موسوعة أصول الفقه

المَسألةُ الثَّالثةُ: المُباحُ بالجُزءِ والمُباحُ بالكُلِّ


المباحُ بالجُزءِ تَتَجَاذَبُهُ الأحكامُ الأربَعةُ الأُخرى (النَّدبُ، والوُجوبُ، والكراهةُ، والتَّحريمُ) عند طَلَبِهِ بالكُلِّ.
فالمُباحُ يَكونُ مُباحًا بالجُزءِ، مَطلوبًا بالكُلِّ على جِهةِ النَّدبِ أوِ الوُجوبِ، ومُباحًا بالجُزءِ، مَنهيًّا عنه بالكُلِّ على جِهةِ الكراهةِ أوِ المَنعِ. وبذلك يَكونُ المُباحُ خادِمًا لهذه الأقسامِ الأربَعةِ، ومُكمِّلًا لَها.
وبيانُ ذلك كما يَلي:
الأوَّلُ: المُباحُ بالجُزءِ مَعَ طَلَبِ الكُلِّ على جِهةِ النَّدبِ، مِثلُ: التَّمَتُّعِ بالطّيِّباتِ؛ مِنَ المَأكلِ والمشرَبِ، والمَركَبِ والمَلبَسِ، مِمَّا سِوى الواجِبِ مِن ذلك؛ فهو مُباحٌ بالجُزءِ، فلَو تُرِك في بَعضِ الأوقاتِ مَعَ القُدرةِ عليه لَكان جائِزًا كما لَو فُعِلَ، لَكِن لَو تُرِك جُملةً لَكان على خِلافِ ما نَدَبَ الشَّرعُ إليه، كما في قَولِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أن يَرى أثَرَ نِعمَتِه على عَبدِه)) [503] أخرجه الترمذي (2819) واللفظ له، وأحمد (6708) من حديثِ عبدِ اللهِ بنِ عَمرٍو رَضِيَ اللهُ عنهما. صحَّحه الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (2819)، وحسنه الترمذي، وابن حجر في ((الأمالي المطلقة)) (32)، وصحَّح إسناده الحاكم في ((المستدرك)) (7188)، وأحمد شاكر في تخريج ((مسند أحمد)) (10/178). .
ولَو تَرَك النَّاسُ كُلُّهم ذلك لَكان مَكروهًا.
الثَّاني: المُباحُ بالجُزءِ مَعَ طَلَبِ الكُلِّ على جِهةِ الوُجوبِ، مِثلُ: الأكلِ والشُّربِ، ووَطءِ الزَّوجاتِ، والبَيعِ والشِّراءِ، ووُجوهِ الاكتساباتِ الجائِزةِ، كقَولِ الله تعالى: ‌وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا [البقرة: 275] ، وقولِه تعالى: ‌أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ [المائدة: 96] وغيرِ ذلك.
فكُلُّ هذه الأشياءِ مُباحةٌ بالجُزءِ، أي: إذا اختارَ المُكلَّفُ أحَدَ هذه الأشياءِ على ما سِواها فذلك جائِزٌ، فيُباحُ أكلُ نَوعٍ وتَركُ آخَرَ مِمَّا أذِنَ به الشَّرعُ، وكذلك إذا تَرَكها المُكلَّفُ في بَعضِ الأحوالِ أوِ الأزمانِ أو تَركَها بَعضُ النَّاسِ لَم يَقدَحْ ذلك، لَكِن لَو فرَضْنا تَركَ النَّاسِ كُلِّهم ذلك لَكان تَركًا لِما هو مِنَ الضَّروريَّاتِ المَأمورِ بها؛ فكان الدُّخولُ فيها واجِبًا بالكُلِّ.
الثَّالِثُ: المُباحُ بالجُزءِ مَعَ الكراهةِ باعتِبارِ الكُلِّ، مِثلُ: التَّنَزُّهِ في البَساتينِ، واللَّعِبِ المُباحِ؛ فمِثلُ هذا مُباحٌ بالجُزءِ، فإذا فُعِلَ يَومًا ما أو في حالةٍ ما فلا حَرَجَ فيه، لَكِن إن فُعِلَ دائِمًا كان مَكروهًا، ونُسِبَ فاعِلُه إلى خِلافِ مَحاسِنِ العاداتِ، وإلى الإسرافِ في فِعلِ ذلك المُباحِ.
الرَّابعُ: المُباحُ بالجُزءِ مَعَ التَّحريمِ باعتِبارِ الكُلِّ، مِثلُ: المُباحاتِ التي تَقدَحُ المُداوَمةُ عليها في العَدالةِ وإن كانت مُباحةً؛ فإنَّها لا تَقدَحُ إلَّا بَعدَ أن يُعَدَّ صاحِبُها خارِجًا عن هيئاتِ أهلِ العَدالةِ، وأُجريَ صاحِبُها مَجرى الفُسَّاقِ، وإن لَم يَكُنْ كذلك، وما ذلك إلَّا لذَنبٍ اقتَرَفه شَرعًا [504] يُنظر: ((الموافقات)) للشاطبي (1/206). .

انظر أيضا: