موسوعة أصول الفقه

المَسألةُ الثَّالِثةُ: التَّخصيصُ بفِعلِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم


إذا فعَلَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فِعلًا يُخالِفُ عُمومَ قَولٍ تَعَلَّقَ بسائِرِ المُكَلَّفينَ، فهَل يَكونُ ذلك موجِبًا لتَخصيصِه؟
أو إذا نَهى عن أشياءَ بلَفظٍ عامٍّ، ثُمَّ يُفعَلُ بَعضُها، فهَل يُخصُّ ذلك النَّهيُ بالفِعلِ، أو يَكونُ الفِعلُ مُختَصًّا به صلَّى اللهُ عليه وسلَّم [1774] يُنظر: ((مسائل الخلاف)) للصيمري (ص:70)، ((العدة)) لأبي يعلى (2/573)، ((بيان المختصر)) لشمس الدين الأصفهاني (2/327)، ((أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم)) لمحمد الأشقر (2/190). ؟
قال ابنُ بَرْهانَ: (هذه المَسألةُ فَرعٌ على مَسألةِ أفعالِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فمَن جَعَلَ فِعلَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حُجَّةً خَصَّ به العُمومَ، ومَن لَم يَجعَلْه حُجَّةً لَم يَرَ التَّخصيصَ به جائِزًا) [1775] ((الوصول إلى الأصول)) (1/265). .
مِثالُ التَّخصيصِ بفِعلِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: تَخصيصُ قَولِ اللهِ تعالى في الحَيضِ: وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ [البقرة: 222] بكَونِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان يُباشِرُ الحائِضَ دونَ الفَرجِ مُتَّزِرةً، كما رَوت عائِشةُ رَضِيَ اللهُ عنها، قالت: ((كان يَأمُرُني فأتَّزِرُ، فيُباشِرُني وأنا حائِضٌ)) [1776] أخرجه البخاري (300) واللفظ له، ومسلم (293). .
فإنَّ الآيةَ اقتَضَت عُمومَ عَدَمِ القِربانِ في الفَرجِ وغَيرِه، وفِعلُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم خَصَّ النَّهيَ بالفَرجِ، وأباحَ القِربانَ لِما سِواه [1777] يُنظر: ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (2/569)، ((رفع النقاب)) للشوشاوي (1/475). .
وقدِ اختَلَف الأُصوليُّونَ في هذه المَسألةِ، والرَّاجِحُ: أنَّه يَجوزُ التَّخصيصُ بفِعلِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم. وهو مَنقولٌ عن أحمَدَ بنِ حَنبَلٍ [1778] يُنظر: ((العدة)) لأبي يعلى (2/573)، ((التمهيد)) للكلوذاني (2/116)، ((الواضح)) لابن عقيل (3/394). ، وهو قَولُ جُمهورِ الحَنَفيَّةِ [1779] يُنظر: ((زبدة الوصول)) للكرماستي (ص:47)، ((فواتح الرحموت)) للكنوي (1/370). واشتَرَطَ اللَّكنويُّ أن يَكونَ الفِعلُ موصولًا بالعُمومِ، فقال: (يَنبَغي على مَذهَبِنا أن يُقَيَّدَ بما إذا كان موصولًا، وإلَّا فناسِخٌ نَسَخ البَعضَ). ((فواتح الرحموت)) (1/370). ، وجُمهورِ المالِكيَّةِ [1780] يُنظر: ((شرح تنقيح الفصول)) للقرافي (ص:210)، ((رفع النقاب)) للشوشاوي (1/475). ، والشَّافِعيَّةِ [1781] يُنظر: ((الإحكام)) (2/329)، ((منتهى السول في علم الأصول)) (ص:149) كلاهما للآمدي. ، والحَنابِلةِ [1782] يُنظر: ((التمهيد)) للكلوذاني (2/116)، ((أصول الفقه)) لابن مفلح (3/966)، ((التذكرة)) للمقدسي (ص:344)، ((المختصر)) لابن اللحام (ص:123). ، وهو مَذهَبُ أكثَرِ الأُصوليِّينَ مِن أصحابِ الأئِمَّةِ الأربَعةِ وغَيرِهم [1783] يُنظر: ((البحر المحيط)) للزركشي (4/512)، ((الفوائد السنية)) للبرماوي (4/1622). ، واختارَه مِنهمُ القاضي أبو يَعلى [1784] يُنظر: ((العدة)) (2/573). ، والباجيُّ [1785] يُنظر: ((إحكام الفصول)) (1/273). ، والشِّيرازيُّ [1786] يُنظر: ((التبصرة)) (ص:247)، ((اللمع)) (ص:36)، ((شرح اللمع)) (1/379). ، والأبياريُّ [1787] يُنظر: ((التحقيق والبيان)) (2/399). ، وابنُ الحاجِبِ [1788] يُنظر: ((مختصر منتهى السول والأمل)) (2/842). .
الأدِلَّةُ:
1- الاستِدلالُ برَجمِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فهو يَدُلُّ على تَخصيصِ آيةِ الجَلدِ بالأبكارِ، والمُرادُ به تَخصيصُ عُمومِ قَولِ اللهِ تعالى: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ [النور: 2] برَجمِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لماعِزٍ، وتَركِه لجَلدِه [1789] عن أبي سَعيدٍ، أنَّ رَجُلًا مِن أسلَمَ يُقالُ له: ماعِزُ بنُ مالِكٍ، أتى رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: إنِّي أصَبتُ فاحِشةً، فأقِمْه عليَّ، فرَدَّه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِرارًا، قال: ثُمَّ سَألَ قَومَه، فقالوا: ما نَعلَمُ به بَأسًا، إلَّا أنَّه أصابَ شَيئًا يَرى أنَّه لا يُخرِجُه منه إلَّا أن يُقامَ فيه الحَدُّ، قال: فرَجَعَ إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فأمَرَنا أن نَرجُمَه... أخرجه مسلم (1694). وعن بُريدةَ بنِ الحُصَيبِ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: جاء ماعزُ بنُ مالكٍ إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: يا رسولَ اللهِ، طَهِّرْني. فقال: وَيْحَك! ارجِعْ فاستغفِرِ اللهَ وتُبْ إليه. قال: فرجَع غيرَ بعيدٍ، ثمَّ جاء فقال: يا رسولَ اللهِ، طَهِّرْني. فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ويحَك! ارجِعْ فاستغفِرِ اللهَ وتُبْ إليه. قال: فرجَع غيرَ بعيدٍ، ثمَّ جاء فقال: يا رسولَ اللهِ، طَهِّرْني، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِثلَ ذلك، حتَّى إذا كانت الرَّابعةُ قال له رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: فيمَ أُطَهِّرُك؟ فقال: من الزِّنا. فسأل رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أبه جُنونٌ؟ فأُخبِرَ أنَّه ليس بمجنونٍ. فقال: أشرِبَ خمرًا؟ فقام رجلٌ فاستَنْكَهَه، فلم يجِدْ منه ريحَ خَمرٍ. قال: فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أزَنَيتَ؟ فقال: نعَمْ. فأمَرَ به فرُجِمَ... أخرجه مسلم (1695). .
وبَيانُه: أنَّ قَولَ اللهِ تعالى: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ عامٌّ في الثَّيِّبِ والبِكرِ، فلَمَّا رَجَمَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ماعِزًا، وتَركَ جَلدَه، دَلَّ ذلك على أنَّ الجَلدَ مُختَصٌّ بالبِكرِ دونَ الثَّيِّبِ، فكان هذا تخصيصًا للنَّصِّ العامِّ بفِعلِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، أو بمَعنى فِعلِه، وهو تَركُ الجَلدِ [1790] يُنظر: ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (2/570)، ((البحر المحيط)) للزركشي (4/516). .
2- عُمومُ قَولِ اللهِ تعالى: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب: 21] ، وعُمومُ قَولِ اللهِ تعالى: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [الأعراف: 158] .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ اللَّهَ تعالى أمَر باتِّباعِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، والِاقتِداءِ به، فوجَبَ أن يُقتَدى به في فِعلِه، وبتَركِ العُمومِ به [1791] يُنظر: ((شرح اللمع)) للشيرازي (1/379)، ((فواتح الرحموت)) للكنوي (1/370). .
3- أنَّ فِعلَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم دَليلٌ مَعمولٌ به، وهو أخَصُّ مِنَ اللَّفظِ، فكان مُقدَّمًا على اللَّفظِ العامِّ؛ فإنَّه مَتى تَقابَل دَليلانِ، وأحَدُ الدَّليلَينِ مُصَرِّحٌ بالحُكمِ، والآخَرُ قد تَناولَه تناوُلًا ظاهرًا، فالمُصَرِّحُ أَولى [1792] يُنظر: ((الوصول إلى الأصول)) لابن برهان (1/265). .
وذلك لأنَّ الفِعلَ أحَدُ نَوعَيِ البَيانِ، فجازَ تَخصيصُ العُمومِ به كالقَولِ، ولأنَّ الأدِلَّةَ ورَدَت للِاستِعمالِ، والتَّخصيصُ بالفِعلِ فيه جَمعٌ بَينَ الأدِلَّةِ واستِعمالٌ لها، وهو أَولى مِنِ استِعمالِ بَعضِها وتَركِ البَعضِ [1793] يُنظر: ((شرح اللمع)) للشيرازي (1/379)، ((مختصر منتهى السول والأمل)) لابن الحاجب (2/844). .
وقيلَ: لا يَجوزُ التَّخصيصُ بفِعلِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، بَل يَختَصُّ الفِعلُ به، ويَتَوجَّهُ القَولُ العامُّ إلى أُمَّتِه. وهو قَولُ بَعضِ الشَّافِعيَّةِ [1794] يُنظر: ((التبصرة)) للشيرازي (ص:247)، ((البحر المحيط)) للزركشي (4/513). ، والكَرخيِّ مِنَ الحَنَفيَّةِ [1795] يُنظر: ((مسائل الخلاف)) للصيمري (ص:70)، ((أصول السرخسي)) (2/89). .
وقيلَ بالتَّفصيلِ بَينَ ألَّا يَظهَرَ كَونُ الفِعلِ مِن خَصائِصِه، فيُخصُّ به العُمومُ، فإنِ اشتَهَرَ كَونُه مِن خَصائِصِه فلا يُخَصُّ به العُمومُ، قال إلكِيَا الطَّبَريُّ: إنَّه الأصَحُّ. قال: ولهذا حَمل الشَّافِعيُّ تَزويجَ مَيمونةَ، وهو مُحرِمٌ [1796] عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما: أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم تَزَوَّجَ مَيمونةَ وهو مُحرِمٌ. أخرجه البخاري (1837)، ومسلم (1410). على أنَّه كان مِن خَصائِصِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم [1797] يُنظر: ((البحر المحيط)) للزركشي (4/513). .
وقيلَ: بالتَّوقُّفِ. وهو اختيارُ الآمِديِّ [1798] يُنظر: ((الإحكام)) (2/330). .
أمثِلةٌ تَطبيقيَّةٌ للمَسألةِ:
تَظهَرُ ثَمَرةُ الخِلافِ في هذه المَسألةِ في بَعضِ الفُروعِ الفِقهيَّةِ، ومِنها:
نَهيُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عنِ استِقبالِ القِبلةِ واستِدبارِها عِندَ قَضاءِ الحاجةِ، ثُمَّ ثَبَتَ أنَّه فعَلَ ذلك.
فقال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إذا أتَيتُمُ الغائِطَ فلا تَستَقبِلوا القِبلةَ، ولا تَستَدبِروها ببَولٍ ولا غائِطٍ، ولَكِن شَرِّقوا أو غَرِّبوا)) [1799] أخرجه البخاري (144)، ومسلم (264) واللَّفظُ له من حديثِ أبي أيُّوبَ الأنصاريِّ رَضِيَ اللهُ عنه. .
وعن عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما أنَّه قال: ((لَقدِ ارتَقَيتُ يَومًا على ظَهرِ بَيتٍ لَنا، فرَأيتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على لَبِنَتَينِ، مُستقبِلًا بَيتَ المَقدِسِ لحاجَتِه)) [1800] أخرجه البخاري (145) واللَّفظُ له، ومسلم (266) من حديثِ عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما. .
وما رَآه ابنُ عُمَرَ كان في المَدينةِ، فيَكونُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حينَئِذٍ مُستَدبِرًا للقِبلةِ.
فخُصَّ النَّهيُ العامُّ بمَن كان في الفضاءِ دونَ مَن كان في البُنيانِ [1801] يُنظر: ((العدة)) لأبي يعلى (2/575)، ((بيان المختصر)) لشمس الدين الأصفهاني (2/328)، ((شرح الكوكب المنير)) لابن النجار (3/372)، ((رفع النقاب)) للشوشاوي (1/476). .

انظر أيضا: