سار المَلِكُ أَلب أَرسلان بن داودَ ابن أخي طُغرلبك من مدينةِ مَرو بخُراسان، وقَصَد بِلادَ فارس في المَفازَة، فلم يَعلَم به أحدٌ، ولا أَعلَم عَمَّهُ طُغرلبك، فوَصَل إلى مَدينةِ فَسا، فانصرف النَّائِبُ بها من بين يديه، ودَخلَها أَلبُ أَرسلان فقَتَل من الدَّيلم بها ألفَ رَجُل، وعددًا كثيرًا من العامَّةِ، ونَهبوا ما قَدرُه ألف ألف دينار، وأسروا ثلاثةَ آلافِ إنسانٍ، وكان الأمرُ عظيمًا. فلمَّا فَرغوا من ذلك عادوا إلى خُراسان، ولم يَلبَثوا خَوفًا من طُغرلبك أن يُرسِل إليهم، ويأخُذ ما غَنموهُ منهم.
تَجدَّدت الفِتنةُ ببغداد بين السُّنَّةِ والشِّيعَة، وعَظُمَت أضعافَ ما كانت عليه قديمًا، وكان سببُ هذه الفِتنَة أنَّ أهلَ الكَرخ عَمِلوا أَبراجًا كَتَبوا عليها بالذَّهَبِ: محمدٌ وعَلِيٌّ خَيرُ البَشَرِ. وأَنكرَ السُّنَّةُ ذلك، وادَّعوا أنَّ المكتوبَ: محمدٌ وعَلِيٌّ خَيرُ البَشَرِ، فمَن رَضِيَ فقد شَكَر، ومَن أَبَى فقد كَفَر. وأَنكَر أهلُ الكَرخ الزِّيادةَ وقالوا: ما تَجاوَزنا ما جَرَتْ به عادتُنا فيما نَكتُبه على مساجِدِنا. فأَرسَل الخليفةُ القائمُ بأَمرِ الله أبا تَمَّام، نَقِيبَ العبَّاسِيِّين ونَقِيبَ العَلَوِيِّين، وهو عَدنان بن الرَّضي، لِكَشفِ الحالِ وإنهائِه، فكَتَبا بِتَصديقِ قَولِ الكَرخِيِّين، فأَمَرَ حينئذ الخليفةُ ونُوَّابُ المَلِكِ الرَّحيم البويهي بِكَفِّ القِتالِ، فلم يَقبَلوا، فأَمسَك نُوَّابُ المَلِكِ الرَّحيم عن كَفِّهِم غَيْظًا من رَئيسِ الرُّؤساءِ لِمَيْلِه إلى الحَنابِلَة، وتَشَدَّدَ رَئيسُ الرُّؤساءِ على الشِّيعَةِ، فمَحَوْا: خَيرَ البَشَر. وكتبوا: عليهما السَّلامُ. فقالت السُّنَّةُ: لا نرضى إلا أن يُقلَع الآجُرُّ، وأن لا يُؤَذَّنَ: حَيَّ على خَيرِ العَمَل. وامتَنَع الشِّيعَةُ من ذلك، ودام القِتالُ إلى ثالِثِ ربيعٍ الأوَّل، وقُتِلَ فيه رَجلٌ هاشِمِيٌّ مِن السُّنَّةِ، فحَمَلهُ أَهلُه على نَعْشٍ، وطافوا به في الحربِيَّة، وبابِ البَصرَةِ، وسائرِ مَحالِّ السُّنَّةِ، واسْتَنْفَروا النَّاسَ للأَخْذِ بِثَأْرِهِ، ثم دَفنوهُ عند أحمد بن حَنبل، وقد اجتمع معهم خَلْقٌ كَثيرٌ أضعافَ ما تَقدَّم. فلمَّا رجعوا من دَفنِه قَصَدوا مَشهدَ بابِ التِّبْنِ فأُغْلِقَ بابُه، فنَقَبوا في سُورِهِ وتَهَدَّدوا البَوَّابَ، فخافَهُم وفَتحَ البابَ فدخلوا ونَهَبوا ما في المَشهَدِ من قَناديلَ ومَحارِيبَ ذَهَبٍ وفِضَّةٍ وسُتُورٍ وغيرِ ذلك، ونَهَبوا ما في التُّربِ والدُّورِ، وأَدرَكهم اللَّيلُ فعادوا، فلمَّا كان الغَدُ كَثُرَ الجَمْعُ، فقَصَدوا المَشهَد، وأحرقوا جميعَ التُّربِ والآزاجِ، واحتَرقَ ضَريحُ موسى، وضَريحُ ابنِ ابنِه محمدِ بن عَلِيٍّ، والجوار، والقُبَّتانِ السَّاج اللَّتانِ عليهما، واحتَرَق ما يُقابِلهما ويُجاوِرهما من قُبورِ مُلوكِ بني بُويه الشِّيعَة، مُعِزِّ الدَّولَة، وجَلالِ الدَّولَة، ومن قُبورِ الوُزراءِ والرُّؤساءِ، وقَبرُ جَعفرِ بن أبي جَعفرِ المنصور، وقَبرُ الأمير محمدِ بن الرَّشيد، وقَبرُ أُمِّهِ زُبيدَة، فلمَّا كان الغَدُ خامِس الشَّهر عادوا وحَفَروا قَبرَ موسى بن جَعفرِ ومحمدِ بن عَلِيٍّ لِيَنقُلوهما إلى مَقبرَة أحمد بن حَنبل، فحال الهَدْمُ بينهم وبين مَعرفَة القَبرِ، فجاء الحَفرُ إلى جانِبِه، وسَمِعَ أبو تَمَّام نَقيبُ العبَّاسِيِّين وغَيرُه من الهاشِمِيِّين السُّنَّة الخَبَرَ، فجاؤوا ومَنَعوا عن ذلك، وقَصَد أهلُ الكَرخِ الشِّيعَة إلى خان الفُقهاءِ الحَنفِيِّين فنَهَبوه، وقَتَلوا مُدَرِّسَ الحَنفِيَّة أبا سعد السَّرخسي، وأحرقوا الخانَ ودُورَ الفُقهاءِ، وتَعَدَّت الفِتنةُ إلى الجانبِ الشَّرقيِّ، فاقْتَتَلَ أهلُ بابِ الطَّاقِ وسُوق بَجٍّ، والأساكِفَةُ -صُنَّاع الأحذية- وغَيرُهم، ولمَّا انتهى خَبَرُ إحراقِ المَشهَد إلى نُورِ الدَّولة دُبَيْسِ بن مَزْيَد عَظُم عليه واشتَدَّ وبَلَغ منه كُلَّ مَبلَغ؛ لأنَّه وأهلَ بَيتِه وسائِرَ أَعمالِه من النيل وتلك الوِلايَة كُلُّهم شِيعَة، فقُطِعَت في أَعمالِه خُطبةُ الإمامِ القائمِ بِأَمرِ الله، فرُوسِلَ في ذلك وعُوتِبَ، فاعتَذرَ بأنَّ أهلَ وِلايتِه شِيعَة، واتَّفَقوا على ذلك، فلم يُمكِنهُ أن يَشُقَّ عليهم، كما أنَّ الخليفةَ لم يُمكِنهُ كَفُّ السُّفَهاء الذين فعلوا بالمَشهدِ ما فعلوا، وأعاد الخُطبةَ إلى حالِها، ثم تَجدَّدَت هذه الفِتنةُ في السَّنَةِ التَّاليةِ في ذي القعدة.
سَيَّرَ المَلِكُ الرَّحيمُ ابن أبى كاليجار البويهي الشِّيعي أخاهُ الأميرَ أبا سعد في جَيشٍ إلى بلادِ فارس، وكان سببُ ذلك أنَّ المُقيمَ في قَلعةِ إصطخر، وهو أبو نصر بن خسرو، وكان له أَخَوان قَبَضَ عليهما هزارسبُ بن بنكير بِأَمْرِ الأَميرِ أبي منصور بن المَلِكِ أبي كاليجار، فكتَبَ إلى المَلِكِ الرَّحيم البويهي الشِّيعي يَبذُل له الطَّاعة والمُساعَدة، ويَطلُب أن يُسَيِّر إليه أخاهُ لِيُمَلِّكَهُ بلادَ فارس، فسَيَّرَ إليه أخاهُ أبا سعد في جَيشٍ، فوصَلَ إلى دولةِ أباذ، فأتاه كَثيرٌ مِن عَساكر فارس: الدَّيلمِ، والتُّرْكِ، والعَرَبِ، والأَكرادِ، وسار منها إلى قَلعةِ إصطخر، فنزل إليه صاحبُها أبو نصر، فلَقِيَهُ وأَصعدَهُ إلى القَلعةِ، وحمَلَ له وللعَساكر التي معه الإقامات والخِلَعِ وغيرها، ثم ساروا منها إلى قَلعةِ بهندر فحَصَروها، وأتاهُ كُتُبُ بعضِ مُستَحفِظي البلادِ الفارسيَّة بالطَّاعةِ، منها مُستَحفِظ درابجرد وغيرها، ثم سار إلى شيراز فمَلكَها في رمضان، فلمَّا سَمِعَ أخوهُ الأميرُ أبو منصور، وهزارسب، ومنصور بن الحسين الأسديُّ ذلك ساروا في عَسكرِهم إلى المَلِكِ الرَّحيم فهَزَموه، وفارَق الأهوازَ إلى واسط، ثم عَطَفوا من الأهوازِ إلى شِيراز لِإجلاءِ الأميرِ أبي سعدٍ عنها، فلمَّا قاربوها لَقِيَهم أبو سعدٍ وقاتَلَهم فهَزمَهم، فالتجَأُوا إلى جبلِ قَلعةِ بهندر، وتَكرَّرت الحروبُ بين الطائِفَتينِ إلى مُنتصفِ شَوَّال، فتَقدَّمت طائفةٌ من عَسكرِ أبي سعدٍ فاقتَتَلوا عامَّة النَّهارِ ثم عادوا، فلمَّا كان الغدُ التقى العَسكرانِ جميعًا واقتَتَلوا، فانهَزمَ عَسكرُ الأميرِ أبي منصور، وظَفَر أبو سعدٍ، وقَتَل منهم خَلْقًا كَثيرًا، واستَأمَن إليه كثيرٌ منهم، وصعد أبو منصور إلى قَلعةِ بهندر واحتَمَى بها، وأقام إلى أن عاد إلى مُلكِه، ولما فارَق الأميرُ أبو منصور الأهوازَ أُعيدَت الخطبة للمَلِكِ الرَّحيم، وأَرسلَ مَن بها مِن الجُندِ يَستدعونَه إليهم.
زَعيمُ الدَّولة، أبو كامل، بَرَكَة بن المُقَلِّد، أميرُ بني عُقيلٍ، وصاحبُ المَوصِل بن المُسيبِ بن رافِع بن المُقلِّد بن جعفرِ بن عَمروِ بن المُهَنَّا بن عبدِ الرَّحمن بن بُرَيد -مُصغَّرًا- يَنتهِي إلى هوازن العُقَيلي، هو من بَيتٍ كَبيرٍ في الإمرَةِ. كان بَركةُ بن المُقلِّد قد غَلَب على المَوصِل وغَيرِها، وقَهَر أخاهُ قرواشا، وعاثَ وأَفسَد وعَسَف، وفي هذه السَّنَةِ انحدَر إلى تكريت في حُلَلِهِ قاصدًا نحوَ العِراق لِيُنازِعَ النُّوَّاب به عن المَلِكِ الرَّحيم، ويَنهَب البِلادَ، فلمَّا بَلغَها انتَقضَ عليه جُرحٌ كان أصابهُ من الغُزِّ لمَّا مَلَكوا المَوصِل، فتُوفِّي، ودُفِنَ بتكريت. واجتمعت العربُ من أصحابِه على تَأميرِ عَلَمِ الدِّين أبي المعالي قُريشِ بن بَدران بن المُقلِّد، فعاد بالحُلَلِ والعربِ إلى المَوصِل وأَرسَل إلى عَمِّه قِرواش، وهو تحت الاعتقالِ يُعلِمُه بوَفاةِ زَعيمِ الدَّولةِ، وقِيامِه بالإمارة، وأنَّه يَتَصرَّف على اختِيارِه، ويقوم بالأَمرِ نِيابةً عنه. فلمَّا وصل قُريشٌ إلى المَوصِل جَرى بينهُ وبين عَمِّه قِرواش مُنازَعة، ضَعُفَ فيها قِرواش، وقَوِيَ ابنُ أخيهِ، ومالت العربُ إليه، واستقَرَّت الإمارةُ له، وعاد عَمُّه إلى ما كان عليه من الاعتقالِ، ثم نَقلَهُ إلى قَلعةِ الجَرَّاحِيَّة مِن أَعمالِ المَوصِل، فاعتُقِلَ بها.
عُمِلَ مَحضَرٌ ببغداد يتضمن القَدْحَ في نَسَبِ العَلويِّين أصحاب مصر، وأنهم كاذبون في ادعائهِم النَّسَبَ إلى عَلِيِّ بن أبي طالبٍ، وعَزُوهُم فيه إلى الدَّيْصانِيَّة مِن المَجوس، والقَدَّاحِيَّة مِن اليهود، وكَتَبَ فيه العَلويُّون، والعبَّاسِيُّون، والفُقهاء، والقُضاة، والشُّهود، وعُمِلَ به عِدُّة نُسَخٍ، وسُيِّرَ في البِلادِ، وشِيعَ بين الحاضرِ والبادي.
هو عبدُ الرَّشيد بن محمود بن سُبُكْتِكِين، مِن مُلوكِ الدَّولة الغَزْنويَّة، كان ابنُ أخيهِ مَوْدودُ بن مسعود قد حَبسَهُ في قَلعةِ ميدين، ولما تُوفِّي مَودود سنة 441هـ خَلَفَهُ وَلدٌ له، فبَقِيَ خَمسةَ أيَّامٍ ثم قَصدَ بعضُ النَّاسِ القَلعةَ وأَخرَجوا عبدَ الرَّشييد وبايعوه ودَخلوا معه غَزنَة، ولَقَّبوهُ شَمسَ دِين الله، وكان ضَعيفًا قَليلَ الحِيلَة، فلم يَطُل عَهدُه, فقد قَتلَهُ حاجبٌ لِمَودود اسمهُ طُغْرُل، وكان مَودود قد قَدَّمَهُ، ونَوَّه باسمِه، وزَوَّجَهُ أُختَه، فلمَّا تُوفِّي مَودود ومَلَكَ عبدُ الرَّشيد أَجرَى طُغرُل على عادتِه في تَقدُّمِه، وجَعلهُ حاجبَ حُجَّابِه، فأشار عليه طُغرُل بِقَصدِ الغُزِّ وإجلائهِم مِن خُراسان، فسَيَّرَهُ إليها، فقَوِيَ أَمرُ طُغرُل هذا إلى أن حَدَّثَتهُ نَفسُه بِمُلْكِ غَزْنَة بدل عبدِ الرَّشيد، فأَعمَل الحِيلةَ وعاد بالجُيوش التي كانت معه، وقَتَلَ عبدَ الرَّشيد وتَزوَّج أُختَه كُرْهًا ومَلَكَ البَلدَ.
وَصلَ أَصحابُ السُّلطان طُغرُلبك إلى فارس، وبلغوا إلى شيراز، ونزلوا بالبَيضاءَ، واجتمع معهم العادلُ أبو منصور الذي كان وزيرَ المَلِكِ أبي كاليجار، ودَبَّرَ أَمرَهم، فقَبَضوا عليه وأخذوا منه ثلاثَ قِلاعٍ، وهي: قَلعةُ كَبْزَة، وقَلعةُ جُوَيْم، وقَلعةُ بَهَنْدَر، فأقاموا بها، وسار مِن الغُزِّ نحو مائتي رَجُلٍ إلى الأَميرِ أبي سعدٍ، أخي المَلِكِ الرَّحيم، وصاروا معه، وراسَل أبو سعدٍ الذي بالقِلاعِ المذكورةِ، فاستَمالَهم فأطاعوه وسَلَّموهُ القِلاعَ، إليه وصاروا في خِدمتهِ، واجتمع العَسكرُ الشيرازي، وعليهم الظَّهيرُ أبو نَصرٍ، وأوقعوا بالغُزِّ ببابِ شيراز، فانهزم الغُزُّ، وأُسِرَ تاجُ الدِّين نَصرُ بن هبة الله بن أحمد، وكان من المُقَدَّمين عند الغُزِّ، فلمَّا انهزم الغُزُّ سار العَسكرُ الشيرازي إلى فَسا، وكان قد تَغلَّب عليها بعضُ السَّفِل، وقَوِيَ أَمرُه لاشتغالِ العَساكرِ بالغُزِّ، فأزالوا المُتَغَلِّب عليها واستَعادُوها.
في هذه السَّنَةِ دَخلتْ العَربُ إلى إفريقية, وسببُ ذلك أنَّ المُعِزَّ بن باديس كان خَطَبَ للقائم بأَمرِ الله الخليفة العبَّاسي، وقَطَع خُطبةَ المُستَنصِر العُبيدي الفاطمي صاحب مصر، فلمَّا فعل ذلك كَتَب إليه المُستَنصِر العَلويُّ يَتَهدَّدهُ، فأَغلظَ المُعِزُّ في الجوابِ، ثم شَرعَ المُستَنصِرُ ووَزيرهُ الحسنُ بن عَليٍّ اليازوري في إرسالِ العَربِ إلى أفريقية، وأصلحوا بني زُغْبَة ورِياحٍ، وكان بينهم حُروبٌ وحُقودٌ، وأعطوهم مالًا، وأَمروهُم بِقَصدِ بِلادِ القَيروان، ومَلَّكوهُم كُلَّ ما يَفتحونَه، ووَعَدوهُم بالمَدَدِ والعُدَدِ. فدَخلتْ العربُ إلى إفريقية، وكَتَب اليازوري إلى المُعِزِّ وكان حاقدا عليه: "أمَّا بعدُ، فقد أرسلنا إليكم خُيولًا فُحولًا، وحَملنا عليها رِجالًا كُهولًا، ليقضي الله أمرًا كان مَفعولًا". فاحلوا فلمَّا حَلُّوا أرضَ بَرْقَة وما والاها ووجدوا بِلادًا كَثيرةَ المَرْعَى خالِيَة مِن الأَهلِ، فأَقامَت العَربُ بها واستَوطَنَتها، وعاثوا في أَطرافِ البِلادِ, وبَلَغ ذلك المُعِزَّ فاحتَقَرهُم, وكانت عَربُ زُغبَة قد مَلكَت مَدينةَ طرابلس سنة 446هـ، فتَتابَعَت رِياحٌ والأثبجُ وبنو عَدِيٍّ إلى إفريقية، وقَطَعوا السَّبيلَ وعاثوا في الأرضِ، وأرادوا الوصولَ إلى القَيروان، فقال مُؤْنِسُ بن يحيى المِرداسيُّ: "ليس المُبادرَة عندي بِرَأيٍ. فقالوا: كيف تُحِبُّ أن تَصنعَ؟ قال: خُذوا شيئًا فشَيئًا حتى لا يَبقَى إلَّا القَيروان، فخُذوها حينئذٍ. فقالوا: أنت المُقَدَّمُ علينا، ولَسْنَا نَقطعُ أَمرًا دُونك". ثم قَدِم أُمراءُ العَربِ إلى المُعِزِّ فأَكرَمَهم وبَذَل لهم شيئًا كَثيرًا، فلمَّا خَرجوا مِن عِندِه لم يُجازُوهُ بما فَعلَ مِن الإحسانِ، بل شَنُّوا الغاراتِ، وقَطَعوا الطَّريقَ، وأَفسَدوا الزُّروعَ، وقَطَّعوا الثِّمارَ، وحاصَروا المُدُنَ، فضاق بالنَّاسِ الأَمرُ، وساءَت أَحوالُهم، وانقَطعَت أَسفارُهم، ونَزلَ بإفريقية بَلاءٌ لم يَنزِل بها مِثلُه قط، فحينئذٍ احتَفلَ المُعِزُّ وجَمعَ عَساكرَه، فكانوا ثلاثين ألف فارس، ومِثلَها رَجَّالَة، وسار حتى أَتَى جَنْدِران، وهو جَبَلٌ بينه وبين القَيروان ثلاثةُ أيَّامٍ، وكانت عُدَّةُ العَربِ ثَلاثةُ آلافِ فارس، فلمَّا رَأَتْ العَربُ عساكِر صنهاجة والعَبيدَ مع المُعِزِّ هالَهُم ذلك، وعَظُمَ عليهم، فقال لهم مُؤْنِسُ بن يحيى: ما هذا يوم فِرارٍ. والتَحَم القِتالُ واشتَدَّتْ الحَربُ، فاتَّفقَت صِنهاجَة على الهزيمةِ وتَرْكِ المُعِزِّ مع العَبيدِ حتى يَرَى فِعلَهم، ويُقتَل أَكثرُهم، فعند ذلك يَرجِعون على العَربِ، فانهَزمتْ صِنهاجَة وثَبَتَ العَبيدُ مع المُعِزِّ، فكَثُرَ القَتلُ فيهم، فقُتِلَ منهم خَلْقٌ كَثيرٌ، وأرادت صِنهاجة الرُّجوعَ على العَربِ فلم يُمكِنهُم ذلك، واستَمرَّت الهَزيمةُ، وقُتِلَ مِن صِنهاجة أُمَّةٌ عَظيمَة، ودَخلَ المُعِزُّ القَيروانَ مَهزومًا، على كَثرَةِ مَن معه، وأَخذتْ العَربُ الخَيْلَ والخِيامَ وما فيها مِن مالٍ وغَيرِه. ولمَّا كان يومُ النَّحْرِ من هذه السَّنَةِ جَمعَ المُعِزُّ سَبعةً وعِشرينَ ألف فارس، وسار إلى العَربِ جَرِيدَةً -الجريدة خَيْلٌ لا رَجَّالة فيها- وسَبَقَ خَبرُه، وهَجَم عليهم وهُم في صَلاةِ العِيد، فرَكِبَت العَربُ خُيولَهم وحَملَت، فانهَزَمت صِنهاجة، فقُتِلَ منهم عالَمٌ كَثيرٌ. ثم جَمعَ المُعِزُّ وخَرجَ بِنَفسِه في صِنهاجة وزِناتَة في جَمعٍ كَثيرٍ، فلمَّا أَشرفَ على بُيوتِ العَربِ، انتَشَب القِتالُ، واشتَعَلت نِيرانُ الحَربِ، وكانت العَربُ سَبعةَ آلافِ فارس، فانهَزَمت صِنهاجة، وزِناتَة، وثَبَتَ المُعِزُّ فيمَن معه من عَبيدِه ثَباتًا عَظيمًا لم يُسمَع بمِثلِه، ثم انهَزَم وعاد إلى المَنصوريَّة. وأحصي مَن قُتِلَ مِن صنهاجة ذلك اليوم، فكانوا ثلاثةَ آلاف وثلاثمائة. ثم أَقبلَت العَربُ حتى نَزلَت بمُصَلَّى القَيروان، ووَقعَت الحَربُ، فقُتِلَ مِن المَنصوريَّة ورقادة خَلْقٌ كَثيٌر، فلمَّا رأى ذلك المُعِزُّ أَباحَهم دُخولَ القَيروان لِمَا يحتاجون إليه مِن بَيعٍ وشِراءٍ، فلمَّا دخلوا استَطالَت عليهم العامَّةُ، ووَقعَت بينهم حَربٌ كان سَببُها فِتنةً بين إنسانٍ عَربيٍّ وآخرَ عامِيٍّ، وكانت الغَلَبةُ للعَربِ. وفي سنة 444هـ بُنِيَ سورُ زويلة والقَيروان، وفي سنة 446هـ حاصرت العَربُ القَيروانَ، ومَلَكَ مُؤنِسُ بن يحيى مدينةَ باجَة، وأَشارَ المُعِزُّ على الرَّعِيَّة بالانتقالِ إلى المَهديَّة لِعَجزِه عن حمايتهم من العَربِ. وشَرعَت العَربُ في هَدمِ الحُصونِ والقُصورِ، وقَطَّعوا الثِّمارَ، وخَرَّبوا الأَنهارَ، وأَقامَ المُعِزُّ والناسُ يَنتَقِلون إلى المَهديَّة إلى سَنةِ تِسعٍ وأربعين، فعندها انتَقلَ المُعِزُّ إلى المَهديَّة في شعبان، فتَلقَّاهُ ابنُه تَميمٌ، ومَشَى بين يَديهِ، وكان أَبوهُ قد وَلَّاهُ المَهديَّة سَنةَ خَمسٍ وأربعين، وفي رمضان من سَنةِ تِسعٍ وأربعين نَهبَت العَربُ القَيروانَ, وهكذا تَتابَعت هَزائمُ المُعِزِّ وعَسكرِه على يَدِ العَربِ بِدَعمٍ مِن المُستَنصِر العُبيدي حاكم مصر.
الإمامُ، الحافظُ، المُجَوِّدُ، المُقرِئُ، الحاذِقُ، عَالِمُ الأندلُس، أبو عَمرٍو عُثمانُ بن سَعيدِ بن عُثمان الدَّاني، المعروف بابنِ الصَّيْرَفِيِّ، وبأبي عَمرٍو الدَّاني، مالِكي المَذهَب، وُلِدَ سنة 371هـ بدأ بِطَلَبِ العِلمِ في قُرطبة سَنةَ 386هـ, ثم رَحلَ إلى المَشرِق وسَمِعَ الحَديثَ في القَيروان ومصر، وهو أَحدُ الأَئِمَّة في عِلمِ القُرآن رِواياتِه، وقِراءاتِه، وتَفسيرِه، ومَعانِيه، وطُرُقِه، وإعرابِه، وإليه انتهى عِلمُ القِراءات وإتقانُ القُرآن، وجَمعَ في ذلك كُلِّهِ تَواليفَ حِسانًا مُفيدةً، وله مَعرِفَة بالحَديثِ وطُرُقِه، وأسماء رِجالِه ونَقَلَتِهِ، وكان حَسَنَ الخَطِّ، جَيِّدَ الضَّبطِ، مِن أهلِ الذَّكاءِ والحِفظِ، والتَّفنُّنِ في العِلمِ، دَيِّنًا فاضِلًا، وَرِعًا مُجابَ الدَّعوةِ. لم يكُن في عَصرِه ولا بَعدَ عَصرِه أحدٌ يُضاهيهِ في حِفظهِ وتَحقيقِه، وكان يقول: "ما رأيتُ شَيئًا قط إلا كَتبتُه، ولا كَتبتُه إلا وحَفِظتُه، ولا حَفِظتُه فنَسيتُه". وكان يُسألُ عن المَسأَلةِ مما يَتعلَّق بالآثارِ وكلامِ السَّلفِ، فيُورِدها بجميعِ ما فيها مُسنَدَةً من شُيوخِه إلى قائلِها. وله مُؤلَّفاتٌ تُعتَبر هي المرجِعُ في القِراءات مثل: ((التَّيسير في القِراءاتِ السَّبْعِ))، و((المقنع في رَسْمِ المصاحِف)) و((المُحكَم في نَقْطِ المصاحِف)) و((الاهتداء في الوقفِ والابتداء)) وغيرها، قال الذهبي: " كان بين أبي عَمرٍو الدَّاني، وبين أبي محمد بن حَزمٍ وَحشَةٌ ومُنافرَةٌ شَديدةٌ، أَفضَت بهما إلى التَّهاجي، وهذا مَذمومٌ مِن الأَقرانِ، مَوفورُ الوُجودِ، نَسألُ اللهَ الصَّفحَ, وأبو عَمرٍو أَقْوَمُ قِيلًا، وأَتْبَعُ للسُّنَّةِ، ولكنَّ أبا مُحمدٍ أَوسعُ دَائِرةً في العُلومِ، بَلغَت تَواليفُ أبي عَمرٍو مائةً وعِشرين كِتابًا". تُوفِّي في الأَندلُس عن 73 عامًا. ودُفِنَ ليومِه بعدَ العَصرِ بِمَقبرةٍ دانِيَةٍ، ومَشى سُلطانُ البَلدِ أمامَ نَعشِه، وشَيَّعَهُ خَلْقٌ عَظيمٌ.
زادت الفِتنةُ بين شِيعَةٍ مِن أَهلِ الكَرخِ وغَيرهِم مِن أَهلِ السُّنَّةِ، وكان ابتِداؤُها أواخرَ سَنَةِ أربعٍ وأربعين في ذي القعدة، فلمَّا كان الآن عَظُمَ الشَّرُّ، واطَّرَحَت المُراقبَة للسُّلطان، واختَلطَ بالفَريقينِ طوائفُ مِن الأتراكِ، فلمَّا اشتَدَّ الأمرُ اجتمع القُوَّادُ واتَّفَقوا على الرُّكوبِ إلى المَحالِّ، وإقامةِ السِّياسةِ بأهلِ الشَّرِّ والفَسادِ، وأَخَذوا مِن الكَرخِ إِنسانًا عَلويًّا وقَتلوهُ، فَثارَ نِساؤُه، ونَشَرْنَ شُعورَهُنَّ واسْتَغَثْنَ، فتَبِعَهُنَّ العامَّةُ من أهلِ الكَرخِ، وجَرى بينهم وبين القُوَّاد ومن معهم من العامَّةِ قِتالٌ شَديدٌ، وطَرحَ الأتراكُ النَّارَ في أَسواقِ الكَرخ، فاحتَرقَ كَثيرٌ منها، وأَلحَقَتها بالأرضِ، وانتَقَل كَثيرٌ من الكَرخِ إلى غَيرِها من المَحالِّ، ونَدِمَ القُوَّادُ على ما فَعلوهُ، وأَنكرَ الخَليفةُ القائمُ بأَمرِ الله ذلك، وصَلُحَ الحالُ، وعاد النَّاسُ إلى الكَرخِ، بعد أن استَقرَّت القاعدةُ بالدِّيوان بِكَفِّ الأتراكِ أَيديَهم عنهم.
استولى المَلِكُ الرَّحيم البويهي الدَّيلمي الشِّيعي على مَدينةِ أرجان، وأَطاعهُ مَن كان بها مِن الجُندِ، وكان المُقَدَّمُ عليهم فولاذ بن خُسرو الدَّيلمي، وكان قد تَغلَّب على جِوارِها مِن البِلادِ إِنسانٌ مُتَغَلِّبٌ يُسمَّى خشنام، فأَنفذَ إليه فولاذ جَيشًا فأَوقَعوا به وأَجْلَوْهُ عن تلك النَّواحي، واستَضافوا إلى طَاعةِ المَلِكِ الرَّحيم، وخاف هزارسب بن بنكير من ذلك لأنَّه كان مُبايِنًا للمَلِكِ الرَّحيم، فأَرسلَ يَتَضرَّع ويَتَقرَّب، ويَسأَل التَّقَدُّمَ إلى فولاذ بإحسانِ مُجاورَتِه، فأُجِيبَ إلى ذلك.
وَصلَ الخَبرُ إلى بغداد بأنَّ جَمْعًا من الأَكرادِ والأَعرابِ قد أَفسَدوا في البلادِ، وقَطَعوا الطَّريقَ، ونَهَبوا القُرى، طَمعًا في السَّلْطَنَةِ بسَببِ الغُزِّ، فسار إليهم البساسيري -وكان مملوكاً تركياً من مماليك بهاء الدولة بن عضد الدولة- وتَبِعَهُم إلى البَوازيج -بلد قُربَ تكريت-، فأَوقعَ بِطَوائفَ كَثيرةٍ منهم، وقَتَّلَ فيهم، وغَنِمَ أَموالَهم، وانهَزمَ بعضُهم فعَبَروا الزَّابَ عند البَوازيج فلم يُدرِكهُم، وأَرادَ العُبورَ إليهم، وهُم بالجانبِ الآخر، وكان الماءُ زائدًا، فلم يَتمكَّن من عُبورهِ، فنَجَوْا.
عاد الأميرُ أبو منصور فولاستون ابن المَلِكِ أبي كاليجار البويهي الدَّيلمي الشِّيعي إلى شيراز مُستَولِيًا عليها، وفارَقَها أخوهُ الأميرُ أبو سعدٍ، وكان سببُ ذلك أنَّ الأميرَ أبا سعدٍ كان قد تَقدَّم معه في دَولتِه إنسانٌ يُعرفُ بعَميدِ الدِّين أبي نصرِ بن الظَّهير، فتَحَكَّم معه، واطَّرحَ الأجنادَ واستَخَفَّ بهم، وأَوحشَ أبا نصرِ بن خسرو، صاحب قَلعةِ إصطخر، الذي كان قد استَدعَى الأميرَ أبا سعدٍ ومَلَّكَهُ، فلمَّا فعل ذلك اجتمعوا على مُخالَفَتِه وتَأَلَّبوا عليه، وأَحضرَ أبو نَصرِ بن خسرو الأميرَ أبا منصور بن أبي كاليجار إليه! وسَعى في اجتماعِ الكَلمةِ عليه، فأجابه كثيرٌ من الأجنادِ لِكَراهتهِم لعَميدِ الدِّين، فقَبَضوا عليه، ونادوا بِشِعارِ الأميرِ أبي منصور، وأَظهروا طاعتَه، وأَخرَجوا الأميرَ أبا سعدٍ عنهم، فعاد إلى الأهوازِ في نَفَرٍ يَسيرٍ، ودخلَ الأميرُ أبو منصور إلى شيراز مالِكًا لها، مُستَولِيًا عليها، وخَطَب فيها لطُغرلبك، وللمَلِكِ الرَّحيم، ولِنَفسِه بعدهما.
سار طُغرلبك إلى أذربيجان، فقَصدَ تبريزَ، وصاحبُها الأميرُ أبو منصور وهسوذان بن محمد الرَّوادي، فأَطاعَه وخَطَب له وحَمَلَ إليه ما أَرضاهُ به، وأَعطاهُ وَلَدَهُ رَهينةً، فسار طُغرلبك عنه إلى الأميرِ أبي الأسوارِ، صاحبِ جنزة - بَلدَة من بلادِ أذربيجان- فأَطاعَهُ أيضًا وخَطَب له، وكذلك سائرُ تلك النَّواحي أَرسَلوا إليه يَبذُلون الطَّاعةَ والخُطبةَ، وانقادَت العَساكرُ إليه، فأَبقَى بِلادَهم عليهم، وأَخذَ رَهائِنَهم وسار إلى أَرمينية، وقَصدَ ملازكرد، وهي للرُّومِ، فحَصَرها وضَيَّقَ على أَهلِها، ونَهبَ ما جاوَرَها من البلادِ وأَخرَبَها، وهي مدينةٌ حَصينَة، فأَرسلَ إليه نَصرُ الدَّولةِ بن مَروان، صاحبُ دِيارِ بَكْرٍ، الهدايا الكثيرة والعَساكِر، وقد كان خَطَبَ له قبلَ هذا الوَقتِ وأَطاعَهُ، وأَثَّرَ السُّلطانُ طُغرلبك في غَزْوِ الرُّومِ آثارًا عظيمةً، ونال منهم مِن النَّهْبِ والقَتْلِ والأَسْرِ شَيئًا كثيرًا، وبلغَ في غَزوتِه هذه إلى أرزن الرُّومِ، وعاد إلى أذربيجان، لمَّا هَجمَ الشِّتاءُ، من غير أن يَملِك ملازكرد، وأَظهَر أنَّه يُقيم إلى أن يَنقَضي الشِّتاءُ، ويَعودُ يُتِمُّ غَزاتِه، ثم تَوجَّه إلى الرَّيِّ فأقامَ بها إلى أن دخلت سَنةُ سَبعٍ وأربعين وعاد نحوَ العراق.
أُصيبَت مِصرُ بِقَحْطٍ شَديدٍ وغَلاءٍ شَديدٍ كاد يُهلِكُهم، فعَقدَ المُستنصِرُ الفاطِميُّ مع الإمبراطورِ البيزنطي قُسطنطين التاسِع مُعاهدةً مُوجِبُها أن يَمُدَّ الرُّومُ مِصرَ بالغِلالِ والأَقواتِ لِتَجاوُزِ المَجاعةِ التي حَلَّت بهم، لكنَّ إمبراطورَ الرُّومِ يَموتُ قبلَ الوَفاءِ بالمُعاهدةِ، ويَتولَّى أَمرَ الرُّومِ الإمبراطورة تيودورا فاشتَرطَت أن يَتَعهَّدَ الفاطِميونَ الدِّفاعَ عن الرُّومِ في حالِ التَّعَدِّي عليهم لِتُنَفِّذَ هذه المُعاهدة السَّابقة؛ لكنَّ المُستنصِرَ لم يَرضَ بهذا الشَّرْطِ، عِلْمًا أنَّ الرُّومَ كانوا قد أَرسَلوا هَدايا قبلَ ذلك منها كَثيرٌ مِن القَمحِ والغَلَّاتِ التي ساعدت في هذه المَجاعةِ، كما حَصَلَ قِتالٌ بين الرُّومِ وبين بَعضِ الجُيوشِ المُتاخِمَةِ لهم.
كانت فِتنةُ الجُندِ الأَتراكِ ببغداد، وكان سَببُها أنهم تَخَلَّفَ لهم على الوزيرِ الذي للمَلِكِ الرَّحيم مَبلَغٌ كَثيرٌ مِن رُسومِهم، فطالبوهُ، وأَلَحُّوا عليه، فاختَفَى في دارِ الخِلافةِ، فحَضَر الأتراكُ بالدِّيوانِ وطالبوهُ، وشَكَوْا ما يَلقَوْنَه منه من المَطْلِ بمالِهم، فلم يُجابوا إلى إظهارهِ، فعَدَلوا عن الشَّكوَى منه إلى الشَّكوَى من الدِّيوان، وقالوا: إنَّ أربابَ المُعاملات قد سَكَنوا بالحَريمِ، وأَخَذوا الأموالَ، وإذا طَلَبناهُم بها يَمتَنِعون بالمَقامِ بالحَريمِ، وانتَصَب الوَزيرُ والخَليفةُ لِمَنعِنا عنهم، وقد هَلكنا، فتَردَّد الخِطابُ منهم، والجوابُ عنه، فقاموا نافِرينَ، فلمَّا كان الغَدُ ظَهَرَ الخَبَرُ أنَّهم على عَزْمِ حَصْرِ دارِ الخِلافةِ، فانزَعَج النَّاسُ لذلك، وأَخْفَوْا أَموالَهم، وحَضرَ البساسيري دارَ الخِلافةِ، وتَوصَّل إلى مَعرفةِ خَبرِ الوَزيرِ، فلم يَظهَر له على خَبرٍ، فطُلِبَ من دارهِ ودُورِ مَن يُتَّهَمُ به، وكُبِسَت الدُّور، فلم يَظهَروا له على خَبرٍ، ورَكِبَ جَماعةٌ مِن الأَتراكِ إلى دارِ الرُّومِ فنَهبوها، وأَحرَقوا البِيَعَ والقَلَّايات، ونَهَبوا فيها دارَ أبي الحسنِ بن عُبيدٍ، وَزير البساسيري، ونَهبَ الأَتراكُ كُلَّ مَن وَرَدَ إلى بغداد، فغَلَت الأَسعارُ، وعُدِمَت الأَقواتُ، وأَرسلَ إليهم الخَليفةُ يَنهاهُم، فلم يَنتَهوا، فأَظهَر أنَّه يُريدُ الانتِقالِ عن بغداد، فلم يُزجَرُوا، هذا جَميعهُ والبساسيري غيرُ راضٍ بِفِعلِهم، وهو مُقيمٌ بدارِ الخليفةِ، وتَردَّدَ الأمرُ إلى أن ظَهرَ الوَزيرُ، وقام لهم الباقي بالباقي مِن مالِهم مِن مالِه، وأَثمانِ دَوابِّهِ، وغَيرِها، ولم يَزالوا في خَبْطٍ وعَسَفٍ، فعاد طَمَعُ الأَكرادِ والأَعرابِ أَشَدَّ منه أَوَّلًا، وعاوَدوا الغارةَ والنَّهْبَ والقَتْلَ، فخُرِّبَت البلادُ وتَفَرَّق أَهلُها، فازداد خَوفُ النَّاسِ من العامَّةِ والأَتراكِ، وعَظُمَ انحلالُ أَمرُ السَّلطَنةِ بالكُلِّيَّةِ، وهذا من ضَررِ الخِلاف.
ابتَدأَت الوَحشةُ بين الخَليفةِ وأَرسِلان التُّركي المعروف بالبساسيري الذي قد عَظُمَ أَمرُه واستَفحَل، واستَولَى على البلادِ وطار اسمُه، وخافَتهُ أُمراءُ العَربِ والعَجَمِ، ودُعِيَ له على كَثيرٍ من المَنابِر العِراقيَّة والأهوازِ ونَواحِيها، ولم يكُن للخَليفَةِ قَطْعٌ ولا وَصْلٌ دُونَه، ثم صَحَّ عند الخَليفةِ سُوءُ عَقيدَتِه، وشَهِدَ عنده جَماعةٌ مِن الأَتراكِ أنَّه عازمٌ على نَهْبِ دارِ الخِلافَةِ، وأنَّه يُريدُ القَبضَ على الخَليفةِ، فعند ذلك كاتَبَ الخَليفةُ محمدَ بن ميكائيل بن سلجوق المُلَقَّبَ بطُغرلبك يَسْتَنْهِضَهُ على المَسيرِ إلى العراقِ، فانْفَضَّ أَكثرُ مَن كان مع البساسيري وعادوا إلى بغداد سريعًا، ثم أَجمعَ رَأيُهم على قَصْدِ دارِ البساسيري وهي في الجانب الغربي فأَحرَقوها، وهَدَموا أَبنِيَتَها.
كان القاضي أبو عبدِ الله القضاعي قد تَوَجَّه من عند المُستَنصِر حاكم مصر العُبيدي برِسالةٍ إلى مُتَمَلِّكِ الرُّومِ، فقَدِمَ وهو بالقُسطنطينيَّة رَسولُ السُّلطانِ طُغرلبك بن سلجوق يَلتَمِس من المَلِكَة تيودورا أن تُمَكِّنَ رَسولَه مِن الصَّلاةِ في جامعِ قُسطنطينيَّة، فأَذِنَت له في ذلك؛ فدَخلَ إليه وصَلَّى به، وخَطَبَ للخَليفةِ القائمِ بأَمرِ الله العبَّاسي. فبَعَثَ القَضاعيُّ بذلك إلى المُستنصِر، فأحاط المُستنصِر بما في بِيعَةِ قُمامَة وأَخذَهُ، وأَخرجَ البِطْرَكَ منها إلى دارِ مُفرَدَةٍ؛ وأَغلقَ أَبوابَ كنائِس مصر والشام، وطالَب الرُّهبانَ بالجِزيَةِ لأَربعِ سِنين، وزاد على النَّصارى في الجِزيَة. وكان هذا ابتداءُ فَسادِ ما بين الرُّومِ والمِصريِّين.
سار قائدٌ كبيرٌ من الدَّيلمِ، يُسمَّى فولاذ، وهو صاحبُ قَلعةِ إصطخر، إلى شيراز، فدَخلَها وأَخرجَ عنها الأَميرَ أبا منصور فولاستون، ابنَ المَلِكِ أبي كاليجار، فقَصدَ فيروزآباذ وأَقامَ بها، وقَطعَ فولاذ خُطبةَ السُّلطانِ طُغرلبك في شيراز، وخَطبَ للمَلِكِ الرَّحيمِ، ولأَخيهِ أبي سعدٍ، وكاتَبَهُما يُظهِر لهُما الطَّاعةَ، فعَلِمَا أنَّه يَخدَعهُما بذلك، فسار إليه أبو سعدٍ، وكان بأرجان، ومعه عَساكرُ كثيرةٌ، واجتمع هو وأَخوهُ الأَميرُ أبو منصور على قَصْدِ شيراز ومُحاصرتِها بَعدَ أن اتَّفَقَا على طَاعةِ أَخيهِما المَلِكِ الرَّحيم، فتَوَجَّهَا نَحوَها فيمَن معهما مِن العَساكِر، وحَصَرَا فولاذ فيها، وطال الحِصارُ إلى أن عُدِمَ القُوتُ فيها، وبَلَغَ سِعرُ سَبعةِ أَرطالٍ حِنطَة بدِينار ومات أَهلُها جُوعًا، وكان مَن بَقِيَ فيها نحوَ أَلفِ إنسانٍ، وتَعَذَّرَ المُقامُ في البَلدِ على فولاذ، فخَرَجَ هاربًا مع مَن في صُحبَتِه من الديلم إلى نَواحي البَيضاءِ وقَلعةِ إصطخر، ودَخَل الأَميرُ أبو سعدٍ، والأميرُ أبو منصور شيراز، وعَساكِرُهما، ومَلَكوها، وأَقاموا بها.
كان سببُ ذلك أن أبا المُظفَّر أبا الحارث أرسلان التُّركي المعروف بالبساسيري كان قد عَظُمَ شَأنُه بالعراقِ، واستَفحَل أَمرُه، وبَعُدَ صِيتُه، وعَظُمَت هَيبتُه في النُّفوسِ، وخُطِبَ له على المنابرِ، وصار هو الكُلَّ، ولم يَبْقَ للمَلِكِ الرَّحيمِ ابن بُويه معه إلا مُجرَّد الاسمِ. ثم إنَّه بَلَغَ أَميرَ المؤمنين القائم أنَّ البساسيري قد عَزَمَ على نَهْبِ دارِ الخِلافَة والقَبضِ على الخَليفةِ، فكاتَبَ الخَليفةُ القائمُ السُّلطانَ طُغرلبك بن ميكائيل بن سلجوق يَستَنجِد به، ويَعِدُهُ بالسَّلطَنَةِ، ويَحُضُّهُ على القُدومِ، وكان طُغرلبك بالرَّيِّ، وكان قد استولى على المَمالِك الخُراسانيَّة وغَيرِها، وكان البساسيري يومئذٍ بواسِط ومعه أَصحابُه، ففارَقَهُ طائِفةٌ منهم ورَجَعوا إلى بغداد، فوَثَبوا على دارِ البساسيري فنَهَبوها وأَحرَقوها، وذلك برَأيِ رَئيسِ الرُّؤساءِ وسَعيِه. ثم أَبخَسَهُ عند القائمِ بأنَّه يُكاتِب المِصريِّين، وكاتَبَ المَلِكَ الرَّحيم يَأمرُهُ بإبعادِ البساسيري فأَبعدَهُ، وكانت هذه الحَركةُ مِن أَعظمِ الأَسبابِ في استِيلاءِ طُغرلبك على العراقِ. فقَدِمَ السُّلطانُ طُغرلبك في شَهرِ رمضان بجُيوشِه، فذَهبَ البساسيري من العراقِ وقَصدَ الشَّامَ، ووَصلَ إلى الرَّحبَةِ، وكاتَبَ المُستَنصِرَ العُبيديَّ صاحبَ مصر، واستولى على الرَّحبةِ وخَطَبَ للمُستَنصِر بها فأَمَدَّهُ المُستَنصِر بالأَموالِ. وأما بغداد فخطب بها للسُّلطانِ طُغرلبك بعدَ القائمِ، ثم ذكر بعده المَلِكَ الرَّحيم وذلك بِشَفاعةِ القائمِ فيه إلى السُّلطان. ثم إنَّ السُّلطانَ قَبَضَ على المَلِكِ الرَّحيمِ بعدَ أيَّامٍ، وقُطِعَت خُطبتُه في آخر رمضان، وانقَرضَت دَولةُ بني بُويه، وكانت مُدَّتُها 127 سَنَة، وقامت دَولةُ بني سلجوق، ودخل طُغرلبك بغداد في تَجَمُّلٍ عَظيمٍ، وكان يومًا مَشهودًا دخل معه ثمانية عشر فِيلًا، ونزَلَ بِدارِ المَملكةِ.