلك خان التركي طَمِعَ في بلاد يمينِ الدَّولة الغزنوي لَمَّا كان الأخيرُ يغزو بلادَ الهندِ.
غزا يمينُ الدَّولةِ مَحمودُ بنُ سبكتكين الهندَ، ولَمَّا وصَله خبَرُ دُخولِ إيلك التركي إلى بلادِه واستيلائِه عليها، رجَعَ مِن فورِه إلى بلادِه واستخلصَها مِن يَدِه، فلمَّا فرَغَ سار نحو الهندِ للغزاة، وسبَبُ ذلك أنَّ بعضَ أولادِ مُلوكِ الهند، يُعرَفُ بنواسه شاه، كان قد أسلَمَ على يَدِه، واستخلَفَه على بَعضِ ما افتتَحَه من بلادِهم، فلمَّا بلَغَه أنَّه ارتَدَّ عن الإسلامِ، ومالأَ أهلَ الكُفرِ والطُّغيانِ، سار إليه مُجِدًّا، فحين قارَبَه فَرَّ الهِنديُّ مِن بين يديه، واستعاد يمينُ الدَّولة تلك الوِلايةَ، وأعادها إلى حُكمِ الإسلام، واستخلَفَ عليها بعضَ أصحابِه، وعاد إلى غزنةَ.