موسوعة أصول الفقه

تَمهيدٌ: هَل للعُمومِ صيغةٌ تَخُصُّه؟


اختَلَف الأُصوليُّونَ في العُمومِ، هَل له في اللُّغةِ صيغةٌ خاصَّةٌ به تَدُلُّ عليه أو لا؟
والرَّاجِحُ أنَّ للعُمومِ صيغةً خاصَّةً به مَوضوعةً له، تَدُلُّ على العُمومِ حَقيقةً، ولا تُستَعمَلُ في غَيرِه إلَّا بقَرينةٍ. وهو مَذهَبُ الأئِمَّةِ الأربَعةِ، وجُمهورِ أصحابِهم [1233] يُنظر: ((البحر المحيط)) للزركشي (4/24). ، مِنهم أبو يَعلى [1234] يُنظر: ((العدة)) (2/485). ، والشِّيرازيُّ [1235] يُنظر: ((التبصرة)) (ص: 105). ، والسَّمعانيُّ [1236] يُنظر: ((قواطع الأدلة)) (1/154). ، وحَكاه ابنُ السَّاعاتيِّ عنِ المُحَقِّقينَ [1237] يُنظر: ((بديع النظام)) (2/428). ، وقال ابنُ دَقيقِ العيدِ: (وهو مَقطوعٌ به مِن لسانِ العَرَبِ، وتَصَرُّفاتِ ألفاظِ الكِتابِ والسُّنَّةِ) [1238] ((إحكام الأحكام)) (1/307). .
قال ابنُ تيميَّةَ: (للعُمومِ صيغةٌ تُفيدُه بمُطلَقِها، كلَفظِ الجَمعِ، مِثلُ المُسلِمينَ والنَّاسِ، وكمَنَ لمَن يَعقِلُ، وما فيما لا يَعقِلُ، وغَيرِ ذلك، وبهذا قال جَماعةُ الفُقَهاءِ: أبو حَنيفةَ، ومالِكٌ، والشَّافِعيُّ، وداودُ، وعامَّةُ المُتَكَلِّمينَ) [1239] ((المسودة)) (ص: 89). .
الأدِلَّةُ:
1- قَولُ اللهِ تعالى في قِصَّةِ نوحٍ عليه السَّلامُ: وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ [هود: 45] ، فحَمَلَ نوحٌ لَفظَ "الأهلِ" على عُمومِه، فلَم يُنكِرِ اللهُ تعالى عليه ذلك، وإنَّما بَيَّن أنَّ مُرادَه خاصٌّ، وهو: المُصلِحُ مِنهم، فقال تعالى: إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ، فبَيَّن أنَّه أرادَ بقَولِه: وَأْهْلَكَ بَعضَ أهلِه [1240] يُنظر: ((التقريب والإرشاد)) للباقلاني (3/401)، ((العدة)) لأبي يعلى (2/491)، ((التبصرة)) للشيرازي (ص: 105). .
2- قَولُ اللهِ تعالى في قِصَّةِ إبراهيمَ عليه السَّلامُ: وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ [العنكبوت: 31] يُحتَجُّ به على أنَّ للعُمومِ صيغةً؛ لأنَّ إبراهيمَ عليه السَّلامُ فَهِمَه مِن صيغةِ أهلِ هذه القَريةِ، فعُلِمَ مِن ذلك أنَّهم مُهلِكونَ لجَميعِ أهلِها، فقال: إِنَّ فِيهَا لُوطًا فأخبَرَته المَلائِكةُ أنَّهم يُنجونَه وأهلَه، واستَثنَوه مِن جُملةِ أهلِ القَريةِ، فعُلِمَ بذلك أنَّ إبراهيمَ فَهِم مِن أهلِ هذه القَريةِ العُمومَ؛ حَيثُ ذَكَرَ لوطًا، والمَلائِكةُ أقَرُّوه على ذلك وأجابوه بتَخصيصِ لوطٍ وأهلِه بالِاستِثناءِ، ثُمَّ استِثناءِ امرَأتِه مِنَ النَّاجينَ [1241] يُنظر: ((العدة)) لأبي يعلى (2/492)، ((الإحكام)) للآمدي (2/202)، ((الإشارات الإلهية)) للطوفي (ص: 491). .
3- إجماعُ الصَّحابةِ رَضِيَ اللهُ عنهم؛ فقد قال عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عنه لأبي بَكرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللهُ عنه في مانِعي الزَّكاةِ: كَيف تُقاتِلُهم وقد قال النَّبيُّ عليه السَّلامُ: ((أُمِرتُ أن أُقاتِلَ النَّاسَ حتَّى يَقولوا: لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ)) [1242] أخرجه البخاري (1399)، ومسلم (20) من حديثِ أبي هرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه. ، فاحتَجَّ بعُمومِ اللَّفظِ، ولَم يُنكِرْ عليه أبو بَكرٍ ولا أحَدٌ مِنَ الصَّحابةِ، بَل عَدَلَ أبو بَكرٍ في الجَوابِ إلى الاستِثناءِ المَذكورِ في الخَبَرِ، وهو قَولُه: ((إلَّا بحَقِّها)) [1243] أخرجه البخاري (1399)، ومسلم (20) باختِلافٍ يَسيرٍ من حديثِ أبي هرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، بلَفظ: ((إلَّا بحَقِّه)). ، وإنَّ الزَّكاةَ مِن حَقِّها؛ فدَلَّ على أنَّ لَفظَ الجَمعِ مَعرِّفٌ للعُمومِ [1244] يُنظر: ((التبصرة)) للشيرازي (ص: 107)، ((التمهيد)) للكلوذاني (2/9)، ((الإحكام)) للآمدي (2/202). .
وقيلَ: ليس للعُمومِ صيغةٌ، وما يَرِدُ مِن ألفاظِ الجَمعِ فلا يُحمَلُ على العُمومِ ولا على الخُصوصِ إلَّا بدَليلٍ. وهو قَولُ أبي الحَسَنِ الأشعَريِّ ومَن تَبِعَه [1245] يُنظر: ((التبصرة)) للشيرازي (ص: 105)، ((قواطع الأدلة)) للسمعاني (1/154). .

انظر أيضا: