اجتمع جمع من العساكر السنجرية مع الأمير أرغش، وحصروا قلعة كردكوه بخراسان، وهي للإسماعيلية، وضيَّقوا على أهلها وطال حصرها، وعدمت عندهم الأقوات؛ فأصاب أهلها تشنج وكزاز، وعجز كثير منهم عن القيام فضلًا عن القتال، فلما ظهرت أمارات الفتح رحل الأمير أرغش، فقيل: إنهم حملوا إليه مالًا كثيرًا وأعلاقًا نفيسة، فرحل عنهم.
عَهِدَ الحافظ إلى ولده سليمان، وكان أسَنَّ أولاده وأحبَّهم إليه، وأقامه ليسُدَّ مكان الوزير، فمات بعد ولاية العهد بشهرين، ثم جعل ابنه حيدرة أبا تراب وليَّ عهده ونصبه للنظر في المظالم، فشَقَّ ذلك على أخيه أبي علي حسن؛ لأنه كان يروم ذلك؛ لكثرة أمواله وأولاده وحواشيه وموكبه، بحيث كان له ديوان مفرد. وما زالت عقارب العداوة تدب بينهما حتى وقعت الفتنة بين الطائفية الجيوشية أصحاب حسن، وكان مائلًا لنصرة أهل السنة، والطائفة الريحانية أصحاب حيدرة يميل لنصرة الإسماعيلية، وكانت شوكة الريحانية قوية والجند يشنؤونهم خوفًا منهم، فاشتعلت نيران الحرب بين الفريقين، والتقى العسكران؛ فقتل بينهم ما يزيد على خمسة آلاف رجل. فكانت أول مصيبة نزلت بالدولة العبيدية بمصر من فَقْدِ رجالها ونقص عدد عساكرها، ولم يسلم من الريحانية إلا من ألقى نفسه في بحر النيل من ناحية المقس. واستظهر حسن وصار الأمر إليه، فانضم له أوباش العسكر وزعَّارهم، وفرَّق فيهم الزرد وسماهم صبيان الزرد، وصاروا لا يفارقونه ويحفون به إذا ركب، ويلازمون داره إذا نزل، فقامت قيامةُ الناس، وقبَضَ على ابن العساف وقَتَله واختفى منه الحافظ وحيدرة، وجَدَّ في طلب حيدرة. وهتك بالأوباش الذين اختارهم حرمة القصر وخرق ناموسه من كونه نغَّص على أبيه وأخيه، وصاروا يحسِّنون له كل رذيلة، ويحرِّضونه على أذى الناس، فأخذ الحافظ في تلافي الأمر مع حسن لينصلح؛ وعهد إليه بولاية العهد في يوم الخميس لأربع بقين من شهر رمضان، وأركبه بالشعار، ونُعِت بولي عهد المؤمنين. وكتب له بذلك سجلًّا قرئ على المنابر، فلم يزده ذلك إلا شرًّا وتعدِّيًا، فضيق على أبيه وبالغ في مضرته. فسير الحافظ وفيَّ الدولة إسحاق، أحد الأستاذين المحنكين، إلى الصعيد ليجمع ما قدر عليه من الريحانية، فمضى واستصرخ على حسن، وجمع من الأمم ما لا يعلمه إلا الله، وسار بهم، فبلغ ذلك حسنًا فجهز إليه عسكرًا عرمرمًا وخرج؛ فالتقى الجمعان، وهبت ريح سوداء في وجوه الواصلين، وركبهم عسكر حسن، فلم يفلت منهم إلا القليل، وغرق أكثرهم في البحر وقُتلوا، وأُخذ الأستاذ إسحاق وأُدخل إلى القاهرة على جمل برأسه طرطور لبد أحمر. فلما وصل بين القصرين رُمي بالنشاب حتى مات، ورُمي إليهم من القصر الغربي أستاذ آخر فقتلوه، وقُتِل الأمير شرف الأمراء، فاشتدت مصيبة الدولة بفقد من قُتل من الأمراء الذين كانوا أركان الدولة، وهم أصحاب الرأي والمعرفة، فوهت واختلت لقلة الرجال وعدم الكفاءة، ومن حينِ قَتلَ حسن الأمراءَ تخوَّفه باقي الجند ونفرت نفوسُهم منه؛ فإنه كان جريئًا عنيفًا بحاثًا عن الناس، يريد إقلاب الدولة وتغييرها لتقدُّم أصحابه، فأكثر من مصادرة الناس. أورد الذهبي في تاريخه خبر الخلاف بين الأخوين بقوله: "جاءت الأخبار من مصر بخلف ولدَيِ الحافظ لدين الله عبد المجيد، وهما: حيدرة، والحسن. وافترق الجند فرقتين؛ إحداهما مائلة إلى الإسماعيلية، والأخرى إلى مذهب السنة. فاستظهرت السنة، وقتلوا خلقًا من أولئك، واستحرَّ القتل بالسودان، واستقام أمر ولي العهد حسن، وتتبَّع من كان ينصر الإسماعيلية من المقدَّمين والدعاة، فأبادهم قتلًا وتشريدًا".
سار شمس الملوك إسماعيل من دمشق إلى شقيف تيرون، وهو في الجبل المطلِّ على بيروت وصيدا، وكان بيد الضحاك بن جندل رئيس وادي التيم، قد تغلَّب عليه وامتنع به، فتحاماه المسلمون والفرنج، يحتمي على كل طائفة بالأخرى، فسار شمس الملوك إليه وأخذه منه في المحرم، وعَظُم أخذُه على الفرنج؛ لأن الضحاك كان لا يتعرض لشيء من بلادهم المجاورة له، فخافوا شمس الملوك، فشرعوا في جمع عساكرهم، فلما اجتمعت ساروا إلى بلد حوران، فخربوا أمهات البلد، ونهبوا ما أمكنهم نهبُه نهبةً عظيمة، وكان شمس الملوك لما رآهم يجمعون، جمع هو أيضًا وحشد وحضر عنده جمع كثير من التركمان وغيرهم، فنزل بإزاء الفرنج وجرت بينهم مناوشة عدة أيام، ثم إن شمس الملوك نهض ببعض عسكره، وجعل الباقيَ قبالة الفرنج، وهم لا يشعرون، وقصَدَ بلادهم طبرية والناصرة وعكا وما يجاورها من البلاد، فنهب وخرب وأحرق وأهلك أكثر البلاد، وسبى النساء والذرية، وامتلأت أيدي من معه من الغنائم، واتصل الخبر بالفرنج، فانزعجوا ورحلوا في الحال لا يلوي أخ على أخيه، وطلبوا بلادهم، وأما شمس الملوك فإنه عاد إلى عسكره على غير الطريق الذي سلكه الفرنج، فوصل سالِمًا ووصل الفرنج إلى بلادهم ورأوها خرابًا؛ ففَتَّ في أعضادهم وتفرَّقوا، وراسلوا في تجديد الهدنة فتم ذلك في ذي القعدة.
كانت جزيرة جربة مقابل تونس من بلاد إفريقية قد استولت في كثرة عمارتها وخيراتها، غيرَ أن أهلَها طغَوا فلا يدخُلون تحت طاعة السلطان، ويُعرَفون بالفساد وقَطْع الطريق، فخرج إليها جمعٌ من الفرنج، من أهل صقلية، في أسطولٍ كثير وجَمٍّ غفير، فيه من مشهوري فرسان الفرنج جماعة، فنزلوا بساحتها وأداروا المراكب بجهاتها، واجتمع أهلها وقاتلوا قتالًا شديدًا، فوقع بين الفريقين حرب شديدة، فثبت أهل جربة، فقُتِل منهم بشر كثير، فانهزموا ومَلَك الفرنج الجزيرة، وغَنِموا أموالها وسَبَوا نساءَها وأطفالها، وهلك أكثَرُ رجالها، ومن بقي منهم أخذوا لأنفُسِهم أمانًا من رجار ملك صقلية، وافتكُّوا أَسراهم وسَبْيَهم وحريمَهم.
اصطلح المستنصر بالله بن هود والسليطين الفرنجي صاحب طليطلة من بلاد الأندلس مدة عشر سنين. وكان السليطين قد أدمن غزو بلاد المستنصر وقتاله، حتى ضَعُف المستنصر عن مقاومته؛ لقلة جنوده، وكثرة الفرنج، فرأى أن يصالحَه مدة يستريح فيها هو وجنوده، ويعتدُّون للمعاودة، فترددت الرسلُ بينهم، فاستقَرَّ الصلح على أن يسلِّمَ المستنصر إلى السليطين حصنَ روطة من الأندلس، وهو من أمنع الحصون وأعظمها، فاستقرت القاعدة واصطلحوا، وتسلَّم منه الفرنج الحصن، وفعل المستنصر فعلةً لم يفعلها قبله أحدٌ!!
حصر ابن ردمير الفرنجي مدينةَ أفراغة من شرق الأندلس، وكان الأمير يوسف بن تاشفين بن علي بن يوسف بمدينة قرطبة، فجهَّز الزبير بن عمرو اللمتوني والي قرطبة ومعه ألفا فارس، وسير معه ميرة كثيرة إلى أفراغة، وكان يحيى بن غانية، الأمير المشهور، أمير مرسية وبلنسية من شرق الأندلس، ووالي أمرها لأمير المسلمين علي بن يوسف، فتجهَّز في خمسمائة فارس، وكان عبد الله بن عياض صاحب مدينة لاردة، فتجهز في مائتي فارس، فاجتمعوا وحملوا الميرة وساروا حتى أشرفوا على مدينة أفراغة، وكان ابن ردمير في اثني عشر ألف فارس، وأدركه العجب، ونفذ قطعة كبيرة من جيشه. فلما قربوا من المسلمين حمل عليهم بعضُهم وكسَرَهم، وردَّ بعضَهم على بعض، وقتل فيهم، والتحم القتال، وجاء ابن ردمير بنفسه وعساكره جميعها مدلين بكثرتهم وشجاعتهم، وعظم القتال، فكثُرَ القتل في الفرنج، فانهزم ابن ردمير وولى هاربًا، واستولى القتل على جميع عسكرِه، فلم يسلم منهم إلا القليل، ولحق ابن ردمير بمدينة سرقسطة، فلما رأى ما قُتِل من أصحابه مات مفجوعًا بعد عشرين يومًا من الهزيمة، وكان أشدَّ ملوك الفرنج بأسًا، وأكثرهم تجردًا لحرب المسلمين، وأعظمهم صبرًا، كان ينام على طارقته بغير وطاءٍ، وقيل له: هلا تسرَّيت من بنات أكابر المسلمين اللاتي سَبَيتَ؟ فقال: الرجلُ المحارب ينبغي أن يعاشِرَ الرجال لا النساء، وأراح اللهُ منه وكفى المسلمين شَرَّه.
هو صاحب دمشق شمس الملوك إسماعيل بن تاج الملوك بوري بن طغتكين التركي. تملَّك بعد أبيه في رجب سنة 526، وكان بطلًا شجاعًا شهمًا مِقدامًا كآبائه، فخافته الفرنج واستنقذ بانياس منهم في يومين، وكانت الإسماعيلية باعوها لهم من سبع سنين، وسعر بلادهم وأوطأهم ذلًّا، ففرح الناس بشهامته وفَرْط شجاعته، واحتملوا ظلمه. قُتِل في ربيع الآخر، وكان سبب قتله أنه ركب طريقًا شنيعًا من الظلم ومصادرات العمال وغيرهم من أعمال البلد، وبالغ في العقوبات لاستخراج الأموال، ثم ظهر عنه أنه كاتَبَ عماد الدين زنكي يسلِّمُ إليه دمشق ويحثُّه على سرعة الوصول، ويقول له: إن أهملتَ المجيء سلَّمتُها إلى الفرنج، وظهر الخبر بذلك في دمشق فامتعض أصحاب أبيه وجده لذلك وأقلقهم، ثم إن أمه ارتقبت الفرصة في الخلوة من غلمانه، فلما رأته على ذلك أمرت غلمانَها بقتله فقُتِل، وأمرت بإلقائه في موضع من الدار ليشاهِدَه غلمانه وأصحابه، فلما رأوه قتيلًا سُروا لمصرعه وبالراحة من شَرِّه، وقيل: كان سبب قتله أن والده كان له حاجب اسمه يوسف بن فيروز وكان متمكِّنًا منه حاكمًا في دولته، ثم في دولة شمس الملوك، فاتُّهِم بأم شمس الملوك، ووصل الخبر إليه بذلك، فهَمَّ بقتل يوسف فهرب منه إلى تدمر، وتحصَّن بها، وأظهر الطاعة لشمس الملوك، فأراد قَتلَ أمه، فبلغها الخبر فقتلته خوفًا منه، ولما قُتِل ملك بعده أخوه شهاب الدين محمود بن تاج الملوك بوري، وجلس في منصبه وحلف له الناسُ كُلُّهم واستقَرَّ في الملك.
حصر أتابك عماد الدين زنكي دمشقَ، وكان نزوله عليها أول جمادى الأولى، وسببُه إرسال شمس الملوك صاحبها إليه واستدعاؤه ليسلمها إليه، فقُتل شمس الملوك قبل وصول زنكي، وسار إلى دمشق فنازلها، وأجفل أهلُ السواد إلى دمشق، واجتمعوا فيها على محاربته ونزل أولًا شماليَّها، ثم انتقل إلى ميدان الحصار، وزحف وقاتل، فرأى قوةً ظاهرة وشجاعة عظيمة واتفاقًا تامًّا على محاربته، فبينما هو يحاصِرُها وصل رسول الخليفة المسترشد بالله، وهو أبو بكر بن بشر الجزري من جزيرة ابن عمر، بخِلَع لأتابك زنكي، ويأمرُه بمصالحة صاحب دمشق، فرحل عنها لليلتين بقيتا من جمادى الأولى.
هو الحسنُ بن الحافظ لدين الله عبد المجيد بن محمد بن المستنصر العبيدي المصري, استوزره أبوه وجعله وليَّ عهده سنة 526، فظلم وعسف وسفك الدماء، وقَتَل أعوان أبي علي الوزير الذي قبله، حتى قيل إنَّه قتل في ليلة أربعين أميرًا، فخافه أبوه، وجهَّز لحربه جماعة، فحاربهم واختلطت الأمور، ثم دس أبوه من سقاه السمَّ، فهلك هذه السنة, وكان الحسن يميل إلى أهل السُّنة, وقيل في سبب قتله: إنه لما حصل اقتتال بين ابني الحاكم، وغلب الحسن وتولى الوزارة وولاية العهد، مع سوء السيرة وسفكه للدماء ونهبه للأموال وكثرة الاقتتال بين العسكر والعبيد؛ أدى ذلك كله إلى ضجر الناس كلهم منه؛ كبيرِهم وصغيرهم، ورفَعوا شكواهم مرارًا إلى الحاكم والده، فلما رأى والدُه أنه لا ينفكُّ من هذه النازلة العظيمة إلا بقتلِ ابنه لتنحَسِمَ المباينة بينه وبين العسكر، فاستدعى طبيبه ابن قرقة، وفاوضه في عمل سمٍّ لقتل ولده، فقال: الساعة، ولا يتقطَّعُ منها الجسد بل تفيض النفسُ لا غير. فأحضرها من يومه، وألزم الحافِظُ ابنه حسنًا بمن ندبه من الصقالبة، فأكرهوه على شربها، فمات في يوم الثلاثاء ثالث عشر جمادى الآخرة، ثم ولَّى الحافظ بعده الوزارة لبهرام الأرمني النصراني الملقَّب تاج الدولة، فشق على الناس وزارته، وتطاول النصارى في أيامه على المسلمين، وأقبل الأرمن يَرِدون إلى القاهرة ومصر من كل جهة، حتى صار بها منهم عالمٌ عظيم، ووصل إليه ابن أخيه فكثر القيل والقال، وأطلق أسيرًا من الفرنج كان من أكابِرِهم، فأنكر الناس ذلك ورفعوا فيه النصائح للحافظ، وأكثروا من الإنكار.
كان السلطان مسعود بن محمد بن ملكشاه وصل إلى بغداد هاربًا من أخيه طغرل فأكرمه الخليفة وخلع عليه وطوَّقه وسوَّره ونفذ معه جماعة من عسكره لدفع أخيه. فحين وصلوا إلى النهروان جاء الخبرُ من همذان بموت الملك طغرل، فجدَّ مسعود في السير إلى همذان ودخلها واستولى على المُلك، واستوزر شرف الدين نوشروان بن خالد، وخاف المسترشد أن يتمكَّن مسعود في المملكة فيقصد الحضرة ويستولي عليها,كان بعض الأمراء قد عزموا على قبض دبيس بن صدقة صاحب الحلة والتقرب إلى الخليفة بحمله إليه، فبلغه ذلك فهرب إلى السلطان مسعود، فقُطِعت خطب السلطان مسعود من بغداد، وبرز الخليفة في العشرين من رجب على عزم المسير إلى قتال مسعود، ثم سار الخليفة ثامن شعبان، وأرسل الملك داود ابن السلطان محمود، وهو بأذربيجان إلى الخليفة يشير بالميل إلى الدينور ليحضُرَ بنفسه وعسكره، فلم يفعل المسترشد ذلك، وسار حتى بلغ دايمرج، وعبَّأ أصحابه، ولما بلغ السلطان مسعودًا خبرهم سار إليه مجدًّا، فواقعهم بدايمرج عاشر رمضان، فانهزم عسكر الخليفة، وهو ثابت لم يتحرك من مكانه، وأُخِذ هو أسيرًا ومعه جمع كثير من أصحابه، وأُنزل الخليفة في خيمة وغَنِموا ما في معسكره وكان كثيرًا، وسير السلطان الأمير بك أبه المحمودي إلى بغداد شحنة، فوصلها آخر رمضان ومعه عبيد، فقبضوا جميع أملاك الخليفة وأخذوا غلَّاتها، وثار جماعة من عامة بغداد، فكسروا المنبر والشباك، ومنعوا من الخطبة، وخرجوا إلى الأسواق يحثون الترابَ على رؤوسهم ويبكون ويصيحون، وخرج النساء حاسرات في الأسواق يلطمن، واقتتل أصحاب الشحنة وعامة بغداد، فقُتِل من العامة ما يزيد على مائة وخمسين قتيلًا، وهرب الوالي وحاجب الباب.
هو أمير المؤمنين أبو منصور الفضل بن المستظهر بالله أحمد ابن المقتدي بأمر الله عبد الله بن محمد بن القائم عبد الله بن القادر القرشي الهاشمي العباسي البغدادي. مولده في شعبان سنة 486 في أيام جده المقتدي، وخُطب له بولاية العهد وهو يرضع، وضُرِبت السكة باسمه, وكان له خطٌّ بديع، ونثر صنيع، ونظم جيد، مع دين ورأي، وشهامة وشجاعة، وكان خليقًا للخلافة، قليل النظير. قال ابن النجار: إن المسترشد كان يتنسك في أول زمنه، ويلبس الصوف ويتعبد، وختم القرآن وتفقَّه، لم يكن في الخلفاء من كَتَبَ أحسن منه، وكان يستدرك على كتَّابه، ويُصلح أغاليطَ في كتبهم، وكان ابن الأنباري يقول: "أنا ورَّاق الإنشاء ومالك الأمر يتولى ذلك بنفسِه الشريفة, وهو ذو شهامة وهيبة، وشجاعة وإقدام، ولم تزل أيامه مكدرة بتشويش المخالفين، وكان يخرج بنفسه لدفع ذلك ومباشرته إلى أن خرج فكُسِر وأُسِر، ثم استُشهِد على يد الملاحدة، وكان قد سمع الحديثَ". وكان سبب قتله لما أَسر السلطان مسعود المسترشد بالله وأنزله في خيمة، ووكل به من يحفظه، وقام بما يجِبُ من الخدمة، وترددت الرسل بينهما في الصلح وتقرير القواعد على مالٍ يؤديه الخليفة، وألَّا يعود يجمع العساكر، وألَّا يخرجَ من داره. فأجاب السلطان إلى ذلك، وأركب الخليفة وحمل الغاشية بين يديه ولم يبقَ إلا أن يعود إلى بغداد. فوصل الخبر أن الأمير قران خوان قد قَدِمَ رسولًا من السلطان سنجر، فتأخَّر مسير المسترشد لذلك، وخرج الناس والسلطان مسعود إلى لقائه، وفارق الخليفة بعض من كان موكلًا به، وكانت خيمته منفردة عن العسكر، فقصده أربعة وعشرون رجلًا من الباطنية ودخلوا عليه فقتلوه، وجرحوه ما يزيد على عشرين جراحة، ومثَّلوا به فجدعوا أنفه وأُذنيه وتركوه عريانًا، فقُتِل معه نفر من أصحابه، منهم أبو عبد الله بن سكينة، وكان قتلُه يوم الخميس سابع عشر ذي القعدة على باب مراغة، وبقي حتى دَفَنه أهل مراغة. وأما الباطنية فقُتِل منهم عشرة، وقيل: بل قُتِلوا جميعهم، فكانت خلافته سبع عشرة سنة وستة أشهر وعشرين يومًا، ولما قتل المسترشد بالله بويع ولده أبو جعفر المنصور، ولُقِّب الراشد بالله، وكان المسترشد قد بايع له بولاية العهد في حياته، وجُدِّدت له البيعة بعد قتله يوم الاثنين السابع والعشرين من ذي القعدة، وكتب السلطان مسعود إلى بك أبه الشحنة ببغداد فبايع له، وحضر الناس البيعة، وحضر بيعته أحد وعشرون رجلًا من أولاد الخلفاء.
هو أبو الأغر -وقيل: الأعز- دبيس بن سيف الدولة أبي الحسن صدقة بن منصور بن دبيس بن علي بن مزيد الأسدي الناشري الشيعي، الملقب نور الدولة ملك العرب صاحب الحلة المزيدية -حلة بني مزيد، وهي مدينة كبيرة بين الكوفة وبغداد كانت تسمى الجامعين- كان دبيس جوادًا كريمًا عنده معرفة بالأدب والشعر، وتمكَّن في خلافة الإمام المسترشد، واستولى على كثير من بلاد العراق، وهو من بيت كبير. كان دبيس في خدمة السلطان مسعود بن محمد بن ملكشاه السلجوقي، وهم نازلون على باب المراغة من بلاد أذربيجان ومعهم الإمام المسترشد بالله, وقيل: "إن السلطان مسعودًا دس على الخليفة المسترشد بالله جماعة من الباطنية فهجموا عليه في خيمته فقتلوه, وخاف أن يُنسَب القتل إليه، وأراد أن تُنسَب إلى دبيس، فتركه إلى أن جاء إلى الخدمة وجلس على باب خيمته، فسير بعض مماليكه، فجاءه من ورائه وضرب رأسه بالسيف فأبانه، وأظهر السلطان بعد ذلك أنه إنما فعل هذا انتقامًا منه بما فعل في حق الخليفة، وكان ذلك بعد قتل الخليفة بشهر". وكان دبيس قد عزم على الهرب مرارًا، وكانت المنية تثبِّطه. ولما قُتِل دبيس حُمِل إلى ماردين إلى زوجته كهارخاتون، فدُفِن بالمشهد عند نجم الدين إيلغازي. ذكره الذهبي فقال: "كان أديبًا جوادًا ممدَّحًا من نجباء العرب، ترامت به الأسفار إلى الأطراف، وجال في خراسان، واستولى على كثير من بلاد العراق، وخيف من سطوته، وحارب المسترشد بالله، ثم فر من الحلة إلى صاحب ماردين نجم الدين، وصاهره، وصار إلى الشام، وأمرُها في شدة من الفرنج، ثم ردَّ إلى العراق، وجرت له هناة، ففر إلى سنجر صاحب خراسان، فأقبل عليه، ثم أمسكه من أجل الخليفة مدة، ثم أطلقه، فلحق بالسلطان مسعود، فقتله غدرًا بمراغة في ذي الحجة سنة تسع وعشرين، وأراح الله الأمة منه؛ فقد نهب وأرجف وفعل العظائم، ولما هرب في خواصه قصد مري بن ربيعة أمير عرب الشام، فهلكوا في البرية من العطش، ومات عدة من مماليكه، فحصل في حلة مكتوم بن حسان، فبادر إلى متولي دمشق تاج الملوك فأخبره به، فبعث خليلا فأحضروه إلى دمشق، فاعتقله مكرمًا، ثم أطلقه للأتابك زنكي ليُطلِقَ مِن أسْرِه ولَدَه سونج بن تاج الملوك، وكان دبيس شيعيًّا كآبائه" قَتَل السلطانُ مسعود دبيسَ بن صدقة على باب سرادقه بظاهر خونج، أمر غلامًا أرمنيًّا بقتله، وأمر السلطان مسعود بك أبه أن يأخذ الحلة، فسار بعض عسكره إلى المدائن، وأقاموا مدة ينتظرون لحاق بك أبه بهم، فلم يسِرْ إليهم جبنًا وعجزًا عن قصد الحلة؛ لكثرة العسكر بها مع صدقة. وبقي صدقة بالحلة إلى أن قدم السلطان مسعود إلى بغداد سنة إحدى وثلاثين وخمسمائة، فقصده وأصلح حالَه معه ولزم خدمتَه.
وصل يرنقش الزكوي من عند السلطان مسعود يطالب الخليفة بما كان قد استقَرَّ على المسترشد من المال، وهو أربعمائة ألف دينار، فذكر أنه لا شيءَ عنده، وأنَّ المال جميعَه كان مع المسترشد بالله، فنُهب في الهزيمة المذكورة. ثم بلغ الراشد بالله أن يرنقش يريد الهجومَ على دار الخلافة وتفتيشها لأخذ المال، فجمع العساكِرَ لمنع داره، وأمَّر عليهم كج أبه، وأعاد عمارة السور. فلما علم يرنقش بذلك اتفق هو وبك أبه شحنة بغداد، وهو من أمراء السلطان، على أن يهجموا على دار الخليفة يوم الجمعة، فبلغ ذلك الراشد بالله فاستعَدَّ لمنعهم، وركب يرنقش ومعه العسكر السلطاني والأمراء البكجية، ومحمد بن عكر، في نحو خمسة آلاف فارس، ولقيهم عسكر الخليفة ومتقدَّمُهم كج أبه واقتتلوا قتالًا شديدًا، وساعد العامَّةُ عسكر الخليفة على قتال العسكر السلطاني، حتى أخرجهم إلى دار السلطان، فلما جنَّهم الليل ساروا إلى طريق خراسان، ثم انحدر بك أبه إلى واسط، وسار يرنقش إلى البندنيجين، ونهب أهلُ بغداد دارَ السلطان
وقَعَت الفِتنةُ بدمشقَ بين صاحِبِها شِهابِ الدِّينِ محمود بن تاج الملوك بوري والجند. وسبَبُ ذلك أنَّ الحاجِبَ يوسف بن فيروز كان أكبَرَ حاجِبٍ عند أبي شِهابِ الدين وجَدِّه، ثمَّ إنَّه خاف أخاه شمسَ الملوك، وهرب ابنُ فيروز منه إلى تدمُر، فلمَّا كانت هذه السَّنةُ سأل أن يَحضُرَ إلى دمشق، وكان يخاف جماعةَ المماليك؛ لأنَّه كان أساء إليهم وعامَلَهم أقبَحَ مُعاملةٍ، فلما طلبَ الآن الحضورَ إلى دمشق أُجيبَ إلى ذلك، فأنكر جماعةُ الأمراء والمماليكِ قُربَه وخافوه أن يفعَلَ بهم مثلَ فِعلِه الأوَّلِ، فلم يزَل ابنُ فيروز يتوصَّلُ معهم حتى حلَف لهم واستحلَفَهم وشَرَط على نفسِه أنَّه لا يتولى من الأمورِ شَيئًا، ثمَّ إنَّه جعل يُدخِلُ نَفسَه في كثيرٍ مِن الأمور، فاتَّفَق أعداؤه على قَتلِه، فبينما هو يسيرُ مع شمس الملوك في الميدانِ وإلى جانِبِه أميرٌ اسمه بزاوش يحادِثُه، إذ ضرَبَه بزاوش بالسَّيفِ فقَتَله، فحُمِلَ ودُفِنَ عند تربة والده بالعقيبة، ثمَّ إنَّ بزاوش والمماليك خافوا شمسَ الملوك، فلم يدخُلوا البلد، ونزلوا بظاهِرِه، وأرسلوا يَطلُبونَ قواعِدَ استطالوا فيها، فأجابهم إلى البَعضِ، فلم يَقبَلوا منه، ثمَّ ساروا إلى بعلبك، وبها شمسُ الدولة محمد بن تاج الملوك صاحِبُها، فصاروا معه، فالتحق بهم كثيرٌ مِن التُّركمان وغيرِهم، وشَرَعوا في العَبَث والفَسادِ، واقتَضَت الحالُ مُراسَلتَهم وملاطَفتَهم وإجابتَهم إلى ما طلبوا، واستقَرَّت الحالُ على ذلك، وحَلَف كُلٌّ منهم لصاحبه. فعادوا إلى ظاهِرِ دمشق ليدخُلوا البلد، وخرج شهابُ الدين صاحِبُ دمشق إليهم، واجتمَعَ بهم وتجَدَّدَت الأيمانُ، وصار بزاوش مُقَدَّم العسكَرِ وإليه الحَلُّ والعَقدُ، وذلك في شعبان، وزال الخُلفُ، ودخلوا البلدَ.
اجتمَعَ كثيرٌ مِن الأُمَراءِ وأصحابِ الأطرافِ على الخُروجِ عن طاعةِ السُّلطانِ مَسعود، فسار المَلِكُ داود بن السُّلطان محمود في عسكَرِ أذربيجان إلى بغداد، فوصَلَها رابِعَ صَفَر، ونزل بدارِ السُّلطان، ووصل أتابك عماد الدين زنكي بَعدَه مِن المَوصِل، ووصل يرنقش بازدار صاحِبُ قزوين وغيرها، والبقش الكبيرُ صاحب أصفهان، وصَدقةُ بنُ دبيس صاحِبُ الحلة، ومعه عنترُ بنُ أبي العسكر الجاواني يدَبِّرُه، ويُتَمِّمُ نَقصَ صِباه، وابنُ برسق، وابن الأحمديلي، وخرج إليهم مِن عَسكَرِ بغدادَ كج أبه والطرنطاوي وغيرهما، وجعل المَلِكُ داود في شحنكية بغداد يرنقش بازدار، وقبض الخليفةُ الراشِدُ بالله على ناصحِ الدَّولة أبي عبد الله الحَسَن بن جهير أستاذ الدار، وهو كان السَّبَبَ في ولايتِه، وعلى جَمالِ الدولةِ إقبالِ المسترشدي، وكان قد قَدِمَ إليه من تكريت، وعلى غيرِهما من أعيانِ دَولتِه، فتغَيَّرَت نِيَّاتُ أصحابِه عليه وخافوه. فأمَّا جَمالُ الدَّولةِ؛ فإنَّ أتابك زنكي شَفَعَ فيه شفاعةً تحتها إلزامٌ، فأُطلِقَ وصار إليه ونزل عنده، وخرج موكِبُ الخليفةِ مع وزيرِه جلالِ الدينِ أبي الرضا بن صدقة إلى عمادِ الدِّينِ زنكي لتَهنئتِه بالقدوم، فأقام الوزيرُ عنده، وسأله أن يمنَعَه من الخليفةِ فأجابه إلى ذلك، وعاد الموكِبُ بغير وزير، وأرسل زنكي مَن حَرَسَ دارَ الوزيرِ مِن النَّهبِ، ثم أصلحَ حالَه مع الخليفة، وأعاده إلى وزارتِه. وكذلك أيضًا عبَرَ عليه قاضي القضاة الزينبي، وسار معه إلى الموصِل، ثمَّ إنَّ الخليفةَ جَدَّ في عمارةِ السُّورِ، فأرسل المَلِكُ داود مَن قَلَع أبوابَه، وأخرب قطعةً منه، فانزعج الناسُ ببغداد، ونقلوا أموالَهم إلى دارِ الخلافة، وقُطِعَت خُطبةُ السُّلطان مسعود، وخُطِبَ للملك داود وجَرَت الأيمانُ بين الخليفة والملك داود وعمادِ الدينِ زنكي، وأرسل الخليفةُ إلى زنكي ثلاثين ألفَ دينار ليُنفِقَها، ووصل الملِكُ سلجوق شاه إلى واسط فدخَلَها وقَبَض على الأميرِ بك أبه ونهَبَ مالَه وانحدَرَ زنكي إليه لدَفْعِه عنها واصطلحا وعاد زنكي إلى بغداد وعبَرَ إلى طريق خراسان، وحثَّ على جمعِ العساكِرِ للِقاءِ السُّلطانِ مَسعود، وسار المَلِكُ داود نحو خراسانَ أيضًا، فنَهَب العسكَرُ البلادَ وأفسدوا، ووصلت الأخبارُ بمَسيرِ السُّلطان إلى بغداد لقِتالِ الملك، وفارق الملِكُ داود وزنكي، فعاد زنكي إلى بغداد، وفارق المَلِكُ داود، وأظهر له أن يمضيَ إلى مراغة إذ فارقَ السُّلطان مسعود إلى همذان، فبرز الراشِدُ بالله إلى ظاهِرِ بغدادَ أوَّلَ رمَضان، وسار إلى طريقِ خُراسان، ثم عاد بعد ثلاثةِ أيَّامٍ ونزل عند جامِعِ السُّلطانِ، ثمَّ دخل إلى بغداد خامِسَ رَمَضان، وأرسَلَ إلى داود وسائرِ الأُمَراء يأمُرُهم بالعَودِ إلى بغداد، فعادوا، ونزلوا في الخيامِ، وعَزَموا على قِتالِ السُّلطان مسعودٍ مِن داخِلِ سورِ بغداد، ووصَلَت رسُلُ السُّلطان مسعود يبذُلُ مِن نفسِه الطاعةَ والمُوافَقةَ للخليفة والتهديدَ لِمَن اجتمع عنده، فعرض الخليفةُ الرِّسالةَ عليهم، فكُلُّهم رأى قتاله، فقال الخليفة: وأنا معكم على ذلك.
حكى ابنُ الجَوزيِّ عن أبي بكرٍ الصوليِّ أنَّه قال: "النَّاسُ يقولونَ: كُلُّ سادسٍ يقومُ بأمرِ النَّاسِ مِن أوَّلِ الإسلامِ لا بُدَّ أن يُخلَعَ، قال ابنُ الجوزيِّ: فتأمَّلتُ ذلك فرأيتُه عَجَبًا: قيامُ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ثمَّ أبِي بكر ثمَّ عُمَرَ ثُمَّ عُثمانَ ثمَّ عليٍّ ثمَّ الحَسَن فتنازلَ بالخلافةِ لِمُعاوية! ثمَّ يزيدُ ومُعاويةُ بنُ يزيد ومروانُ وعبدُ المَلِك ثمَّ عبدُ الله بنُ الزُّبيرِ، فخُلِعَ وقُتِلَ! ثمَّ الوليدُ ثمَّ سُليمانُ ثمَّ عُمَرُ بنُ عبد العزيز ثمَّ يزيدُ ثُمَّ هِشامٌ ثُمَّ الوليدُ بنُ يزيد، فخُلِعَ وقُتِلَ! ولم يَنتَظِمْ لبني أميَّةَ بَعدَه أمرٌ حتى قام السَّفَّاحُ العباسيُّ ثمَّ أخوه المنصورُ ثُمَّ المهديُّ ثُمَّ الهادي ثمَّ الرَّشيدُ ثُمَّ الأمين، فخُلِعَ وقُتِلَ! ثُمَّ المأمونُ والمُعتَصِم والواثِقُ والمتوكِّلُ والمُنتَصِرُ ثمَّ المُستعينُ، فخُلِعَ ثمَّ قُتِلَ، ثمَّ المُعتَزُّ والمهتدي والمُعتَمِد والمُعتَضِد والمُكتفي ثمَّ المُقتَدِر، فخُلِعَ ثمَّ أعيدَ فقُتِلَ! ثمَّ القاهِرُ والراضي والمتَّقي والمُكتفي والمُطيع ثمَّ الطائِعُ فخُلِعَ، ثمَّ القادِرُ والقائِمُ والمُقتدي والمُستَظهِر والمُستَرشِد ثُمَّ الرَّاشِدُ، فخُلِعَ وقُتِلَ!.
كان أصحابُ حمص أولادُ الأمير خيرخان بن قراجا، والوالي بها مِن قبلِهم، قد ضَجِروا من كثرةِ تعَرُّضِ عَسكَرِ عماد الدين زنكي إليها وإلى أعمالِها، وتَضييقِهم على مَن بها مِن جُنديٍّ وعامِّيٍّ، فراسلوا شهابَ الدين محمود بن تاج الملوك بوري صاحب دمشقَ في أن يُسَلِّموها إليه، ويُعطيهم عِوضًا عنها تَدمُر، فأجابهم إلى ذلك، وسار إليها وتسَلَّمَها منهم، وسَلَّمَ إليهم تَدمُر، وأقطع حِمصَ مَملوكَ جَدِّه معين الدين أنر، وجعل فيها نائبًا عنه ممَّن يثق به من أعيانِ أصحابِه، وعاد عنها إلى دِمشقَ. فلمَّا رأى عسكرَ زنكي الذين بحَلَب وحماة خروجَ حِمص عن أيديهم تابَعوا الغاراتِ إلى بلَدِها والنَّهبَ له، والاستيلاءَ على كثيرٍ منه، فجرى بينهم عِدَّةُ وقائع، وأرسل شهابُ الدين إلى زنكي في المعنى واستقرَّ الصُّلح بينهم، وكفَّ كُلٌّ منهم عن صاحِبِه.
اجتَمَعت عَسكَرُ أتابك زنكي، صاحِبِ حَلَب وحَماة، مع الأميرِ أسوار نائِبِه بحَلَب، وقَصَدوا بلدَ الفِرنجِ على حين غفلةٍ منهم، وقَصَدوا أعمالَ اللاذقيَّة بَغتةً، ولم يتمَكَّنْ أهلُها مِن الانتقالِ عنها والاحترازِ، فنَهَبوا منها ما يزيدُ عن الوَصفِ، وقتلوا وأسَروا وفعلوا في بلدِ الفِرنجِ ما لم يَفعَلْه غَيرُهم، وكان الأسرى سبعةَ آلافِ أسيرٍ ما بين رجُلٍ وامرأةٍ وصَبيٍّ، ومِئة ألفِ رأسٍ مِن الدوابِّ ما بينَ فَرَسٍ وبَغلٍ وحِمارٍ وبَقَرٍ وغَنَم، وأما ما سوى ذلك مِن الأقمِشةِ والعَينِ والحُلِيِّ فيَخرُجُ عن الحَدِّ، وخَرَّبوا بلدَ اللاذقيَّة وما جاورها ولم يَسلَمْ منها إلَّا القليلُ، وخرجوا إلى شيزر بما معهم من الغنائِمِ سالِمينَ، مُنتصَفَ رَجَب، فامتلأ الشامُ مِن الأُسارى والدوابِّ، وفرح المُسلِمونَ فَرَحًا عظيمًا، ولم يَقدِرْ الفِرنجُ على فِعلِ شَيءٍ مُقابِلَ هذه الحادثة؛ عَجْزًا ووَهْنًا.
حَصَل اجتماعُ الأمراءِ والملوكِ، ببغداد، على خلافِ السُّلطانِ مسعود، والخُطبةِ للمَلِك داود بن أخيه السُّلطان محمود، فجمع السُّلطانُ مسعود العساكِرَ وسار إلى بغداد، ولَمَّا وصل السُّلطانُ نزل على بغداد وحَصَرها وجميعَ العساكِرِ فيها، وثار العيَّارون ببغداد وسائِرِ محالِّها، وأفسدوا ونَهَبوا، وقَتَلوا، وحصرهم السُّلطانُ نَيِّفًا وخمسين يومًا فلم يَظفَرْ بهم، فعاد إلى النهروان عازمًا على العَودِ إلى همذان، فوصله طرنطاي صاحِبُ واسط ومعه سفن كثيرة، فعاد إليها وعبَرَ فيها إلى غربيَّ دجلةَ، وأراد العَسكَرُ البغدادي مَنْعَه، فسبقهم إلى العبور، واختلفت كَلِمتُهم، فعاد الملك داودُ إلى بلاده وتفَرَّق الأمراء، وكان عماد الدين زنكي بالجانبِ الغربيِّ فعبَرَ إليه الخليفة الراشد بالله وسار معه إلى الموصِل في نفَرٍ يَسيرٍ مِن أصحابه، فلمَّا سَمِعَ السُّلطانُ مسعود بمفارقة الخليفة وزنكي بغداد سار إليها واستقَرَّ بها، ومنع أصحابَه من الأذى والنَّهبِ، وكان وصولُه مُنتصَفَ ذي القعدة، فسكنَ النَّاسُ واطمأنُّوا بعد الخوفِ الشَّديدِ، وأمَرَ فجُمِعَ القضاةُ والشُّهود والفُقَهاء وعَرَض عليهم اليمينَ التي حلف بها الراشِدُ بالله لمسعود، فأفتَوا بخروجه من الخلافةِ، فتقَدَّمَ السُّلطانُ بخَلعِه وإقامةِ مَن يَصلُحُ للخلافة، فخُلِعَ وقُطِعَت خُطبتُه في بغداد وسائِرِ البلاد، وكانت خلافتُه أحد عشر شهرًا وأحدَ عشر يومًا.
لَمَّا قُطِعَت خُطبةُ الراشِدِ بالله وخُلِعَ، استشار السُّلطانُ جَماعةً مِن أعيان بغدادَ، منهم الوزيرُ علي بن طراد، وصاحِبُ المخزن، وغيرهما، فيمن يَصلُحُ أن يليَ الخلافة. فقال الوزير: أحدُ عُمومةِ الراشِدِ، وهو رجلٌ صالحٌ. قال: من هو؟ قال: لا أقدِرُ أن أُفصِحَ باسمِه لِئَلَّا يُقتَلَ، فتقَدَّم إليهم بعَمَلِ مَحضَرٍ في خَلعِ الرَّاشِدِ، فعَمِلوا محضرًا ذَكَروا فيه ما ارتكَبَه من أخذِ الأموالِ وأشياءَ تَقدَحُ في الإمامةِ، ثمَّ كَتَبوا فتوى: ما يقولُ العُلَماءُ فيمن هذه صِفَتُه، هل يَصلُحُ للإمامةِ أم لا؟ فأفتَوا أنَّ مَن هذه صِفَتُه لا يصلُحُ أن يكون إمامًا، فلمَّا فرغوا من ذلك أحضروا القاضيَ أبا طاهر بن الكرخي، فشَهِدوا عنده بذلك، فحَكَم بفِسقِه وخَلْعِه، وحَكمَ بعدَه غَيره، ولم يكن قاضي القضاة حاضِرًا ليَحكُمَ؛ فإنَّه كان عند عماد الدين زنكي بالمَوصِل، ثمَّ إنَّ شَرَفَ الدين الوزير ذكَرَ للسُّلطانِ أبا عبدِ اللهِ مُحَمَّدَ بنَ المُستظهِر بالله، ودِينَه، وعَقْلَه، وعِفَّتَه، ولِينَ جانِبِه، فحضر السُّلطانُ دارَ الخلافة ومعه الوزيرُ شرف الدين الزينبي، وصاحبُ المخزن ابن البقشلاني وغيرهما، وأمر بإحضارِ الأميرِ أبي عبد الله محمد بن المستظهر مِنَ المكان الذي يَسكُنُ فيه، فأُحضِرَ وأُجلِسَ في المثمنة، ودخل السُّلطانُ إليه والوزيرُ شَرَف الدين وتحالفا، وقرَّرَ الوزيرُ القواعِدَ بينهما، وخرج السُّلطانُ مِن عنده وحضر الأمراءُ وأربابُ المناصِبِ والقُضاةُ والفُقَهاءُ وبايعوا ثامِنَ عَشَرَ ذي الحجة ولُقِّبَ المقتفيَ لأمر الله، ولَمَّا استُخلِفَ سُيِّرَت الكُتُب الحَكيمةُ بخِلافتِه إلى سائِرِ الأمصار، ثمَّ تتَبَّعَ المقتفي القَومَ الذين أفتَوا بفِسقِ الرَّاشِدِ وكَتَبوا المحضر، وعاقَب مَن استحَقَّ العقوبةَ، وعَزَل من يستحِقُّ العَزْلَ، ونكب الوزيرُ شرف الدين علي بن طراد. وقال المقتفي: إذا فعلوا هذا مع غيري فهم يفعلونَه معي، واستصفى أموالَ الزينبي، واستوزر عِوَضَه سديدَ الدَّولةِ بنَ الأنباري.