موسوعة أصول الفقه

الفرعُ السَّادِسُ: التَّخصيصُ بالحِسِّ


المُرادُ بالحِسِّ: الدَّليلُ المَأخوذُ مِن إحدى الحَواسِّ الخَمسِ، وهيَ: السَّمعُ، والبَصَرُ، والتَّذَوُّقُ، والشَّمُّ، واللَّمسُ. والمُرادُ بالتَّخصيصِ بالحِسِّ: أن يَرِدَ حُكمٌ في شَيءٍ عامٍّ، ونَحنُ نُشاهِدُ بَعضَ أفرادِه خارِجًا مِن ذلك الحُكمِ؛ فإنَّ هذه الحَواسَّ تُفيدُ أنَّ بَعضَ أفرادِ العُمومِ غَيرُ مُندَرِجٍ في حُكمِه، كقَولِ اللهِ تعالى: تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا [الأحقاف: 25] ؛ فإنَّ البَصَرَ شاهدٌ أنَّها لَم تُدَمِّرِ الأرضَ والجِبالَ والسَّماواتِ والبِحارَ وغَيرَ ذلك، وأنَّ هذا الحُكمَ لا يَتَناولُ هذه الصُّورَ في حالةٍ مِنَ الحالاتِ، غَيرَ أنَّه لا بُدَّ مَعَ الحِسِّ مِن نَظَرٍ عَقليٍّ يَجمَعُ بَينَ العُمومِ وما شوهِدَ بالحِسِّ، أمَّا الحِسُّ وَحدَه فليس كافيًا إلَّا في المُشاهَدةِ، أمَّا في حُصولِ التَّخصيصِ فلا؛ ولذلك نَرى أنَّ البَهيمةَ تُشاهِدُ بَقاءَ هذه الأُمورِ ولا تَقضي بالتَّخصيصِ؛ لعَدَمِ العَقلِ مِن جِهَتِها، وكذلك ما يُدرِكُه الشَّمُّ مِنَ الرَّوائِحِ في تلك الحالةِ، أو يُدرِكُه اللَّمسُ، أو يُدرِكُه اللِّسانُ مِنَ الطُّعومِ، بَل تَكونُ هذه الأُمورُ مَعَ النَّظَرِ العَقليِّ مُخَصِّصاتٍ لهذه المُدرَكاتِ [1944] يُنظر: ((العقد المنظوم)) للقرافي (2/293)، ((الفوائد السنية)) للبرماوي (4/1602)، ((الدرر اللوامع)) للكوراني (2/363)، ((إرشاد الفحول)) للشوكاني (1/385). .
وقد أجمَعَ الأُصوليُّونَ على جَوازِ التَّخصيصِ بالحِسِّ [1945] يُنظر: ((المهذب)) لعبد الكريم النملة (4/1601). وقال الزَّركَشيُّ: (التَّخصيصُ بالحِسِّ لا نَعلَمُ فيه خِلافًا). ((تشنيف المسامع)) (2/772). .
والدَّليلُ على ذلك: الوُقوعُ، وأمثالُه كَثيرةٌ، والمُخَصِّصُ في الكُلِّ هو الحِسُّ؛ إذ به عُلِمَ خُروجُ هذه الأشياءِ عنِ الإرادةِ، ولَولاه لَما عُلِمَ ذلك [1946] يُنظر: ((نهاية الوصول)) لصفي الدين الهندي (4/1610). ، ومِن ذلك:
1- قَولُ اللهِ تعالى: تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا [الأحقاف: 25] فإنَّ البَصَرَ شاهدٌ أنَّها لَم تُدَمِّرِ الأرضَ والجِبالَ والسَّماواتِ والبِحارَ وغَيرَ ذلك، وأنَّ هذا الحُكمَ لا يَتَناولُ هذه الصُّورَ [1947] يُنظر: ((العقد المنظوم)) للقرافي (2/293)، ((الفوائد السنية)) للبرماوي (4/1602)، ((رفع النقاب)) للشوشاوي (1/484). .
قال الشَّاطِبيُّ: (لَم يُقصَدْ به أنَّها تُدَمِّرُ السَّمَواتِ والأرضَ والجِبالَ، ولا المياهَ ولا غَيرَها مِمَّا هو في مَعناها، وإنَّما المَقصودُ تُدَمِّرُ كُلَّ شَيءٍ مَرَّت عليه مِمَّا شَأنُها أن تُؤَثِّرَ فيه على الجُملةِ؛ ولذلك قال: فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ) [1948] ((الموافقات)) (4/21). .
2- قَولُ اللهِ تعالى: مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ [الذاريات: 42]، وقد أتَت على الأرضِ والجِبالِ ولَم تَجعَلْها رَميمًا بدَلالةِ الحِسِّ، فكان الحِسُّ هو الدَّالَّ على أنَّ ما خَرَجَ عن عُمومِ اللَّفظِ لَم يَكُنْ مُرادًا للمُتَكَلِّمِ؛ فكان مُخَصِّصًا [1949] يُنظر: ((الإحكام)) للآمدي (2/317)، ((نهاية الوصول)) لصفي الدين الهندي (4/1610)، ((الإبهاج)) لابن السبكي ووالده (4/1459). وقد يُعتَرَضُ على الأمثِلةِ المَذكورةِ بأنَّها مِنَ العامِّ الذي أُريدَ به الخُصوصُ. وأنَّ ما خَرَجَ بالحِسِّ لَم يَدخُلْ أصلًا. يُنظر: ((الفوائد السنية)) للبرماوي (4/ 138)، ((الأصول من علم الأصول)) لابن عثيمين (ص: 41)، ((معالم أصول الفقه)) للجيزاني (ص: 423). .

انظر أيضا: