موسوعة أصول الفقه

المَطلَبُ الرَّابِعُ: العُمومُ المُؤَكَّدُ بـ(كُلٍّ) ونَحوِها: هَل يَدخُلُه التَّخصيصُ؟


اختَلَف الأُصوليُّونَ في هذه المَسألةِ، والرَّاجِحُ: أنَّ العُمومَ المُؤَكَّدَ بـ(كُلٍّ) ونَحوِها يَدخُلُه التَّخصيصُ، وأنَّ التَّأكيدَ لا يَرفعُ احتِمالَ التَّخصيصِ، فالعامُّ إذا أُكِّدَ لا يُمنَعُ تَخصيصُه. وهو قَولُ بَعضِ المالِكيَّةِ، كابنِ رُشدٍ [1740] يُنظر: ((الضروري في أصول الفقه)) (ص:109). ، وبَعضِ الشَّافِعيَّةِ، كالقَفَّالِ الشَّاشيِّ [1741] يُنظر: ((البحر المحيط)) للزركشي (4/342)، ((التحبير)) للمرداوي (6/2517). ، والماوَرْديِّ [1742] يُنظر: ((أدب القاضي)) (1/284). ، والرُّويانيِّ [1743] يُنظر: ((بحر المذهب)) (11/94)، ((البحر المحيط)) للزركشي (4/343). ، والآمِديِّ [1744] يُنظر: ((الإحكام)) (3/135). ، وصَحَّحه الإسنَويُّ [1745] يُنظر: ((الكوكب الدري)) (ص:400). ، والزَّركَشيُّ [1746] يُنظر: ((البحر المحيط)) (4/342). ، وهو الأصَحُّ عِندَ الحَنابِلةِ [1747] يُنظر: ((التحبير)) للمرداوي (6/2516)، ((الذخر الحرير)) للبعلي (ص: 507). قال ابنُ رَجَبٍ: (العُمومُ المُؤَكَّدُ بـ (كُلّ) يَصِحُّ الاستِثناءُ منه بغَيرِ خِلافٍ؛ فلَو قال: نِسائي كُلُّهنَّ طَوالِقُ إلَّا فُلانةَ؛ فإنَّه مِثلُ قَولِه: كُلُّ امرَأةٍ لي طالِقٌ إلَّا فُلانةَ، أو كُلُّ عَبدٍ لي حُرٌّ إلَّا فلانًا، والِاستِثناءُ صحيحٌ في الكُلِّ، ولَوِ استَثنى ذلك بقَلبِه مِن غَيرِ تَلَفُّظٍ به ففي صِحَّتِه رِوايَتانِ عن أحمَدَ، حَكاهما ابنُ أبي موسى وغَيرُه. وفي القُرآنِ العَظيمِ: فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (73) إِلَّا إِبْلِيسَ [ص: 73، 74]، وحَكى عن إبليسَ أنَّه قال: لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [ص: 82، 83]، وهذا استِثناءٌ مِن عُمومٍ مُؤَكَّدٍ، وما صَحَّ الاستِثناءُ منه صَحَّ تَخصيصُه). ((فتح الباري)) (3/ 251). .
الأدِلَّةُ:
1- قَولُ اللهِ تعالى: فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلَّا إِبْلِيسَ [الحجر: 30-31]، إن جَعَلْنا الاستِثناءَ متَّصِلًا [1748] يُنظر: ((البحر المحيط)) للزركشي (4/342)، ((شرح الكوكب المنير)) لابن النجار (3/271)، ((الذخر الحرير)) للبعلي (ص: 507). .
قال القَفَّالُ الشَّاشيُّ: (يَجوزُ تَخصيصُ المُؤَكَّدِ)، ومَثَّله بقَولِ اللهِ تعالى: فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهمْ أَجْمَعُونَ وقال: (التَّأكيدُ لا يُزيلُ احتِمالَ اللَّفظِ، وإلَّا لم يَدخُلْه استِثناءٌ) [1749] يُنظر: ((البحر المحيط)) للزركشي (4/342). .
2- أنَّه لَوِ امتَنَعَ لامتَنَعَ التَّصريحُ به، وليس كذلك، بدَليلِ قَولِ اللهِ تعالى: قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [ص: 82-83] ، فهذا استِثناءٌ مِن عُمومٍ مُؤَكَّدٍ، وما صَحَّ الاستِثناءُ منه صَحَّ تَخصيصُه [1750] يُنظر: ((الكوكب الدري)) للإسنوي (ص:400)، ((فتح الباري)) لابن رجب (3/251). .
3- حَديثُ: ((أحرَموا كُلُّهم إلَّا أبا قتادةَ؛ فإنَّه لَم يُحرِمْ)) [1751] أخرجه البخاري (1824)، ومسلم (1196) واللَّفظُ له من حديثِ أبي قتادةَ رَضِيَ اللهُ عنه. ، فدَخَلَه التَّخصيصُ مَعَ تَأكيدِه [1752] يُنظر: ((البحر المحيط)) للزركشي (4/342)، ((شرح الكوكب المنير)) لابن النجار (3/271)، ((الذخر الحرير)) للبعلي (ص: 507). .
4- أنَّ الاحتِمالَ مَوجودٌ بَعدَ التَّأكيدِ كَوُجودِه مِن قَبلُ، والتَّأكيدُ لا يُزيلُ هذا الاحتِمالَ؛ بدَليلِ جَوازِ دُخولِ الاستِثناءِ عليه [1753] يُنظر: ((البحر المحيط)) (4/343). .
وقيلَ: إنَّ العُمومَ المُؤَكَّدَ بـ(كُلٍّ) ونَحوِها لا يَدخُلُه التَّخصيصُ. حَكاه القَفَّالُ الشَّاشيُّ، والرُّويانيُّ عن بَعضِ العُلَماءِ [1754] يُنظر: ((بحر المذهب)) للروياني (11/94)، ((البحر المحيط)) للزركشي (4/343). .
ومِنَ الأمثِلةِ التَّطبيقيَّةِ للمَسألةِ:
إذا قال لزَوجاتِه: طَلَّقتُكُنَّ كُلَّكُنَّ، أو قال لعَبيدِه: أعتَقَتُكُم جَميعَكُم، ونَوى إخراجَ بَعضِهم:
فعلى القَولِ الرَّاجِحِ: لا يَقَعُ على المُخرَجِ طَلاقٌ ولا عَتاقٌ. وعلى القَولِ الثَّاني: لا يُؤَثِّرُ التَّخصيصُ شَيئًا [1755] يُنظر: ((التمهيد)) (ص:373)، ((الكوكب الدري)) (ص:400) كلاهما للإسنوي، ((شرح ذريعة الوصول)) للزبيدي (ص: 432). .
قال ابنُ رَجَبٍ: (لَو قال: نِسائي كُلُّهنَّ طَوالِقُ إلَّا فُلانةَ؛ فإنَّه مِثلُ قَولِه: كُلُّ امرَأةٍ لي طالِقٌ إلَّا فُلانةَ، أو كُلُّ عَبدٍ لي حُرٌّ إلَّا فُلانًا، والِاستِثناءُ صحيحٌ في الكُلِّ. ولَوِ استَثنى ذلك بقَلبِه مِن غَيرِ تَلَفُّظٍ به ففي صِحَّتِه رِوايَتانِ عن أحمَدَ) [1756] ((فتح الباري)) (3/251). .

انظر أيضا: