الموسوعة التاريخية


العام الهجري : 512 العام الميلادي : 1118
تفاصيل الحدث:

خلال الحملة الصليبية الأولى قام أحد الجيوش الفرنج بقيادة بغدوين -ويقال: بردويل- بالانعطاف شرقًا أثناء حصار أنطاكية إلى الرها التي سرعان ما سقطت في يده، مؤسِّسًا أول إمارة صليبية في الشرق الأوسط في ربيع الأول سنة 491، وفي تلك الأثناء استولى بوهمند أحد القادة الصليبين على أنطاكية، وأسس فيها الإمارة الثانية، ثم استولى ريموند على طرابلس وأسس فيها الإمارة الثالثة، وكانت ثلاث الإمارات تابعة بشكل صوري لمملكة بيت المقدس، ولم يكَدْ يمر عامان على تأسيس الإمارة حتى غادرها بغدوين إلى بيت المقدس؛ لكي يصبح ملكًا عليها فتولى حكمَها بلدوين دي بورغ حتى سنة 512 ثم تبعه جوسلين الأول.

العام الهجري : 512 العام الميلادي : 1118
تفاصيل الحدث:

أنشأ الصليبيون بعد احتلالهم بيت المقدس فرقه دينية عُرِفت بالداوية أو بفرسان المعبد، وأقامت في موضع قرب المسجد الأقصى، وقد انتسب إليها النبلاء والأشراف، وقيل: إن مهمة هذه المنظمة هي الحفاظ على مقدسات الكنيسة، وحماية كل ما هو مرتبط من المقدسات سواء كانت أرواحًا أو آثارًا أو أي شيء له ارتباط بقداسة المسيحية عندهم، ثم أنشأ الصليبيون فرقة أخرى عُرِفَ أصحابها بالاسبتارية؛ لنفس الغرض، وإن كانت أقل قوة ونفوذًا من الداوية, ثم تحولت هاتان الفرقتان إلى قوة عسكرية تدعم جميع الحملات الصليبية وهجماتها على المسلمين, وقد بنى الداوية غربي الأقصى أبنية ليسكنوها، وعملوا فيها ما يحتاجون إليه من هري ومستراح وغير ذلك، وأدخلوا بعض الأقصى في أبنيتهم وظلوا فيها حتى أزالها صلاح الدين الأيوبي، وأمر بتطهير المسجد والصخرة من الأقذار والأنجاس (الداوية والاسبتارية)، فكان الداوية والاسبتارية يمدون الصليبيين بالأموال والنفقات والرجال وجميع ما يحتاجون إليه, وهم من أسوء أجناس الفرنج في بلاد المسلمين، وقد اجتهد خلفاء المسلمين وسلاطينهم في تطهير بلاد المسلمين منهم ومن شرورهم، وقَتْل جميع من يقع بأيديهم من الداوية والاسبتارية. ثم تحولت فرقة الداوية بعد انتهاء الحروب الصليبية إلى قبرص، ثم إلى رودوس، ثم إلى مالطة، وعُرفوا هناك باسم فرسان مالطة. وقيل غير ذلك مما نسجوا هم حوله من الأساطير والقصص.

العام الهجري : 512 العام الميلادي : 1118
تفاصيل الحدث:

كان أتابك طغتكين قد سار عن دمشق لقتال الفرنج، فنزل بين دير أيوب وكفر بصل باليرموك، فخفيت عنه وفاة بغدوين، حتى سمع الخبر بعد ثمانية عشر يومًا، وبينهم نحو يومين، فأتته رسل ملك الفرنج يطلب المهادنة، فاقترح عليه طغتكين ترك المناصفة التي بينهم من جبل عوف، والحنانة، والصلت، والغور، فلم يُجِبْ إلى ذلك، وأظهر القوة؛ فسار طغتكين إلى طبرية فنهبها وما حولها، وسار منها نحو عسقلان.

العام الهجري : 512 العام الميلادي : 1118
تفاصيل الحدث:

سار بغدوين ملك القدس إلى ديار مصر في جمع الفرنج، قاصدًا ملكها والتغلب عليها، وقوي طمعه في الديار المصرية، وبلغ مقابل تنيس وسبح في النيل، فانتقض جرح ٌكان به، فلما أحس بالموت وصَّى ببلاده للقمص -كبير القساوسة- صاحب الرها، وهو الذي كان أسره جكرمش، وأطلقه جاولي سقاوو، واتفق أن هذا القمص كان قد سار إلى القدس يزور بيعة قمامة، فلما وصى إليه بالملك قبله، واجتمع له القدس والرها. وكان بغدوين قد وصل إلى الفرما وأحرق جامعها وأبواب المدينة ومساجدها، وقتل بها رجلًا مقعدًا وابنة له ذبحَها على صدره، ورحل وهو مثخنٌ مَرضًا، فمات قبل العريش، فشق بطنه ورمى ما فيه هناك، فهو يُرجَم إلى اليوم، ويُعرَف مكانه بسبخة بردويل، ودفنت رمَّته بقمامة من القدس.

العام الهجري : 512 الشهر القمري : ربيع الآخر العام الميلادي : 1118
تفاصيل الحدث:

هو أميرُ المؤمنين الخليفة العباسي المستظهر بالله أبو العباس أحمد بن المقتدي بأمر الله أبي القاسم عبد الله بن الذخيرة محمد بن القائم بأمر الله عبد الله بن القادر الهاشمي، العباسي، البغدادي. ولد في شوال سنة 470، وأمه أمُّ ولدٍ، واستُخلِف عند وفاة أبيه في تاسع عشر المحرم وله ست عشرة سنة وثلاثة أشهر، وذلك في سنة 487. كان خيِّرًا فاضلًا ذكيًّا بارعًا كريم الأخلاق، ليِّن الجانب، سخيَّ النفس، مؤثرًا للإحسان، حافظًا للقرآن، محبًّا للعلم، منكرًا للظلم، فصيح اللسان، كتب الخط المنسوب, وكانت أيامه ببغداد كأنها الأعياد، وكان راغبًا في البر والخير، مسارعًا إلى ذلك، لا يرُدُّ سائلًا، وكان جميل العشرة لا يُصغي إلى أقوال الوُشاة من الناس، ولا يثق بالمباشرين، وقد ضبط أمور الخلافة جيدًا، وأحكمها وعلمها، وكان لديه علم كثير، وله شِعر حسن. قال ابن النجار: "كان المستظهر موصوفًا بالسخاء والجود، ومحبة العلماء، وأهل الدين، والتفقد للمساكين، مع الفضل والنُّبل والبلاغة، وعلو الهمة، وحسن السيرة، وكان رضي الأفعال، سديد الأقوال". ولما بويع بالخلافة استوزر أبا منصور ابن جهير، وقال له: "الأمور مفوَّضة إليك، والتعويل فيها عليك؛ فدبِّرها بما تراه. فقال: هذا وقتٌ صعب، وقد اجتمعت العساكر ببغداد مع السلطان الذي عندنا، ولا بد من بذل الأموال التي تستدعي إخلاصهم وطاعتهم. فقال له: الخزائن بحُكمك؛ فتصرَّفْ فيها عن غير استنجاز ولا مراجعة ولا محاسبة. فقال: ينبغي كتمان هذه الحال إلى أن يصلح نشرها". توفي المستظهر بالله سحرَ ليلة الخميس سادس عشرين ربيع الآخر؛ مَرِض ثلاثة عشر يومًا من تراقي –دمَّل يطلع في الحلق- ظهر به، وبلغ إحدى وأربعين سنة وستة أيام، وكانت خلافته أربعًا وعشرين سنة وثلاثة أشهر وأحد عشر يومًا، وقد ولي غسله ابن عقيل أبو الوفا الحنبلي، وابن السني، وصلى عليه ولده أبو منصور الفضل، ودفن في حجرة كان يسكنها، ومن غريب الاتفاق أنه لما توفي السلطان ألب أرسلان توفي بعده الخليفة القائم بأمر الله، ولما توفي السلطان ملكشاه توفي بعده الخليفة المقتدي بأمر الله، ولما توفي السلطان محمد توفي بعده الخليفة المستظهر بالله. لما توفي المستظهر بالله بويع ولدُه المسترشد بالله أبو منصور الفضل بن أبي العباس أحمد بن المستظهر بالله، وكان وليَّ عهد أبيه, وقد خُطب له وليًّا للعهد ثلاثًا وعشرين سنة، فبايعه أخواه ابنا المستظهر بالله، وهما أبو عبد الله محمد، وأبو طالب العباس، وعمومته بنو المقتدي بأمر الله، وغيرهم من الأمراء والقضاة والأئمة والأعيان، وكان المتولي لأخذ البيعة القاضي أبو الحسن الدامغاني، وكان نائبًا عن الوزارة فأقرَّه المسترشد بالله عليها.

العام الهجري : 513 العام الميلادي : 1119
تفاصيل الحدث:

سار الفرنج من بلادهم إلى نواحي حلب، فملكوا بزاعة وغيرها، وخربوا بلد حلب ونازلوها، ولم يكن بحلب من الذخائر ما يكفيها شهرًا واحدًا، وخافهم أهلها خوفًا شديدًا، ولو مُكِّنوا من القتال لم يبقَ بها أحد، لكنهم مُنعوا من ذلك، وصانع الفرنج أهل حلب على أن يقاسموهم على أملاكهم التي بباب حلب. فأرسل أهل البلد إلى بغداد يستغيثون ويطلبون النجدة، فلم يُغاثوا، وكان الأمير إيلغازي، صاحب حلب، ببلد ماردين يجمع العساكر والمتطوِّعة للغزاة، فاجتمع عليه نحو عشرين ألفًا، وكان معه أسامة بن المبارك بن شبل الكلابي، والأمير طغان أرسلان بن المكر، صاحب بدليس وأرزن، وسار بهم إلى الشام عازمًا على قتال الفرنج، فلما علم الفرنج قوة عزمهم على لقائهم، وكانوا ثلاثة آلاف فارس، وتسعة آلاف راجل، ساروا فنزلوا قريبًا من الأثارب بموضع يقال له تل عفرين، بين جبال ليس لها طريق إلا من ثلاث جهات، وفي هذا الموضع قُتل شرف الدولة مسلم بن قريش، وظن الفرنج أن أحدًا لا يسلك إليهم لضيق الطريق، فأخلدوا إلى المطاولة، وكانت عادة لهم إذا رأوا قوة من المسلمين، وراسلوا إيلغازي يقولون له: لا تُتعِب نفسك بالمسير إلينا؛ فنحن واصلون إليك، فأعلم أصحابه بما قالوه، واستشارهم فيما يفعل، فأشاروا بالركوب من وقته، وقَصْدِهم، ففعل ذلك وسار إليهم، ودخل الناس من الطرق الثلاثة، ولم تعتقد الفرنج أن أحدًا يَقدَم عليهم؛ لصعوبة المسلك إليهم، فلم يشعروا إلا وأوائل المسلمين قد غشيتهم، فحمل الفرنج حملة منكرة، فولوا منهزمين، فلقوا باقي العسكر متتابعة، فعادوا معهم، وجرى بينهم حرب شديدة، وأحاطوا بالفرنج من جميع جهاتهم، وأخذهم السيفُ من سائر نواحيهم؛ فلم يُفلِت منهم غيرُ نفر يسير، ووقع الجميعُ في القتل، أو الأسر، وكان من جملة الأسرى نيف وسبعون فارسًا من مقدَّميهم، وحُملوا إلى حلب، فبذلوا في نفوسهم ثلاثمائة ألف دينار، فلم يُقبَل منهم، وغنم المسلمون منهم الغنائم الكثيرة، وأما سيرجال، صاحب أنطاكية، فإنه قُتِل وحُمل رأسه، وكانت الوقعة منتصف شهر ربيع الأول، ثم تجمَّع من سلم من المعركة مع غيرهم، فلَقِيَهم إيلغازي أيضًا فهزمهم، وفتح منهم حصن الأثارب وزردنا، وعاد إلى حلب، وقرَّر أمرها، وأصلح حالها، ثم عبر الفرات إلى ماردين، ويُعرَف السهل الذي تمت فيه المعركة بسهل بلاط، وهو اليوم عرف بسهل الحلقة، أما الصليبيون فيسمونه ساحة الدم؛ لكثرة ما أُريق من الدماء فيه.

العام الهجري : 513 العام الميلادي : 1119
تفاصيل الحدث:

اشتدَّ الغلاء بأنطاكية وحلب؛ لأن الزرع عرق ولحقه هواء عند إدراكه فأتلفه، وهرب الفلاحون للخوف، واستدعى أهل حلب ابن قراجا من حمص، فرتب الأمور بها، وحصنها، وسار إلى حلب، ونزل في القصر خوفًا من إيلغازي لِما كان بينهما. وخرج أتابك طغتكين من دمشق إلى حمص، ونهب أعمالها وشعثها، وأقام عليها مدة، وعاد إلى دمشق لحركة الفرنج. وخرجت قافلة من حلب إلى دمشق فيها تجار وغيرهم، وحملوا ذخائرهم وأموالهم لما قد أشرف عليه أهل حلب. فلما وصلوا إلى القبة نزل الفرنج إليه، وأخذوا منهم المكس، ثم عادوا وقبضوهم وما معهم بأسرهم، ورفعوهم إلى القبة، وحملوا الرجال والنساء بعد ذلك إلى أفامية، ومعرة النعمان، وحبسوهم ليُقِروا عليهم مالًا؛ فراسلهم أبو المعالي بن الملحى ورغَّبهم في البقاء على الهدنة وألَّا ينقضوا العهد، وحمل إلى صاحب أنطاكية مالًا وهدية، فردَّ عليهم الأحمال والأثقال وغير ذلك، ولم يُعدَم منه شيء. وقَوِيَ طمع الفرنج في حلب؛ لعدم نجدتها، وضعفها، وغدروا ونقضوا الهدنة، فأغاروا على حلب، وأخذوا مالًا لا يحصيه إلا الله، فراسل أهل حلب أتابك طغتكين، فوعدهم بالإنجاد، فكسره جوسلين وعساكر الفرنج، وراسلوا صاحب الموصل وكان أمره مضطربًا بعد عوده من بغداد. ونزل الفرنج بعد عودهم من كسرة أتابك على عزاز، وضايقوها، وأشرفت حلب على الأخذ، وانقطعت قلوب أهلها؛ إذ لم يكن بقي لحلب معونة إلا من عزاز وبلدها وبقية بلد حلب في أيدي الفرنج، والشرقي خراب مجدب، والقوت في حلب قليل جدًّا، ومكوك الحنطة بدينار، وكان إذ ذاك لا يبلغ نصف مكوك بمكوك حلب الآن، وما سوى ذلك مناسب له.

العام الهجري : 513 العام الميلادي : 1119
تفاصيل الحدث:

كانت سرقسطة بيد بني هود، وكان أميرها عبد الملك بن أحمد الثاني، وفي هذه السنة قام ألفونسو الأول ملك قشتالة الملقب بالمحارب، قام بالاستيلاء على سرقسطة وأخذها من أيدي بني هود، واتخذها عاصمة لمملكته وحوَّل مسجدها إلى كنيسة، فكان هذا السقوط وسقوط طليطلة من قبلها سببًا في انهيار أكبر معاقل المسلمين في الأندلس، وكان من أكبر أسباب ضعف قوة المرابطين فيها وخاصة بعد أن انضاف لهذا سقوط قلعة أيوب بيد النصارى.

العام الهجري : 513 الشهر القمري : ربيع الأول العام الميلادي : 1119
تفاصيل الحدث:

سار جوسلين، صاحب تل باشر، في جمع من الفرنج، نحو مائتي فارس، من طبرية، فكبس طائفة من طي يُعرفون ببني خالد فأخذهم، وأخذ غنائمهم وسألهم عن بقية قومهم من بني ربيعة، فأخبروه أنهم من وراء الحزن، بوادي السلالة، بين دمشق وطبرية، فقدم جوسلين مائة وخمسين فارسًا من أصحابه، وسار هو في خمسين فارسًا على طريق آخر، وواعدهم الصبح ليكبسوا بني ربيعة، فوصلهم الخبر بذلك، فأرادوا الرحيل، فمنعهم أميرهم من بني ربيعة، وكانوا في مائة وخمسين فارسًا، فوصلهم المائة وخمسون من الفرنج معتقدين أن جوسلين قد سبقهم أو سيدركهم، فضَلَّ الطريقَ، وتساوت العِدَّتان، فاقتتلوا، وطعنت العرب خيولهم، فجعلوا أكثرهم رجَّالة، وظهر من أميرهم شجاعة وحسن تدبير وجودة رأي؛ فقُتل من الفرنج سبعون، وأُسر اثنا عشر من مقَدَّميهم، بذل كل واحد منهم في فداء نفسه مالًا جزيلًا وعِدةً من الأسرى، وأما جوسلين فإنه ضلَّ في الطريق وبلغه خبر الوقعة، فسار إلى طرابلس، فجمع جمعًا وأسرى إلى عسقلان، فأغار على بلدها، فهزمه المسلمون هناك، فعاد مفلولًا.

العام الهجري : 513 الشهر القمري : جمادى الأولى العام الميلادي : 1119
تفاصيل الحدث:

الإمام العلامة البحر شيخ الحنابلة: أبو الوفاء علي بن عقيل بن محمد بن عقيل بن عبد الله البغدادي، الظفري، الحنبلي، المتكلم، صاحب التصانيف، شيخ الحنابلة في زمانه. ولد سنة 431 هـ, وكان يسكن الظفرية -محلة كبيرة بشرقي بغداد- ومسجده بها مشهور. كان إمامًا مُبرزًا في كثير من العلوم، خارق الذكاء قوي الحجة واللسان، اشتغل أول أمره بمذهب المعتزلة واتُّهِم بالانحراف عن مذهب السنة حتى أراد الحنابلة قَتْلَه، ثم أظهر توبته وأعلنها وأشهد عليها وكُتب في ذلك مجلسٌ شهده كبار الفقهاء. قال الذهبي: "أخذ ابن عقيل علم العقليات عن شيخَي الاعتزال أبي علي بن الوليد، وأبي القاسم بن التبان؛ صاحبي أبي الحسين البصري، فانحرف عن السنة، وكان يتوقد ذكاءً، وكان بحر معارف، وكنز فضائل، لم يكن له في زمانه نظير على بدعته". قال أبو طاهر السِّلَفي: "ما رأت عيني مثل أبي الوفاء ابن عقيل الفقيه؛ ما كان أحدٌ يقدر أن يتكلم معه؛ لغزارة علمه، وحسن إيراده، وبلاغة كلامه، وقوة حجته، تكلم يومًا مع شيخنا الكيا أبي الحسن، فقال له الكيا: هذا ليس مذهبك. فقال: أكون مثل أبي علي الجبَّائي، وفلان وفلان لا أعلم شيئًا؟! أنا لي اجتهاد متى ما طالبني خصم بالحجة، كان عندي ما أدفع به عن نفسي وأقوم له بحجتي. فقال الكيا: كذاك الظنُّ بك". قال ابن الجوزي: "جرت فتنة لأجل أبي الوفاء ابن عقيل، وكان أصحابنا قد نقموا عليه تردُّدَه إلى أبي علي بن الوليد؛ لأجل أشياء كان يقولها، وكان في ابن عقيل فطنة وذكاء، فأحب الاطلاع على كل مذهب يقصد ابن الوليد، وقرأ عليه شيئًا من الكلام في السر، وكان ربما تأوَّل بعض أخبار الصفات، فإذا أُنكِر عليه ذلك حاول عنه، واتَّفق أنه مَرِض فأعطى رجلًا ممن كان يلوذ به -يقال له: معالي الحائك- بعض كتبه، وقال له: إن متُّ فأحرِقْها بعدي، فاطلع عليها ذلك الرجل، فرأى فيها ما يدل على تعظيم المعتزلة والترحُّم على الحلاج، وكان قد صنَّف في مدح الحلاج جزءًا في زمان شبابه، وذلك الجزء عندي بخطه، تأوَّل فيه أقواله وأفعاله وفسَّر أسراره، واعتذر له، فمضى ذلك الحائك فأطلع على ذلك الشريف أبا جعفر وغيره، فاشتد ذلك على أصحابنا، وراموا الإيقاعَ به، فاختفى ثم التجأ إلى باب المراتب، ولم يزل في الأمر يختبط إلى أن آل إلى الصلاح في سنة خمس وستين وأربعمائة". وفي يوم الحادي عشر من محرم حضر أبو الوفاء ابن عقيل الديوان ومعه جماعة من الحنابلة واصطلحوا، وكانت نسخة ما كتبه ابن عقيل بخطه ونسب إلى توبته: "بسم الله الرحمن الرحيم، يقول علي بن عقيل بن محمد: إني أبرأ إلى الله تعالى من مذاهب المبتدعة والاعتزال وغيره، ومن صُحبة أربابه، وتعظيم أصحابه، والترحم على أسلافهم، والتكثر بأخلافهم، وما كنت علَّقتُه ووُجد خطي به من مذاهبهم وضلالاتهم فأنا تائب إلى الله تعالى من كتابته، وأنه لا تحل كتابته ولا قراءته ولا اعتقاده". قال ابن عقيل: "عصمني الله في شبابي بأنواع من العصمة، وقصَرَ محبتي على العلم، وما خالطت لعَّابًا قط، ولا عاشرتُ إلا أمثالي من طلبة العلم، وأنا في عشر الثمانين أجِدُ من الحرص على العلم أشدَّ مما كنت أجده وأنا ابن عشرين، وبلغت لاثنتي عشرة سنة، وأنا اليوم لا أرى نقصًا في الخاطر والفكر والحفظ، وحِدَّة النظر بالعين لرؤية الأهِلَّة الخفية إلا أن القوة ضعيفة". برع في الفقه والأصول، وله مصنفات أشهرها: كتاب الفنون، ولكن قيل: إنه لم يتمَّه. ولو تمَّ لأغنى عن كل المؤلفات! وله الرد على الأشاعرة في مسألة الحرف والصوت، وله الواضح في أصول الفقه، والفصول في الفقه الحنبلي، وغيرها. توفي بُكرةَ الجمعة ثاني عشر جمادى الأولى في بغداد عن 82 عامًا. وكان الجمع في الصلاة عليه يفوت الإحصاء؛ "قال ابن ناصر شيخنا: حزرتهم بثلاثمائة ألف. قال المبارك بن كامل: صُلِّي على شيخنا بجامع القصر، فأمَّهم ابن شافع، وكان الجمع ما لا يحصى، وحُمل إلى جامع المنصور، فصُلِّي عليه، وجرت فتنة وتجارحوا، ونال الشيخ تقطيعُ كفنه، ودُفن قريبًا من الإمام أحمد, وقال ابن الجوزي أيضًا فيه: هو فريد فنه، وإمام عصره، كان حسَنَ الصورة، ظاهِرَ المحاسن".

العام الهجري : 513 الشهر القمري : جمادى الأولى العام الميلادي : 1119
تفاصيل الحدث:

كانت حربٌ شديدة بين سنجر وابن أخيه السلطان محمود بن محمد، وكان سنجر عزم على قصد بلد الجبال والعراق وما بيد محمود ابن أخيه، ثمَّ إن السلطان محمودًا أرسل إلى عمه سنجر شرف الدين أنوشروان بن خالد وفخر الدين طغايرك بن اليزن، ومعهما الهدايا والتحف، وبذل له النزول عن مازندران، وحمل مائتي ألف دينار كل سنة، فوصلا إليه وأبلغاه الرسالة، فتجهَّز ليسير إلى الري، فأشار عليه شرف الدين أنوشروان بترك القتال والحرب، فكان جوابه في ذلك: إنَّ ولد أخي صبي، وقد تحكَّم عليه وزيره والحاجب علي، فلما سمع السلطان محمود بمسير عمه نحوه، ووصول الأمير أنر في مقدمته إلى جرجان؛ تقدم إلى الأمير علي بن عمر، وضم إليه جمعًا كثيرًا من العساكر والأمراء، فالتقيا بالقرب من ساوة ثاني جمادى الأولى من السنة، واستهان عسكر محمود بعسكر عمِّه بكثرتهم وشجاعتهم، وكثرة خيلهم، فلما التقوا ضعفت نفوس الخراسانية لما رأوا لهذا العسكر من القوة والكثرة، فانهزمت ميمنة سنجر وميسرته، واختلط أصحابُه، واضطرب أمرُهم، وساروا منهزمين، فألجأت سنجر الضرورة عند تعاظم الخطب عليه، أن يقَدِّمَ الفِيَلة للحرب، وكان من بقي معه قد أشاروا عليه بالهزيمة، فقال: إما النصر أو القتل، وأما الهزيمة فلا. فلما تقدمت الفِيَلة ورآها خيل محمود تراجعت بأصحابها على أعقابها، فأشفق سنجر على السلطان محمود في تلك الحال، وقال لأصحابه: لا تُفزِعوا الصبيَّ بحملاتِ الفِيَلة، فكفُّوها عنهم! وانهزم السلطان محمود ومن معه في القلب، ولما تم النصر والظفر للسلطان سنجر أرسل من أعاد المنهزمين من أصحابه إليه، ووصل الخبر إلى بغداد في عشرة أيام، فأرسل الأمير دبيس بن صدقة إلى المسترشد بالله في الخطبة للسلطان سنجر، فخُطِب له في السادس والعشرين من جمادى الأولى، وقُطِعت خطبة السلطان محمود، وحمل له السلطان محمود هدية عظيمة، فقبلها ظاهرًا، ورَدَّها باطنًا، ولم تُقبَل منه سوى خمسة أفراس عربية، وكتب السلطان سنجر إلى سائر الأعمال التي بيده كخراسان وغزنة وما وراء النهر، وغيرها من الولايات، بأن يُخطَب للسلطان محمود بعده، وكتب إلى بغداد مثل ذلك، وأعاد عليه جميعَ ما أخذ من البلاد سوى الري، وقصد بأخذها أن تكون له في هذه الديار لئلا يحَدِّثَ السلطان محمود نفسَه بالخروج.

العام الهجري : 514 العام الميلادي : 1120
تفاصيل الحدث:

كان دبيس بن صدقة صاحب الحلة بالعراق، فلما بلغه خبر انهزام الملك مسعود أمام أخيه محمود، ركب دبيس بنفسه إلى بغداد، ونصب خيمته بإزاء دار الخلافة، وأظهر ما في نفسه من الضغائن، وذكر كيف طِيفَ برأس أبيه في البلاد أيام السلطان محمد بعد قتله في المعركة سنة 501، فنهب البلاد وخربها، وفعل فيها الأفاعيل القبيحة, وتهدد المسترشد بالله، فأرسل إليه الخليفة يسكِّن جأشه ويَعِدُه أنه سيصلح بينه وبين السلطان محمود، إلى أن أتاه رسول السلطان محمود، وطَيَّب قلبه، فلم يلتفت، فلما قدم السلطان محمود بغداد أرسل دبيس يستأمن فأمنه وأجراه على عادته، ثم إنه نهب جسر السلطان، فركب السلطان بنفسه لقتال دبيس، واستصحب معه ألف سفينة ليعبُرَ فيها، فهرب دبيس والتجأ إلى إيلغازي فأقام عنده سنة، ثم عاد إلى الحلة، وأرسل إلى الخليفة والسلطان يعتذر إليهما مما كان منه، فلم يقبلا منه، وجهز إليه السلطان جيشًا فحاصره وضيق عليه قريبًا من سنة، وهو ممتنع في بلاده لا يقدر الجيشُ على الوصول إليه.

العام الهجري : 514 العام الميلادي : 1120
تفاصيل الحدث:

خرج الكرج، وهم الخزر، إلى بلاد الإسلام، وكانوا قديمًا يُغيرون، فامتنعوا أيام السلطان ملكشاه إلى آخر أيام السلطان محمد، فلما كانت هذه السنة خرجوا ومعهم قفجاق وغيرهم من الأمم المجاورة لهم، فتكاتب الأمراء المجاورون لبلادهم، واجتمعوا، منهم: الأمير إيلغازي صاحب ماردين، ودبيس بن صدقة صاحب الحلة، وكان عنده، والملك طغرل بن محمد، وأتابكه كنتغدي، وكان لطغرل بلد أران، ونقجوان إلى أرس، فاجتمعوا وساروا إلى الكرج، فلما قاربوا تفليس، وكان المسلمون في عسكر كثير يبلغون ثلاثين ألفًا، التقوا واصطفَّت الطائفتان للقتال، فخرج من القفجاق مائتا رجل، فظنَّ المسلمون أنهم مستأمنون، فلم يحترزوا منهم، ودخلوا بينهم، ورموا بالنشاب، فاضطرب صفُّ المسلمين، فظنَّ من بعد أنها هزيمة، فانهزموا، وتبع الناس بعضهم بعضًا منهزمين، ولشدة الزحام صدم بعضهم بعضًا، فقتل منهم عالم عظيم، وتبعهم الكفارُ عشرة فراسخ يقتُلون ويأسِرون، فقُتل أكثرهم، وأسروا أربعة آلاف رجل، ونجا الملك طغرل، وإيلغازي، ودبيس، وعاد الكرج فنهبوا بلاد الإسلام، وحصروا مدينة تفليس، واشتد قتالهم لمن بها، وعظم الأمر، وتفاقم الخطب على أهلها، ودام الحصار إلى سنة 515 فملكوها عَنوةً، وكان أهلها لما أشرفوا على الهلاك قد أرسلوا قاضيها وخطيبها إلى الكرج في طلب الأمان، فلم تُصغِ الكرج إليهما، ودخلوا البلد قهرًا وغلبة، واستباحوه ونهبوه، ووصل المستنفرون منهم إلى بغداد مستصرِخين ومُستنصرين سنة ست عشرة وخمسمائة، فبلغهم أن السلطان محمودًا بهمذان، فقصدوه واستغاثوا به فسار إلى أذربيجان، وأقام بمدينة تبريز شهر رمضان، وأنفذ عسكرًا إلى الكرج.

العام الهجري : 514 العام الميلادي : 1120
تفاصيل الحدث:

سار إيلغازي صاحب ماردين إلى الفرنج، وكان قد جمع لهم جمعًا، فالتقوا بموضع اسمه ذات البقل من أعمال حلب، فاقتتلوا، واشتدَّ القتال، وكان الظفر له، ثم اجتمع إيلغازي وأتابك طغتكين، صاحب دمشق، وحصروا الفرنجَ في معرة قنسرين يومًا وليلة، ثم أشار أتابك طغتكين بالإفراج عنهم؛ كيلا يحمِلَهم الخوف على أن يستقتلوا ويخرجوا إلى المسلمين، فربما ظفروا، وكان أكثر خوف طغتكين من دبر خيل التركمان، وجودة خيل الفرنج، فأفرج لهم إيلغازي، فساروا عن مكانهم وتخلصوا، وكان إيلغازي لا يطيل المقام في بلد الفرنج؛ لأنه كان يجمع التركمان للطمع، فيحضر أحدهم ومعه جراب فيه دقيق، وشاة، ويعد الساعات لغنيمة يتعجلها، ويعود، فإذا طال مقامهم تفرَّقوا، ولم يكن له من الأموال ما يفرِّقُها فيهم.

العام الهجري : 514 العام الميلادي : 1120
تفاصيل الحدث:

سار ابنُ تومرت بعد أن أخرجه أمير المسلمين علي بن يوسف بن تاشفين من مراكش، إلى أغمات, ثم لحق بالجبل، فسار فيه، حتى التحق بالسوس وتسامع به أهل تلك النواحي، فوفدوا عليه، وحضر أعيانُهم بين يديه، وجعل يَعِظُهم، ويذكِّرُهم بأيام الله، ويذكر لهم شرائع الإسلام، وما غيِّر منها، وما حدث من الظلم والفساد، وأنه لا يجب طاعة دولة من هذه الدول؛ لاتباعهم الباطل، بل الواجب قتالهم، ومَنْعُهم عما هم فيه، وسمَّى أتباعَه الموحدين، فانتهى خبره إلى أمير المسلمين ابن تاشفين، فجهز جيشًا من أصحابه وسيَّرهم إليه، فنزلوا من الجبل، ولقُوا جيش أمير المسلمين، فهزموهم، وأخذوا أسلابهم، وأقبلت إليه أفواج القبائل، من الحلل التي حوله شرقًا وغربًا، وبايعوه، وأطاعته قبيلة هنتانة، وهي من أقوى القبائل، فأقبل عليهم، واطمأن إليهم، وأتاه رسل أهل تينمليل بطاعتهم، وطلبوه إليهم، فتوجه إلى جبل تينمليل واستوطنه، وألَّف لهم كتابًا في التوحيد، وكتابًا في العقيدة، ونهج لهم طريق الأدب بعضهم مع بعض، والاقتصار على القصير من الثياب، القليل الثمن، وهو يحرضهم على قتال عدوهم، وإخراج الأشرار من بين أظهرهم، ثم إن أمير المسلمين أرسل إليهم جيشًا قويًّا، فحصروهم في الجبل، وضيقوا عليهم، ومنعوا عنهم الميرة، فقلَّت عند أصحاب ابن تورمت -الذي تلقَّب بالمهدي- الأقواتُ، فاجتمع أهل تينمليل، وأرادوا إصلاح الحال مع أمير المسلمين، فبلغ الخبر بذلك المهدي بن تومرت، ولم يزل أمر ابن تومرت يعلو إلى أن قُتِلَ سنة 524.

العام الهجري : 514 العام الميلادي : 1120
تفاصيل الحدث:

خرج ملك من ملوك الفرنج بالأندلس، يقال له ابن ردمير، فسار حتى انتهى إلى كتندة، وهي بالقرب من مرسية، في شرق الأندلس، فحصرها، وضيَّق على أهلها، وكان أمير المسلمين علي بن يوسف حينئذ بقرطبة، ومعه جيشٌ كثير من المسلمين والأجناد المتطوعة، فسيَّرهم إلى ابن ردمير، فالتقَوا واقتتلوا أشد القتال، وهزمهم ابن ردمير هزيمة منكرة، وكثر القتل في المسلمين، واستطاع الفرنج أن يستولوا على قلعة أيوب، وهي من أشد القلاع حصانة وقوة، وكانت تمثل معقلًا هامًّا وقويًّا للمسلمين.

العام الهجري : 514 الشهر القمري : ربيع الأول العام الميلادي : 1120
تفاصيل الحدث:

في النصف من ربيع الأول كانت وقعة عظيمة بين الأخوين السلطان محمود ومسعود ابني محمد بن ملكشاه عند عقبة اسداباذ، وحصلت بينهما حروب وقتال كانت نهايتها انهزام عسكر مسعود وأسْر وزيره الأستاذ أبي إسماعيل وجماعة من أمرائه، فأمر السلطان محمود بقتل الوزير أبي إسماعيل، فقُتِل، ثم إن مسعودًا رحل إلى الموصل وحاول الذهابَ إلى العراق مع دبيس، لكن أخاه محمودًا أرسل إليه الأمان واستقدمه عليه، فلما التقيا بكيا واصطلحا.

العام الهجري : 514 الشهر القمري : شعبان العام الميلادي : 1120
تفاصيل الحدث:

احتَرَقت دارُ السُّلطانِ مَحمودِ بنِ مُحمَّد السُّلجوقي، كان قد بناها مُجاهِدُ الدِّينِ بهروز للسُّلطانِ مُحمَّد، ففُرِغَت قبل وفاتِه بيَسيرِ، وسَبَبُ الحَريقِ أنَّ جاريةً كانت تخضَّبَت ليلًا، فأسندت شمعةً إلى الخيش فاحتَرَق، وعَلِقَت النار منه في الدار، واحتَرَق فيها مِن مالِ زَوجةِ السُّلطان محمود بنت السُّلطان سنجر ما لا حَدَّ له من الجواهِرِ والحُلي والفَرشِ والثِّيابِ، وأقيم الغَسَّالون يُخَلِّصونَ الذَّهَب، وما أمكن تخليصُه، وكان الجوهَرُ جَميعُه قد هلك إلَّا الياقوت الأحمر. وترك السُّلطانُ الدارَ لم تجدَّد عِمارتُها، وتطيَّرَ منها؛ لأنَّ أباه لم يتمتَّع بها، ثمَّ احتَرَق فيها من أموالِهم الشيءُ العظيم، واحترق قبلها بأسبوعٍ جامِعُ أصبهان، وهو من أعظَمِ الجوامِعِ وأحسَنِها، أحرَقَه قومٌ مِن الباطنيَّةِ ليلًا وكان السُّلطانُ قد عزم على أخذِ حَقِّ البيع، وتجديدِ المُكوس بالعراق، بإشارةِ الوزيرِ السَّميرمي عليه بذلك، فتجَدَّد من هذين الحَريقَينِ ما هاله، واتَّعَظ فأعرَضَ عنه.

العام الهجري : 515 العام الميلادي : 1121
تفاصيل الحدث:

سار بلك بن بهرام، ولد أخي إيلغازي، إلى مدينة الرها، فحصرها وبها الفرنج، وبقي على حصرها مدة، فلم يظفر بها، فرحل عنها، فجاءه إنسان تركماني وأعلمه أن جوسلين، صاحب الرها وسروج، قد جمع مَن عنده من الفرنج، وهو عازم على كبسه، وكان قد تفرَّق عن بلك أصحابه، وبقي في أربعمائة فارس، فوقف مستعدًّا لقتالهم، وأقبل الفرنج، فمِن لطف الله تعالى بالمسلمين أن الفرنج وصلوا إلى أرض قد نضب عنها الماء، فصارت وحلًا غاصت خيولُهم فيه فلم تتمكَّن مع ثقل السلاح والفرسان من الإسراع والجري، فرماهم أصحاب بلك بالنشاب، فلم يُفلِت منهم أحد، وأُسِرَ جوسلين وجُعِل في جلد جمل، وخيط عليه، وطلب منه أن يسلِّمَ الرها، فلم يفعَلْ، وبذل في فداء نفسِه أموالًا جزيلة، وأسرى كثيرة، فلم يُجِبْه إلى ذلك، وحمله إلى قلعة خرتبرت فسجنه بها، وأسر معه ابن خالته، واسمه كليام، وكان من شياطين الكفَّار، وأسر أيضًا جماعة من فرسانه المشهورين، فسجنهم معه.

العام الهجري : 515 العام الميلادي : 1121
تفاصيل الحدث:

في هذه السنة، وقيل سنة 514، كانت فتنة بين عسكر أمير المسلمين علي بن يوسف، وبين أهل قرطبة. وسببها: أن أمير المسلمين استعمل عليها أبا بكر يحيى بن رواد، فلما كان يوم الأضحى خرج الناس متفرجين، فمدَّ عبد من عبيد أبي بكر يدَه إلى امرأة فأمسكها، فاستغاثت بالمسلمين، فأغاثوها، فوقع بين العبيد وأهل البلد فتنة عظيمة، ودامت جميع النهار، والحرب بينهم قائمة على ساق، فأدركهم الليل، فتفرَّقوا، فوصل الخبر إلى الأمير أبي بكر، فاجتمع إليه الفقهاء والأعيان، فقالوا: المصلحة أن تقتل واحدًا من العبيد الذين أثاروا الفتنة، فأنكر ذلك وغضب منه، وأصبح من الغد، وأظهر السلاح والعُدَد يريد قتال أهل البلد، فركب الفقهاء والأعيان والشبان من أهل البلد، وقاتلوه فهزموه، وتحصَّن بالقصر، فحصروه، وتسلقوا إليه، فهرب منهم بعد مشقة وتعب، فنهبوا القصرَ، وأحرقوا جميع دُور المرابطين، ونهبوا أموالهم، وأخرجوهم من البلد على أقبحِ صورة. واتصل الخبر بأمير المسلمين فكَرِه ذلك واستعظمه، وجمع العساكر من صنهاجة، وزناتة، والبربر، وغيرهم؛ فاجتمع له منهم جمع عظيم، فعبر إليهم، وحصر مدينة قرطبة، فقاتله أهلها قتال من يريد أن يحمي دمه وحريمه وماله، فلما رأى أمير المسلمين شدة قتالهم دخل السفراءُ بينهم، وسَعَوا في الصلح فأجابهم إلى ذلك على أن يغرم أهل قرطبة المرابطين ما نهَبوه من أموالهم، واستقرت القاعدة على ذلك، وعاد عن قتالهم.