الفرعُ الرَّابِعُ: التَّخصيصُ بالمَفهومِ
يَنقَسِمُ المَفهومُ إلى قِسمَينِ: مَفهومُ الموافَقةِ، ومَفهومُ المُخالَفةِ
أوَّلًا: تَخصيصُ العُمومِ بمَفهومِ الموافَقةِمَفهومُ الموافقةِ -وهو دَلالةُ اللَّفظِ على ثُبوتِ حُكمِ المَنطوقِ به للمَسكوتِ عنه وموافقَتِه له- يُخَصِّصُ العُمومَ مِنَ الكِتابِ والسُّنَّةِ.
مِثالُه: لَو قال: "كُلُّ مَن دَخل داري فاضرِبْه"، ثُمَّ قال: "إن دَخَلَ زَيدٌ داري فلا تَقُلْ له أُفٍّ"؛ فإنَّ ذلك يَدُلُّ على تَحريمِ ضَربِ زيدٍ وإخراجِه عنِ العُمومِ؛ نَظَرًا إلى مَفهومِ الموافقةِ وما سيقَ له الكَلامُ مِن كَفِّ الأذى عن زَيدٍ، وسَواءٌ قيلَ: إنَّ تَحريمَ الضَّربِ مُستَفادٌ مِن دَلالةِ اللَّفظِ أو مِنَ القياسِ الجَليِّ
[1904] يُنظر: ((الإحكام)) للآمدي (2/328)، ((بيان المختصر)) لشمس الدين الأصفهاني (2/325). .
الأدِلَّةُ:1- اتِّفاقُ الأُصوليِّينَ على ذلك.
ومِمَّن نَقَلَ الاتِّفاقَ: الآمِديُّ
[1905] قال: (لا نَعرِفُ خِلافًا بَينَ القائِلينَ بالعُمومِ والمَفهومِ، أنَّه يَجوزُ تَخصيصُ العُمومِ بالمَفهومِ، وسَواءٌ كان مِن قَبيلِ مَفهومِ الموافقةِ أو مِن قَبيلِ مَفهومِ المُخالَفةِ). ((الإحكام)) للآمدي (2/328). ويُنظر: ((رفع الحاجب)) لابن السبكي (3/336)، ((البحر المحيط)) للزركشي (4/505). ، وصَفيُّ الدِّينِ الهِنديُّ
[1906] قال: (لا يُستَرابُ في جَوازِ التَّخصيصِ بمَفهومِ الموافَقةِ، سَواءٌ قيلَ: إنَّ دَلالَتَه لَفظيَّةٌ أو مَعنَويَّةٌ). ((نهاية الوصول)) (4/1678). .
2- أنَّ مَفهومَ الموافَقةِ دَليلٌ شَرعيٌّ، وهو خاصٌّ في مَورِدِه، والعامُّ دَليلٌ شَرعيٌّ، فإذا تَعارَضَ الدَّليلانِ فإنَّا نَعمَلُ بالخاصِّ؛ جَمعًا بَينَ الدَّليلَينِ، ولا يَخفى أنَّ الجَمعَ بَينَ الدَّليلَينِ ولَو مِن وَجهٍ: أَولى مِنَ العَمَلِ بظاهرِ أحَدِهما وإبطالِ أصلِ الآخَرِ؛ لأنَّ فيه إهمالًا لدَليلٍ قد ثَبَتَ
[1907] يُنظر: ((الإحكام)) للآمدي (2/328)، ((الإبهاج)) لابن السبكي ووالده (4/1495). .
3- أنَّ مَفهومَ الموافقةِ أقوى دَلالةً مِنَ المَنطوقِ على ثُبوتِ الحُكمِ؛ إذِ الحُكمُ فيه أَولى بالثُّبوتِ، ونَفيُه مَعَ ثُبوتِ حُكمِ المَنطوقِ يَعودُ نَقضًا على الغَرَضِ في الأكثَرِ، بخِلافِ نَفيِ الحُكمِ عن بَعضِ المَنطوقِ وإثباتِه في البَعضِ
[1908] يُنظر: ((نهاية الوصول)) لصفي الدين الهندي (4/1679)، ((تشنيف المسامع)) للزركشي (2/783). ؛ فمَثَلًا قَولُ اللهِ تعالى:
فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ [الإسراء: 23] الدَّلالةُ فيه على تَحريمِ ضَربِ الوالِدَينِ أقوى مِن دَلالةِ اللَّفظِ المَنطوقِ على تَحريمِ كَلِمةِ
أُفٍّ لهما؛ لأنَّ الإيذاءَ المَوجودَ في ضَربِ الوالِدَينِ أقوى مِنَ الإيذاءِ المَوجودِ في كَلِمةِ
أُفٍّ، فكان التَّحريمُ فيه أَولى. ولَو قدَّرنا نَفيَ التَّحريمِ في ضَربِ الوالِدَينِ مَعَ ثُبوتِ التَّحريمِ لكَلِمةِ
أُفٍّ لَكان نَقضًا للغَرَضِ الذي هو تَحريمُ إيذاءِ الوالِدَينِ.
أمثِلةٌ تَطبيقيَّةٌ للمَسألةِ:تَخصيصُ قَولِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((ليُّ الواجِدِ ظُلمٌ يُحِلُّ عِرضَه وعُقوبَتَه)) [1909] أخرجه البخاريُّ معلَّقًا بصيغة التَّمريض قَبل حَديث (2401)، وأخرجه موصولًا أبو داود (3628)، والنسائي (4689) باختِلافٍ يَسيرٍ من حديثِ الشَّريدِ بنِ سُوَيدٍ الثَّقَفيِّ رَضِيَ اللهُ عنه، ولَفظُ أبو داوُد والنسائي: ((لَيُّ الواجِدِ يُحِلُّ عِرضَه وعُقوبَتَه)). صَحَّحه ابنُ حبان في ((صحيحه)) (5089)، وابن المُلَقِّنِ في ((البدر المنير)) (6/656)، والشوكاني في ((الفتح الرباني)) (3/1174). ، واللَّيُّ: المَطْلُ، والمُرادُ بحِلِّ عِرضِه: أن يَقولَ غَريمُه: ظَلَمَني، وعُقوبَتُه: الحَبسُ.
وقد خُصَّ منه الوالِدانِ بمَفهومِ الموافقةِ في قَولِ اللهِ تعالى:
فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ [الإسراء: 23] ، فمَفهومُه: أنَّه لا يُؤذيهما بحَبسٍ ولا غَيرِه؛ فلذلك لا يُحبَسُ الوالِدُ بدَينِ ولَدِه، بَل ليس له مُطالَبَتُه به عِندَ أكثَرِ العُلَماءِ
[1910] يُنظر: ((شرح الكوكب المنير)) لابن النجار (3/366)، ((مذكرة أصول الفقه)) لمحمد الأمين الشنقيطي (ص:346). .
ثانيًا: تَخصيصُ العُمومِ بمَفهومِ المُخالَفةِاختَلَف الأُصوليُّونَ في مَفهومِ المُخالَفةِ، وهو دَلالةُ اللَّفظِ على ثُبوتِ حُكمٍ للمَسكوتِ عنه مُخالِفٍ لِما دَلَّ عليه المَنطوقُ: هَل يُخَصِّصُ العامَّ مِنَ الكِتابِ والسُّنَّةِ أو لا، والرَّاجِحُ: أنَّ مَفهومَ المُخالَفةِ يُخَصِّصُ العامَّ مِنَ الكِتابِ والسُّنَّةِ، وهو مَنقولٌ عنِ الشَّافِعيِّ
[1911] يُنظر: ((قواطع الأدلة)) للسمعاني (1/184)، ((رفع الحاجب)) لابن السبكي (3/337). ، وأحمَدَ
[1912] يُنظر: ((المسودة)) لآل تيمية (ص: 127)، ((أصول الفقه)) لابن مفلح (3/961). ، وهو مَذهَبُ جُمهورِ المالِكيَّةِ
[1913] يُنظر: ((مفتاح الوصول)) للتلمساني (ص: 537). ، والشَّافِعيَّةِ
[1914] يُنظر: ((قواطع الأدلة)) للسمعاني (1/192)، ((الإحكام)) للآمدي (2/328). ، والحَنابِلةِ
[1915] يُنظر: ((أصول الفقه)) لابن مفلح (3/961)، ((شرح الكوكب المنير)) لابن النجار (3/367). .
الأدِلَّةُ:1- أنَّ مَفهومَ المُخالَفةِ خارِجٌ مخرَجَ النُّطقِ، ومَعناه مَعنى النُّطقِ في بابِ الاحتِجاجِ به، وقد ثَبَتَ جَوازُ التَّخصيصِ بالنُّطقِ، فكذلك بما هو جارٍ مَجراه
[1916] يُنظر: ((العدة)) لأبي يعلى (2/579)، ((قواطع الأدلة)) للسمعاني (1/192). .
2- أنَّ مَفهومَ المُخالَفةِ دَليلٌ شَرعيٌّ، وهو خاصٌّ في مَورِدِه، والعامُّ دَليلٌ شَرعيٌّ، فإذا تَعارَضَ الدَّليلانِ فإنَّا نَعمَلُ بالخاصِّ؛ جَمعًا بَينَ الدَّليلَينِ؛ إذِ الجَمعُ بَينَ الدَّليلَينِ ولَو مِن وَجهٍ: أَولى مِنَ العَمَلِ بظاهرِ أحَدِهما وإبطالِ أصلِ الآخَرِ؛ لأنَّ فيه إهمالًا لدَليلٍ قد ثَبَتَ
[1917] يُنظر: ((الإحكام)) للآمدي (2/328)، ((بيان المختصر)) لشمس الدين الأصفهاني (2/326)، ((شرح العضد)) (3/79). .
وقيلَ: إنَّ مَفهومَ المُخالَفةِ لا يُخَصِّصُ العامَّ مِنَ الكِتابِ والسُّنَّةِ. وهو مَذهَبُ بَعضِ المالِكيَّةِ كالباقِلَّانيِّ
[1918] يُنظر: ((التقريب والإرشاد)) (3/256). والقَرافيِّ
[1919] يُنظر: ((نفائس الأصول)) (5/2111)، ((شرح تنقيح الفصول)) (ص: 267). ، وبَعضِ الشَّافِعيَّةِ كابنِ سُرَيجٍ
[1920] يُنظر: ((البحر المحيط)) للزركشي (4/505)، ((الإمام أبو العباس بن سريج المتوفي سنة 306هـ وآراؤه الأصولية)) للجبوري (ص: 166). والرَّازيِّ
[1921] يُنظر: ((المنتخب)) (ص: 306). ، وبَعضِ الحَنابِلةِ
[1922] يُنظر: ((المختصر)) لابن اللحام (ص: 123)، ((شرح مختصر أصول الفقه)) للجراعي (2/585). . وقال السَّمعانيُّ: (هو قَولُ أكثَرِ أهلِ العِراقِ؛ لأنَّ عِندَهم أنَّه ليس بدَليلٍ)
[1923] ((قواطع الأدلة)) (1/192). ويُنظر: ((رفع النقاب)) للشوشاوي (3/320). .
أمثِلةٌ تَطبيقيَّةٌ للمَسألةِ:يَتَخَرَّجُ على هذه المَسألةِ بَعضُ الفُروعِ الفِقهيَّةِ، منها:
1- أنَّ مَفهومَ الحَديثِ النَّبَويِّ بأنَّ في سائِمةِ الغَنَمِ زَكاةً
[1924] عن أنَسِ بنِ مالِكٍ رَضِيَ اللهُ عنه: أنَّ أبا بَكرٍ رَضِيَ اللهُ عنه كَتَبَ له هذا الكِتابَ لَمَّا وجَّهَه إلى البَحرَينِ: (بسمِ اللهِ الرَّحمَنِ الرَّحيمِ، هذه فريضةُ الصَّدَقةِ التي فرَضَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على المُسلِمينَ، والتي أمَرَ اللهُ بها رَسولَه، فمَن سُئِلَها مِنَ المُسلِمينَ على وَجهِها فليُعطِها، ومَن سُئِلَ فوقَها فلا يُعطِ:... وفي صَدَقةِ الغَنَمِ في سائِمَتِها إذا كانت أربَعينَ إلى عِشرينَ ومِئةٍ: شاةٌ...). أخرجه البخاري (1454). يُخَصِّصُ عُمومَ قَولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((في أربَعينَ شاةً: شاةٌ)) [1925] أخرجه مِن طُرُقٍ: أبو داود (1570)، وابن ماجه (1805) واللَّفظُ له من حديثِ سالِم بنِ عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ. صَحَّحه الحاكِمُ في ((المستدرك)) (1444)، والألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)) (1805). ؛ فإنَّه يَكونُ مُخَصِّصًا للعُمومِ بإخراجِ مَعلوفةِ الغَنَمِ عن وُجوبِ الزَّكاةِ بمَفهومِه
[1926] يُنظر: ((الإحكام)) للآمدي (2/328)، ((بيان المختصر)) لشمس الدين الأصفهاني (2/326)، ((شرح العضد)) (3/79)، ((رفع الحاجب)) لابن السبكي (3/335). .
2- أنَّ قَولَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((إذا بَلَغَ الماءُ قُلَّتَينِ لَم يَحمِلِ الخَبَثَ)) [1927] أخرجه أبو داود (63)، والترمذي (67)، والدارقطني (1/18) واللَّفظُ له من حديثِ عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما. صَحَّحه ابنُ خزيمة في ((الصحيح)) (1/211)، وعبد الحق الإشبيلي في ((الأحكام الوسطى)) (1/154)، والنووي في ((خلاصة الأحكام)) (1/66)، وابن الملقن في ((البدر المنير)) (1/404)، وقال الحاكم في ((المستدرك)) (459): صَحَّ وثَبَتَ بهذه الرِّوايةِ صِحَّةُ الحَديثِ. خَصَّ بمَفهومِه -وهو ما لَم يَبلُغْ قُلَّتَينِ- عُمومَ قَولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((الماءُ طَهورٌ لا يُنَجِّسُه شَيءٌ)) [1928] أخرجه أبو داود (66)، والترمذي (66)، والنسائي (326) من حديثِ أبي سَعيدٍ الخُدريِّ رَضِيَ اللهُ عنه. صَحَّحه الإمامُ أحمد كما في ((تهذيب الكمال)) للمزي (12/219)، ويحيى بن معين كما في ((خلاصة البدر المنير)) لابن الملقن (1/7)، والبغوي في ((شرح السنة)) (1/371)، والنووي في ((المجموع)) (1/82)، وابن الملقن في ((البدر المنير)) (1/381). ؛ فإنَّه أعَمُّ مِنَ القُلَّتَينِ؛ فيَكونُ تَنَجُّسُ القُلَّتَينِ في الحَديثِ الأوَّلِ مَخصوصًا بالتَّغييرِ، أي: تَغييرِهما بالنَّجاسةِ، ويَبقى ما دُونَهما فيَنَجُسُ بمُجَرَّدِ المُلاقاةِ في غَيرِ المَواضِع المُستَثناةِ بدَليلٍ آخَرَ
[1929] يُنظر: ((نهاية الوصول)) لصفي الدين الهندي (4/1679)، ((الإبهاج)) لابن السبكي ووالده (4/1495)، ((الفوائد السنية)) للبرماوي (4/1635). .