موسوعة أصول الفقه

تَمهيدٌ في التَّعريفِ بحُروفِ المَعاني


يُطلَقُ الحَرفُ على الحَرفِ المَكتوبِ مِن حُروفِ المُعجَمِ، كما يُطلَقُ على الكَلِمةِ التَّامَّةِ، ومِنه قَولُهم: ما فَهِمتُ هذا الحَرفَ مِن كَلامِه، وما أصابَ فُلانٌ في حَرفٍ مِن كَلامِه، يُريدونَ في كَلِمةٍ مِنه.
فأمَّا الحَرفُ اللُّغَويُّ الذي يَعتَني أهلُ اللُّغةِ والأُصولِ ببَيانِ مَعانيه وأحكامِه فهو: اللَّفظُ المُتَّصِلُ بالأسماءِ والأفعالِ وكُلِّ جُملةٍ مِنَ القَولِ، والدَّاخِلُ عليها لتَغييرِ مَعانيها وفوائِدِها، نَحوُ (في) و (مِن) و(إلى)، فالإضافةُ في قَولِنا: "حُروفُ المَعاني" بمَعنى اللَّامِ، أي: الحُروفُ التي تَأتي للمَعاني، كالتَّرتيبِ، والتَّراخي، وغَيرِ ذلك [2464] يُنظر: ((التقريب والإرشاد)) للباقلاني (1/409)، ((المنخول)) للغزالي (ص: 144)، ((الواضح)) لابن عقيل (1/109)، ((الكافي)) للسغناقي (2/861). .
وهذا البابُ وإن كان مِن أبوابِ النَّحوِ إلَّا أنَّه لاشتِدادِ الحاجةِ إليه مِن جِهةِ تَوقُّفِ شَطرٍ مِن مَسائِلِ الفِقهِ عليه، قد ذَكَره الأُصوليُّونَ لصِلةِ هذه الحُروفِ بالِاجتِهادِ لاستِنباطِ الحُكمِ بواسِطَتِها لمَعرِفةِ الأحكامِ الشَّرعيَّةِ [2465] يُنظر: ((اللمع)) للشيرازي (ص: 64)، ((قواطع الأدلة)) للسمعاني (1/36)، ((التلويح)) للتفتازاني (1/187)، ((البحر المحيط)) للزركشي (3/140)، ((الوجيز)) لمحمد الزحيلي (2/ 171). ، كما أنَّ مَعرِفةَ مَعاني هذه الحُروفِ يُزيلُ التَّعارُضَ الظَّاهريَّ الواقِعَ بَينَ بَعضِ الأدِلَّةِ، كما في قَولِ اللهِ تعالى: الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [النحل: 32] ؛ فإنَّ الآيةَ تَدُلُّ ظاهرًا على أنَّ دُخولَهمُ الجَنَّةَ بسَبَبِ أعمالِهم، وأتى في السُّنَّةِ ما يُعارِضُ هذا المَعنى؛ حَيثُ قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((لَن يُدخِلَ الجَنَّةَ أحَدًا عَمَلُه. قالوا: ولا أنتَ يا رَسولُ اللهِ؟! قال: ولا أنا، إلَّا أن يَتَغَمَّدَني اللهُ منه برَحمةٍ)) [2466] أخرجه البخاري (6467)، ومسلم (2818) واللَّفظُ له من حديثِ عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها. ، فجَمَع العُلَماءُ بَينَ الحَديثَينِ بحَملِ الباءِ في الآيةِ على المُقابَلةِ، وفي الحَديثِ على السَّبَبيَّةِ [2467] يُنظر: ((لباب التأويل)) للخازن (33/75)، (الجواهر الحسان)) للثعالبي (3/417)، ((السراج المنير)) للخطيب الشربيني (4/212)، ((فتح القدير)) للشوكاني (2/235). ومِنهم مَن يَسرُدُ هذه الحُروفَ، ومِنهم مَن يُقَسِّمُها إلى أقسامٍ: حُروفُ العَطفِ، وحُروفُ الجَرِّ، وأدَواتُ الظَّرفِ، وأدَواتُ الشَّرطِ، وأدَواتُ الاستِفهامِ. ويَبحَثونَ مَعَ حُروفِ المَعاني بَعضَ الظُّروفِ وكَلِماتِ الشَّرطِ -وهيَ أسماءٌ- تَشبيهًا للظُّروفِ والشُّروطِ بالحُروفِ في بناءِ المَعاني عليها، وعَدَمِ استِقلالِها في ذاتِها، ويَضَعونَها تَحتَ عُنوانِ: مَعاني الحُروفِ -مَعَ كَونِها أسماءً- مِن باب التَّجَوُّز والتَّغليبِ. يُنظر: ((الوجيز)) لمحمد الزحيلي (2/ 172). .
وتَسميَتُها حُروفَ المَعاني بناءً على أنَّ وضعَها لمَعانٍ تَتَمَيَّزُ بها مِن حُروفِ المَباني التي بُنِيَت الكَلِمةُ عليها ورُكِّبَت منها؛ فمَثَلًا الهَمزةُ المَفتوحةُ إذا قُصِدَ بها الاستِفهامُ أوِ النِّداءُ فهيَ مِن حُروفِ المَعاني، وإلَّا فهيَ مِن حُروفِ المَباني [2468] يُنظر: ((التلويح)) للتفتازاني (1/187). .
وتَنقَسِمُ حُروفُ المَعاني إلى ما هو على حَرفٍ واحِدٍ، كحَرفِ الواوِ والفاءِ، وعلى حَرفينِ، كحَرفِ (مِن) وحَرفِ (أو)، وما هو على أكثَرَ مِن ذلك، كَحَرف (إلى) [2469] يُنظر: ((البحر المحيط)) للزركشي (3/ 140). .
وسَنَقتَصِرُ مِن حُروفِ المَعاني على ما تَشتَدُّ الحاجةُ إلى بَيانِه مِمَّا له أثَرٌ فِقهيٌّ، وإلَّا فحُروفُ المَعاني كَثيرةٌ، ومِنها ما ليس لها أثَرٌ يُذكَرُ.
وسَنَعرِضُ لمَعاني الحُروفِ وَفقًا لِما ذَكَرَه الأُصوليُّونَ، والمَقصودُ الإشارةُ إلى أنَّ الخِلافَ في مَعاني بَعضِ الحُروفِ قد أحدَثَ خِلافًا في بَعضِ المَسائِلِ الفِقهيَّةِ.

انظر أيضا: