موسوعة أصول الفقه

المَسألةُ الثَّالثةُ: مَراتِبُ الحَرامِ


الحَرامُ ليس على مَرتَبةٍ واحِدةٍ، وإنَّما هو على دَرَجَتينِ: صَغائِرُ، وكبائِرُ [548] يُنظر: ((تقريب الوصول)) لابن جزي (ص: 170). .
والفَرقُ بينَهما يَحتاجُ إليه الفقيهُ والمُفتي عِندَ حُلولِ النَّوازِلِ في الفتاوى والأقضيةِ، واعتِبارِ حالِ الشُّهودِ في التَّجريحِ وعَدَمِه [549] يُنظر: ((الفروق)) للقرافي (1/121). .
فالذُّنوبُ مُنقَسِمةٌ إلى صَغائِرَ وكبائِرَ، وهذا مَعلومٌ مِن جِهةِ الكِتابِ، والسُّنَّةِ، والقَواعِدِ:
أمَّا الكتابُ: فقَولُ اللهِ تعالى: وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ ‌وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ [الحجرات: 7] فجَعَلَ الكُفرَ رُتبةً، والفُسوقَ رُتبةً ثانيةً، والعِصيانُ يَلي الفُسوقَ، وهو الصَّغائِرُ؛ فجَمَعَتِ الآيةُ بينَ الكُفرِ والكبائِرِ والصَّغائِرِ. وتُسَمَّى بَعضُ المَعاصي فِسقًا دونَ البَعضِ.
وأمَّا السُّنَّةُ: فقَد ذَكرَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الكبائِرَ -أو سُئِلَ عنِ الكبائِرِ- فقال: ((الشِّركُ باللهِ، وقَتلُ النَّفسِ، وعُقوقُ الوالِدَينِ، فقال: ألَّا أُنَبِّئُكُم بأكبَرِ الكبائِرِ؟ قال: قَولُ الزُّورِ -أو قال: شَهادةُ الزُّورِ)) [550] أخرجه البخاري (5977) واللفظ له، ومسلم (88) من حديثِ أنسِ بنِ مالكٍ رَضِيَ اللهُ عنه. ، فخَصَّ الكبائِرَ ببَعضِ الذُّنوبِ.
وكذا قَولُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((الصَّلَواتُ الخَمسُ، والجُمُعةُ إلى الجُمُعةِ، ورَمَضانُ إلى رَمَضانَ: مُكفِّراتٌ ما بينَهنَّ إذا اجتَنَبَ الكبائِرَ)) [551] أخرجه مسلم (233) من حديثِ أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه. .
وأمَّا القَواعِدُ: فلأنَّ ما عَظُمَت مَفسَدَتُه يَنبَغي أن يُسَمَّى كبيرةً؛ تَخصيصًا لَه باسمٍ يَخُصُّه، وعلى هذا القَولِ، الكبيرةُ: ما عَظُمَت مَفسَدَتُها، والصَّغيرةُ: ما قَلَّت مَفسَدَتُها.
فيَكونُ ضابطُ ما تُرَدُّ به الشَّهادةُ: أن يُحفَظَ ما ورَدَ في السُّنَّةِ أنَّه كبيرةٌ، فيُلحَقُ به ما في مَعناه، وما قَصَرَ عنه في المَفسَدةِ لا يَقدَحُ في الشَّهادةِ، فورَدَ عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه قال لَه رَجُلٌ: ((يا رَسولَ اللهِ، أيُّ الذَّنبِ أكبَرُ عِندَ اللهِ؟ قال: أن تَدعوَ للهِ نِدًّا وهو خَلَقك. قال: ثُمَّ أيٌّ؟ قال: أن تَقتُلَ ولَدَك مَخافةَ أن يَطعَمَ مَعَك. قال: ثُمَّ أيٌّ؟ قال: أن تُزانيَ حَليلةَ جارَك)) [552] أخرجه البخاري (6861)، ومسلم (86) واللفظ له من حديثِ عبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه. .
وقال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((اجتَنِبوا السَّبعَ الموبقاتِ. قيلَ: يا رَسولَ اللهِ، وما هنَّ؟ قال: الشِّركُ باللهِ، والسِّحرُ، وقَتلُ النَّفسِ التي حَرَّمَ اللهُ إلَّا بالحَقِّ، وأكلُ مالِ اليَتيمِ، وأكلُ الرِّبا، والتَّولِّي يَومَ الزَّحفِ، وقَذفُ المُحصَناتِ الغافِلاتِ المُؤمِناتِ)) [553] أخرجه البخاري (2766)، ومسلم (89) واللفظ له من حديثِ أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه. .
فكُلُّ ما نَصَّ اللهُ عليه أو رَسولُه عليه السَّلامُ وتَوعَّدَ عليه أو رَتَّبَ عليه حَدًّا أو عُقوبةً، فهو كبيرةٌ، ويَلحَقُ به ما في مَعناه مِمَّا ساواه في المَفسَدةِ.
وأمَّا ما قَصَرَ عن ذلك في المَفسَدةِ فهو صَغيرةٌ، وهي لا تَقدَحُ في العَدالةِ إلَّا أن يُصِرَّ عليها؛ فإنَّه لا كبيرةَ مَعَ استِغفارٍ، ولا صَغيرةَ مَعَ إصرارٍ [554] يُنظر: ((الفروق)) للقرافي (1/121). ويُنظر أيضًا: ((قواعد الأحكام)) للعز بن عبد السلام (1/23).. .

انظر أيضا: