موسوعة أصول الفقه

المَسألةُ الثَّانيةُ: الصِّيَغُ الدَّالَّةُ على الإباحةِ


الصِّيَغُ الدَّالَّةُ على الإباحةِ مُتَنَوِّعةٌ، أهَمُّها ما يَلي:
1- النَّصُّ الصَّريحُ الدَّالُّ على التَّخييرِ بينَ الفِعلِ والتَّركِ، فهو يَدُلُّ على إباحةِ الأمرينِ. كأن يَقولَ الشَّارِعُ: إن شِئتُم فافعَلوه، وإن شِئتُم فاترُكوه.
مِثالُه: قَولُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لمَن سَألَ عنِ الصَّومِ في السَّفرِ: ((إن شِئتَ فصُمْ، وإن شِئتَ فأَفطِرْ)) [498]لَفظُه: عن عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها أنَّها قالت: سَألَ حَمزةُ بنُ عَمرٍو الأسلَميُّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عنِ الصِّيامِ في السَّفَرِ؟ فقال: ((إن شِئتَ فصُمْ، وإن شِئتَ فأفطِرْ)). أخرجه البخاري (1943)، ومسلم (1121) واللفظ له. .
وقَولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لمَن سَألَه عنِ الوُضوءِ مِن لُحومِ الغَنَمِ: ((إن شِئتَ فتَوضَّأْ وإن شِئتَ فلا تَتَوضَّأْ)) [499] لَفظُه: عن جابِرِ بنِ سَمُرةَ أنَّ رَجُلًا سَألَ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أأتَوضَّأُ مِن لُحومِ الغَنَمِ؟ قال: ((إن شِئتَ فتَوضَّأْ، وإن شِئتَ فلا تَوضَّأْ)). أخرجه مسلم (360). .
2- النَّصُّ الصَّريحُ على حِلِّ الفِعلِ:
مِثالُه: قَولُ اللهِ تعالى في إباحةِ الطَّعامِ وغَيرِه مِنَ الطّيِّباتِ، وإباحةِ طَعامِ أهلِ الكِتابِ: ‌الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ [المائدة: 5] .
وقَولُ اللهِ عَزَّ وجَلَّ في إباحةِ مُعاشَرةِ الزَّوجةِ في ليالي رَمَضانَ: ‌أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ [البقرة: 187] .
3- النَّصُّ على نَفيِ الإثمِ على الفِعلِ أو ما في مَعناه، كنَفيِ الجُناحِ، ونَفيِ الحَرَجِ.
ومِثالُ نَفي الإثمِ: قَولُ اللهِ تعالى: فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ ‌فَلَا ‌إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ ‌فَلَا ‌إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى [البقرة: 203] .
ومِثالُ نَفيِ الجُناحِ: قَولُ اللهِ عَزَّ وجَلَّ في إباحةِ التَّعريضِ بالخِطبةِ للمُتَوفَّى عنها زَوجُها في أثناءِ العِدَّةِ: ‌وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ [البقرة: 235] .
ومِثالُ نَفيِ الحَرَجِ: قَولُ اللهِ سُبحانَه في إباحةِ الأكلِ مِن بيتِ المَرءِ وبَيتِ أبيه وأُمِّه: ‌لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ [النور: 61] .
4- الأمرُ بالفِعلِ مَعَ وُجودِ القَرينةِ الدَّالَّةِ على أنَّ الأمرَ للإباحةِ وليس للوُجوبِ أوِ النَّدبِ.
ومِنَ القَرائِنِ الصَّارِفةِ للأمرِ إلى الإباحةِ: الأمرُ بالفِعلِ بَعدَ حَظرِه؛ فإنَّه يُفيدُ الإباحةَ على قَولِ جَمعٍ مِنَ الأُصوليِّينَ [500] يُنظر: مطلَبُ مُقتضى الأمرِ الواردِ بعدَ النَّهيِ. .
مِثالُه: قَولُ اللهِ تعالى: فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الجمعة 10].
وقَولُ اللهِ تعالى في إباحةِ الصّيدِ بَعدَ التَّحَلُّلِ مِنَ الحَجِّ: ‌وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا [المائدة: 2]، وقد كان الاصطياد مُحَرَّمًا في أثناءِ الحَجِّ بقَولِه تعالى: ‌غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ [المائدة: 1] .
ومِثلُ قَولِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((نَهيتُكُم عن زيارةِ القُبورِ فزُوروها)) [501] أخرجه مسلم (977) من حديثِ بُرَيدةَ بنِ الحُصَيبِ رَضِيَ اللهُ عنه. .
5- الاستِثناءُ مِن أشياءَ مُحَرَّمةٍ.
مِثالُه: قَولُ اللهِ تعالى: ‌حُرِّمَتْ ‌عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ [المائدة: 3] .
6- تَثبُتُ إباحةُ الفِعلِ بالإباحةِ الأصليَّةِ، فإذا لَم يَرِدْ مِنَ الشَّارِعِ نَصٌّ على حُكمِ العَقدِ أوِ التَّصَرُّفِ أو أيِّ فِعلٍ، ولَم يَقُمْ دَليلٌ شَرعيٌّ آخَرُ على حُكمٍ فيه: كان هذا العَقدُ أوِ التَّصَرُّفُ أوِ الفِعلُ مُباحًا بالبَراءةِ الأصليَّةِ؛ لأنَّ المقَرَّرَ في الشَّريعةِ أنَّ الأصلَ في الأشياءِ المنتفع بها الإباحةُ [502] يُنظر: ((المستصفى)) للغزالي (ص: 60)، ((علم أصول الفقه)) لخلاف (ص: 115)، ((أصول الفقه)) لعياض السلمي (ص: 53)، ((الوجيز)) لمحمد الزحيلي (1/375). قال ابنُ القَيِّمِ: (تُستَفادُ الإباحةُ مِنَ الإذنِ والتَّخييرِ، والأمرِ بَعدَ الحَظرِ، ونَفيِ الجُناحِ والحَرَجِ والإثمِ والمُؤاخَذةِ، والإخبارِ بأنَّه معفوٌّ عنه، وبالإقرارِ على فِعلِه في زَمَنِ الوحيِ، وبالإنكارِ على مَن حَرَّمَ الشَّيءَ، والإخبارِ بأنَّه خَلَقَ لَنا كذا، وجَعَلَه لَنا، وامتِنانِه علينا به، وإخبارِه عن فِعلِ مَن قَبلَنا لَه غيرَ ذامٍّ لَهم عليه، فإنِ اقتَرَنَ بإخبارِه مَدحٌ دَلَّ على رُجحانِه استِحبابًا أو وُجوبًا). ((بدائع الفوائد)) (4/1307). .

انظر أيضا: