المَطلَبُ السَّابِعُ: أحوالُ المَنهيِّ عنه
المَنهيُّ عنه له حالَتانِ:الحالةُ الأولى: أن يَكونَ المَنهيُّ عنه فعلًا واحِدًا، مِثلُ: "لا تَدخُلْ هذه الدَّارَ"؛ فإنَّ النَّهيَ هنا يَقتَضي تَركَ ذلك الواحِدِ بعَينِه
[1204] يُنظر: ((المهذب)) لعبد الكريم النملة (3/1443). .
الحالةُ الثَّانيةُ: أن يَكونَ المَنهيُّ عنه مُتَعَدِّدًا، وهذه الحالةُ لها ثَلاثُ صُوَرٍ:
1- أن يَكونَ كُلُّ فِعلٍ بخُصوصِه لا يَجوزُ الإقدامُ عليه، وجاءَ بلَفظِ العَطفِ "الواوِ"، مِثلُ: "لا تَقرَبِ الزِّنا، ولا تَأكُلِ الرِّبا"؛ فإنَّ النَّهيَ يَقتَضي عَدَمَ فِعلِ جَميعِها، كما لا يَجوزُ فِعلُها مُنفرِدةً
[1205] يُنظر: ((المحصول)) للرازي (2/304)، ((المهذب)) لعبد الكريم النملة (3/1443). .
2- أن يَكونَ كُلُّ واحِدٍ منها يَجوزُ فِعلُه مُنفرِدًا، وجاءَ بلَفظِ العَطفِ "الواو"، مِثلُ: "لا تَتَزَوَّجْ هِندًا ولا أُختَها"؛ فإنَّ النَّهيَ هنا يَقتَضي عَدَمَ فِعلِها مُجتَمِعةً، ولا يَدُلُّ على تَركِ كُلِّ واحِدٍ منها على انفِرادِه؛ لأنَّ الدَّليلَ قائِمٌ على جَوازِ التَّزَوُّجِ بكُلِّ واحِدةٍ منها استقلالًا
[1206] يُنظر: ((القواعد)) للحصني (2/86)، ((المهذب)) لعبد الكريم النملة (3/1443). .
3- أن يَتَعَلَّقَ النَّهيُ بأحَدِ الأشياءِ بلَفظِ التَّخييرِ، مِثلُ: "لا تُكَلِّمْ زَيدًا أو عَمرًا"؛ فإنَّ النَّهيَ يَقتَضي المَنعَ مِن كَلامِ أحَدِهما على وَجهِ التَّخييرِ؛ لأنَّ لَفظَ "أو" للتَّخييرِ
[1207] يُنظر: ((العدة)) لأبي يعلى (2/428)، ((التمهيد)) للكلوذاني (1/368). ، وبه قال الشَّافِعيَّةُ
[1208] يُنظر: ((الإحكام)) للآمدي (1/114)، ((بيان المختصر)) لشمس الدين الأصفهاني (1/377)، ((البحر المحيط)) للزركشي (3/374). ، والحَنابِلةُ
[1209] يُنظر: ((التحبير)) للمرداوي (2/937). ، وهو قَولُ أكثَرِ الأُصوليِّينَ
[1210] يُنظر: ((التحبير)) للمرداوي (2/937)، ((إتحاف ذوي البصائر)) لعبد الكريم النملة (5/408). ، ومِنهمُ ابنُ بَرْهانَ
[1211] يُنظر: ((الوصول)) (1/199). ، والهِنديُّ
[1212] يُنظر: ((نهاية الوصول)) (2/617). .
قال المَرداويُّ: (هذه المَسألةُ كَمَسألةِ الواجِبِ المُخَيَّرِ، إلَّا أنَّ التَّخييرَ هنا في التَّركِ، وهناكَ في الفِعلِ، فكما أنَّ للمُكَلَّفِ أن يَأتيَ بالجَميعِ، وأن يَأتيَ بالبَعضِ ويَترُكَ البَعضَ الباقيَ في الواجِبِ المُخَيَّرِ، له أن يَترُكَ الجَميعَ، وأن يَترُكَ البَعضَ دونَ البَعضِ هنا عِندَ أصحابِنا والأكثَرِ، وكما لا يَجوزُ الإخلالُ بجَميعِها، بَل عليه فِعلُ شَيءٍ منها في الواجِبِ المُخَيَّرِ، لا يَجوزُ له الإخلالُ بالتَّركِ جَميعًا هنا، بَل يَجِبُ عليه تَركُ شَيءٍ منها)
[1213] ((التحبير)) (2/937). .
ودَليلُ ذلك: أنَّ النَّهيَ كالأمرِ في بابِ الكَفِّ، ثُمَّ إنَّه قد ثَبَتَ أنَّه لَو قال: تصَدَّقْ بدِرهَمٍ أو دينارٍ، لَم يَجِبِ الجَمعُ بَينَهما، فكذلك النَّهيُ
[1214] يُنظر: ((العدة)) لأبي يعلى (2/429)، ((التمهيد)) للكلوذاني (1/368). .
ولأنَّه لا مانِعَ عقلًا؛ إذ يَجوزُ أن يُقالَ: لا تُكَلِّمْ زَيدًا أو عَمرًا؛ فقد حَرَّمتُ عليك كَلامَ أحَدِهما لا بعَينِه، ولَم أحَرِّمْ عليك كَلامَهما جَميعًا، ولا كَلامَ واحِدٍ بعَينِه. فليس المُحَرَّمُ مَجموعَ كَلامِهما، ولا كَلامَ أحَدِهما بعَينِه؛ لتَصريحِه بنَقيضِه، فلَم يَبقَ المُحَرَّمُ إلَّا كَلامَ واحِدٍ مِنهما لا بعَينِه
[1215] يُنظر: ((بيان المختصر)) لشمس الدين الأصفهاني (1/377). .
وقيلَ: إنَّه يَقتَضي المَنعَ مِن كِلَيهما جَميعًا
[1216] يُنظر: ((المغني)) للقاضي عبد الجبار (17/135)، ((المعتمد)) لأبي الحسين البصري (1/170). .
أمثِلةٌ تَطبيقيَّةٌ للمَسألةِ:يَتَخَرَّجُ على المُحَرَّمِ المُخَيَّرِ بَعضُ الفُروعِ الفِقهيَّةِ، ومِنها
[1217] يُنظر: ((القواعد)) للحصني (2/87)، ((الوجيز)) لمحمد الزحيلي (1/358). :
1- النَّهيُ عنِ الجَمعِ بَينَ الأُختَينِ في وقتٍ واحِدٍ، فالشَّريعةُ أجازَتِ الزَّواجَ بكُلٍّ مِنهما، لَكِن إذا تَزَوَّجَ إحدى الأُختَينِ حَرُمَت عليه الأُخرى، ما لَم يُطلِّقِ الأولى أو تَمُتْ، وكذلك الجَمعُ بَينَ المَرأةِ وخالَتِها، والمَرأةِ وعَمَّتِها.
2- نَصُّ القُرآنِ الكَريمِ والسُّنَّةِ الشَّريفةِ على التَّخييرِ في التَّحريمِ بَينَ الأُمِّ وبنتِها، فكُلٌّ مِنهما يَجوزُ الزَّواجُ منها، ولَكِن إذا تَزَوَّجَ مِن إحداهما حَرُمَت عليه الأُخرى.